الجزء الرابع

 والنار في مهجتي قد أحرقت كبدي من جور قوم ما لهم أنصاف قولك صحيح ما لنا عنده قيمة ولا كلام ونحن من الاشراف سبعة أقاليم ملك تبع حازها وعلى المدائن والقريات طاف والكرم والنخل والأثمار حاز الجميع من البلدان والأطراف روحي يا سعاد خلى ناقتك ترعى بين الروم ولست منة أخاف.

 

(قال الراوي) فلما انتهى جساس من شعرة ونظامه فرحت العجوز وانشرح صدرها فقبلت يده وخرجت من عنده وقالت لعبدها خذوا هذه الناقة واتركوها ترعى في البستان المعروف بحي كليب واجعلوها تهدم الحيطان وتقطع الاشجار وتأكل الاغصان واذا اعترضكم فاشتموه وسبوه واذا أقتضى الامر اقتتلوه ولا تخافوا سمعا وطاعة ثم أخذوا الناقة وساروا بها إلى ذلك المكان.

 

 (قال الراوي ) وكان هذا البستان كأنه روضة جنان كثير الاشجار والفواكه والاثمار وكان كليب قد اعتنى به حتى صار من احسن منتزهات الدنيا وكان لا يسمح لاحد ان يدخل اليه سواه وعيالة فقط فلما أخذت العبيد الناقة دخلوا بها بعد ان هدموا الحائط وصاروا يقلعوا الزهور ويكسروا أغصان الشجر وكانت الناقة تأكل العريس وأثمار الكرم وكان كليب قام حارسا يحرسه اسمة ياقوت فلما نظر الحارس تلك الفعال هجم على العبيد بالعصا وقال لهم اخرجوا يا كلاب من البستان قبل أن يحل بكم الهوان فشتموه وسبوه ثم ضربوه فهرب من بين أيديهم وجاء إلى كليب وأعلمة بواقعة الحال. فاغتاظ غيظا شديدا وجاء إلى ذلك المكان ومعه أربعة غلمان فرأى العبدين أحدهما جالس على سريرة أي الذي كان يجلس عليه وقت النزهة والآخر دائر مع الناقة بين الكروم والزهور وهو يسب الامير كليب ويشتمه فعند ذلك تراكضت غلمان كليب على العبيد لتقبض عليهما. فتركا الناقة وهربا فأحضرت الغلمان الناقة أمام كليب فأمر بذبحها فذبحوها وطرحوها خارج البستان وكانت عبيد العجوز تراقب عن بعد ما يجري على الناقة فلما شاهدوا ما كان م امرها رجعوا على الاعقاب وأعلموا مولاتهم بما جرى وكان وكيف أن غلمان كليب ذبحوا الناقة بأمر مولاهم وطرحوها خارج البستان فقالت الآن بلغت مرادي وأخذت ثأري من الاعادي ثم أمرت العبد أن يسلخ الناقة ويأتيها بجلدها فسر العبد وسلخها اليها وقامت من وقتها ووضعت التراب على راسها وشقت ثيابها مع بناتها وعبيدها وجواريها وأخذت جلد الناقة وسارت بها لعند الامير جساس فدخلت علية وهو في الديوان مع الاكابر والاعيان وصارت تندب وتبكي وألقت الجلد بين يديه فقال علامك أيتها العجوز وما الذي أصابك.

 

(قال الراوي ) فلما فرغت العجوز من كلامها استعظم جساس تلك القبضة وعصفت في راسه نخوة الجاهلية وقال للعجوز أذهبي بأمان فأنا أعرف شغلي فذهبت إلى خيامها واستبسرت ببلوغ مرامها،  ثم التفت الامير جساس إلى من حولة من الامراء وأكابر الناس: أنظروا ما فغلة ابن عمنا في حقنا وهو صهرنا فقد أهاننا بهذا العمل وأنا لابد لي أن أستعد لقناله في هذا اليوم فأما أن أقتل أو أبلغ الامل فقالت له أكابر العشيرة تمهل يا امير فانة لربما لا يعلم أنها ناقة نزيلك ومن الصواب أن ترسل له كتابا على سبيل العتاب وتطلب منة ثمن الناقة وتنظر ما يكون جوابه فان أرسل الثمن واعتذر كان خيرا وان أبى وامتنع فحينئذ تفعل ما تريد. فاستصوب جساس هذا الرأي وكتب إلى كليب يعلمه بذلك الحال ويطلب منة ثمن الناقة وأرسل الكتاب مع عبدة أبو يقظان فأخذ يقظان الكتاب وفي طريقه مر على تلك العجوز أخبرها بالقصة فترحبت به ولاطفته بالكلام وقدمت له الطعام ثم أخذت تسقيه المدام حتى سكر وغاب عن الصواب فعند ذلك فتشته في ثيابه حتى عثرت بذلك الكتاب فقراته فوجدته كتابا بسيطا خاليا من التهديد والوعد والوعيد وأضافت اليه كلاما مغيظا وهي هذه الابيات.

 

أمير كليب الأقارب أيا ابن العم لا تكبر علي فلازم أذبحك في حد سيفي وأنت شيبة حرمة أجنبية. ثم طوت الكتاب ووضعته في مكانة وقام العبد فنهض وركب جواده وصار حتى وصل ديوان الامير كليب ودخل عليه وقبل الارض بين يديه وناوله الكتاب فأخذه وقراه ولما وقف على معناه أغتاظ غيظا شديدا وأراد أن يقتل العبد ولكنه كان رجلا عاقلا موصوفا بالحلم والحزم فأطرق رأسه إلى الأرض وتفكر قليلا قال في سره لعل الامير جساس كتب لي هذا اكتاب وهو في حاله السكر غائب عن الصواب فمزق الورقة وأمر بضرب العبد فضرب وقال له اذهب يا ابن اللئام إلى عند مولاك بسلام والا سقيتك كأس الحمام فقام وهو أخر رمق وركب حصانه وسار إلى عند جساس وقال له انه بحال ما قرا الكتاب مزقه وأمر بضربي وقد شتمك وسبك وهذا الذي تم وجرى

.

 (قال الراوي) فلما سمع جساس هذا الكلام صار الضيا في عينيه كالظلام فنهض في الحال ودخل إلى خزانة السلاح ولبس ألة الحرب والكفاح وركب ظهر حصانه وأنحدف إلى صيوانه وصاح على أبطاله وأخواته وفرسانه فجاؤوا اليه وداروا حواليه فأعلمهم بواقعة الحال وما جرى بينه وبين كليب من النزاع والجدال وقال لهم استعدوا لقتال بني تغلب الانذال وأخذ يكلمهم بهذا الشعر والنظام:

 

يقول جساس نار القلب مشتعلة على الضمائر ي اقوم لها لهيب

يا قومنا اسمعوا قولي وأصغوا قول صحيح بلا تكذيب كليب

خلى كال أحوالنا عبر حكم البلاد مشارق ومغيب

وليس يحسب لنا قدر ومنزلة الكل عندهم غنم وهو بينهم ديب

ناقة نزيلي ذبحها ما خشى أحدا أجرى الدمها شبة الأنابيب

انت عجوز فألقت جلد ناقتها بعد ما بكت بدمع سكيب

تنهدت ثم قالت يا ولد مرة ابن عمك كليب عليك يعيب

هكذا كليب يفعل بنزيلك مالك قيمة عنده ولا ترحيب

فقلت لها اصبري يا عجوز علي فأنالك منة ثمنها أجيب

أرسلت له أبو اليقظان عندي بكتاب ما فيه أسا ولا تعذيب

شق الكتاب وأرمى العبد بضربه ومن كثرة الضرب ما أظنه يطيب

أترضون المذلة يا أهل قومي الذل لا يرضاه سوى كل معيب

 

(قال الراوي ) فلما فرغ جساس من شعره ونظامه وعرف قومه فحوى قصده ومرامه فما أحد طاوعه على هذا المرام وقالوا له عن فرد لسان بئس هذا الرأي وهل يجوز لنا يا أمير لأجل ناقة حقيرة تقاتل ابن عمنا الامير كليب ونرفع في وجهة السلاح بعد أن صاننا وحمانا بسيفه وقتل الملك تبع حسان واستولى على الاقاليم والبلدان وجعل لنا ذكرا عظيما في قبائل العربان على طول الزمان فان كان لك عليه دم أو ثأر فدونك واياه فلا تطلب منا مساعده ولا نجده فلما سمع كلامهم تركهم وقصد بيت العجوز ولما اجتمع بها قال لها لقد جئت اليك لأرضيك بالعطايا خوفا من ازدياد الشر ووقوع البلايا فاطلبي ثمن ناقتك لأعطيك اياه ولو كان مهما كان قالت بالنجوم اريد واحد من ثلاثة اشياء قال وما هي قالت اريد اما ان تملا جحري بالنجوم او تضع جلد الناقة على جثتها لتقوم او راس كليب بالدماء يعوم فقال لها ملئ حجرك بالنجوم او ان الناقة تعيش وتقوم فهذا لا يقدر عليه الا الحي القيوم أما راس كليب فابشري به؛   ثم قوم السنان وأطلق العنان وقصد حي بني قيس فقالت العجوز لعبدها سعد خذ هذا السكين والمنديل الابيض واتبع جساس من وراءه فاذا رايته قتل كليب فأسرع أذن والطخ هذا المنديل من دمه فمتى فعلت ذلك فاني أطلقك لوجه الله تعالى فامتثل أمرها وتبع أثار جساس.

 

 اما جساس فلم يزل سائرا حتى وصل إلى قصر كليب وسأل عنه فقالت له أخته الجليله قد ركب الآن وهو يطبع مهره في وادي الحصا والجندل فقصده حتى التقى به وهو يطبع مهره وكان كليب بدون سلاح ولم يكن معه سوى خيزرانه فقط وكان كليب دائر ظهره الجساس لأنه كان من عادته دائما انه لا يلتفت في الحرب إلى أقل من مائة فارس فأراد جساس ان يغدره من قفاه فما طاوعته يده على ذلك مهابة ووقارا فلما وصل وسلم عليه فرد عليه السلام فراه متسربل بالسلاح فاستعظم كليب الامر وقال علامك يا ابن عمي أراك بالسلاح الكامل،  قال مرادي الصيد والقنص لكنني لما التقيت بك أعرجت اليك لأسألك سؤالا واحد واعاتبك على ما فعلت فهل كان لك بساتين وكروم ونحن ما لنا شيء؟  أتت عندنا عجوز شاعره مع بعل لها أعمى ورعت ناقتها في بستانك على تجاهنا فكيف تقتلها أما عندك قيمه ولا اعتبار بهذا المقدار فضرب كليب كفا على كف من شدة الأسف.

 

 وقال والله يا ابن عمي ما عرفت أنها ناقة نزيلتك ثم ذكر عن سوء ادب الرعيان وما فعلوا من الضرر في البستان ومع كل ذلك فاني أعوض واعطيها أربع مائة ناقة واذا ارادت أكثر فأعطيها ولا يكون ذلك سببا للنزاع والخصام بيننا فأننا أولاد أعمام وأصهار فقال جساس على سبيل الخداع أني سأرضيها وهو قاصد قتله ثم قال له مرادي أن ألعب معك سابقين بالجريدة فقال كليب يا جساس أنت راكب ظهر القسيرة وأنا راكب مهر جاهل فقال أنا أسوق أمامك والمهر يسبق الفرس فساق جساس الفرس فتبعه كليب حتى حكمت تحت يمينه وضربه فأصابت ظهره فقلبته عن ظهر الفرس فانحدر الدم من فمه ومن اخره،  فقال كليب قم يا ابن العم فأن كنت لا تريد أن تلعب غير هذه الجريدة فاصرع واضربني بها فينتهي الحال ثم نزل كليب عن ظهر المهر ومشى أمامه أما جساس فانه قد تألم بهذا القدر حتى أنه لم يعد تمكنه القيام واذا بعبد العجوز أقبل اليه وجذبه من يده فأوقعه وقال والله انك من أحقر الرجال ثم أعلمه بحال وكيف العجوز أرسلته لأجل تلك القضية ، فتحمس جساس ونهض ومسك له العبد الركاب فركب ثم تقدم نحو كليب وهز في يده الرمح وطعنه في صدره خرج يلمع من ظهره فوقع على الارض يختبط بدمه فبكى كليب ملء عينيه ودمعه يسبل على خديه فلما راه جساس على تلك الحال ندم وتأسف على ما فعل فتقدم اليه وقبله في لحيته وعارضيه وضمه إلى صدره ووضع رأسه على ركبتيه وقال سلامتك يا ابن اعمي يا أبا اليمامة فقد حلت بي الندامة فوالله أني فعلت ذلك بدون عقل ولا تميز فسامحني على هذا الارتكاب القبيح.  فأجابه كليب على حلاوة الروح وقال هذا حكم الاله المتعال ما كان أملي منك أن تباديني بهذه الفعال وتشمت في الاعداء والانذال وتفرق بيني وبين اليتامى والاطفال وما بكائي على مال ولا نوال وانما بكائي على اليتامى ولكن لهم رب لا يغفل ولا ينام وابكي على غدرك فانك قتلتني بالغدر والعدوان ولست من أقرني في الميدان ولا في ملتقى الفرسان ولكن سيجازيك العادل الديان وسوف ترى ما يحال بك من الهون ولا أظن بأنه يصفي لك الزمان بعد الآن فقم واذهب إلى الخيام وأقرى الايتام مني جزيل السلام ولكن اسقني قبل رواحك شربة ماء لان قلبي قد احترق من الظمأ وأشار بهذه القصيدة يقول:

 

يقول كليب اسمع يا ابن عمي أي اجساس قد أهرقت دمي

أيا غدار تطعني برمح ولست انت في الميدان خصمي

واشمت الاحاسد والاعادي وباتت اخوتي تبكي وامي

 

(قال الراوي ) فلما فرغ كليب من شعره ونظامه فخاف جساس وأصفر لونه وارتعش قلبه وقال والله يا ابن عمي لا يعرف الانسان ماذا مقدر عليه ثم انه رفع راسه عن ركبته واتى له بماء فأسقاه ثم ركب وتركه وخلاه وهو يركض ويلتفت وراءه قاصدا أهله وحماه وأما عبد العجوز فانه بعد ذهاب جساس تقدم ليذبح كليب حسب ما أمرته العجوز فلما أقترب منه وجده يجود بنفسه وهو على أخر رمق فتأمل فيه العبد فوجده ذات هيبه ووقار ووجهه يتلألأ بالأنوار فتأخر عنه وخاف منه فنظر اليه كليب ففاق من حلاوة الروح وقال له من أنت وما هو قصدك ومرامك فاعلمني بحالك فقال له لا أخفي عنك أنا عبد التبع اليماني فلما قتلته أنت حضرت أخته سعاد العجوز الساحرة إلى هذه البلاد لتأخذ بثأره منك وتطفي لهيب نارها وهي التي القت الفتنه بينك وبين ابن عمك حتى قتلك وأرسلتني لأذبحك وأخذ لها أثر من دمك فقال كليب لقد صدقت فقد ذكر لي تبع هذا الكلام ونفذ قوله الآن بالتمام وهذا تقدير رب الانام فأريد منك يا عبد الخير قبل أن تذبحني تفعل معي هذا الجميل وهو أن ترميني بالقرب من هذه البلاطة القريبة من هذا الغدير لأكتب وصيتي إلى أخي سالم الزير واوصيه بأولادي ومهجة كبدي وبعد ذلك أفعل ما تريد فسحبه العبد إلى قرب البلاطة والرمح غارس فيه والدم يقطر من جبنه فبكى كليب وتفكر وهو يتأمل على ما أصابه ويتحسر ثم اخذ بيده عودا وغطه في الدم وانشد يقول :

 

هديت لك هديه يامهلهل عشر أبيات تفهمها الذكاه

أول بيت أقوله أستغفر الله أله العرش لا يعبد سواه

وثاني بيت أقول الملك لله بسط الأرض ورفع السماء

وثالث بيت وصي باليتامى واحفظ العهد ول اتنسى سواه

ورابع بيت أقول الله أكبر على الغدار لا تنسى أذاه

وخامس بيت جساس غدرني شوف الجرح يعطيك النباه

وسادس بيت قلت الزير أخي شديد البأس قهار العداه

وسابع بيت سالم كون رجال لآخذ الثأر لا تعطي وناه

وثامن بيت بالك لا تخلي لا شيخ كبير ولافتاه

وتاسع بيت بالك لا تصلح وأن صالحت شكوت للإله

وعاشر بيت أن خالفت قولي فأنا واياك إلى قاضي القضاة

 

ولما انتهى كليب من كلامه التفت إلى العبد وقال له افعل الان ما تريد فقال والله يا أمير ما تستحق الا كل خير وان يدي لا تطاوعني على ذبحك قال اذبحني لأنني في ألم شديد وعن قريب تأتي أخوتي وباقي الرجال والحريم فعند ذلك اخرج العبد السكين وانحنى عليه وذبحه من الوريد إلى الوريد ولوث المنديل بدمه ورجع إلى عند سيدته فأعلمها بقتل كليب وأراها دمه ففرحت فرحا شديدا وصبرت إلى الليل ثم حملت وسافرت بمن معها من تلك القبيلة سرا حتى لا يعلم بها أحد وقالت لقد أخذت الان ثأري وطفيت لهيب ناري هذا ما كان منها واما جساس فانه لما رمى كليب وولى هارب سار حتى وصل إلى قومه وهو في خوف عظيم أصفر اللون متغير الكون فقال أبوه مرة اين كنت قال كنت في البريه فالتقيت بابن عمي كليب فقتلته وزال همي وغمي فلما سمع مرة هذا الخبر تبدل صفو عيشه بالكدر وقبض على جساس من ذراعه كاد يخرج روحه من بين جنبيه وقال يا عديم الزمان ويا أخبث الانام اتقتل ابن عمك وهو من لحمك ودمك لأجل ناقه حقيرة وصاحبتها سائله فقيرة فماذا تقول العرب يا غدار اذا سمعت عنك هذه الاخبار فقد اجلبت علينا الاذى والضرر وفضحتنا بين البشر ومازال يوبخه ويلطمه من خلف وقدام حتى جاءت أخوته اليه وخلصوه من بين يديه وهم يعنفوه ويسبوه ويشتموه ماعدا الامير همام فانه كان عند الزير في تلك الايام يتنادمان ويشربان المدام على بير السباع كما تقدم الكلام وليس عندهما خبر بهذه الامور والاحكام ثم التفت مرة على أولاده وقال لهم لقد حلت بنا المصائب من كل جانب فما الذي عاد يخلصنا من الزير ليث الوادي وقهار الاعادي فوالله ليقطع آثارنا ويعجل في دمارنا ثم أنه بعد هذا الكلام أشار يقول: :

 

يقول أمير مرة من قصيد بأن العار ما يمحوه ماح

جنيت اليوم يا جساس حربا علينا في المسا والصباح

وقدت النار في بكر وتغلب يعم لهيبها كل النواحي

أيا جساس تقتل ابن عمك كليب البرمكي ليث البطاح

أمير ما كان له مثيلا شديد البأس في يوم الكفاح

أيا جساس من قتل ابن عمه يبيت الليل يسهر للصباح

فسوف ترى بما جرى بنا اذا برز المهلهل للكفاح

فيسلب مالنا قهرا وغصبا بأطراف العوالي والصفاح

 

(قال الراوي) فلما فرغ من هذا النشيد أجابه جساس بهذا القصيد وعمر السامعين يطول:

 

تأهل مثل أهبه ذي الكفاح فان الامر زاد عن التلاحي

فأني ان جلبت عليك حربا فاني ليث حرب في الكفاح

فكيف عن الملام فلست أخشى بيوم الحرب من طعن الرماح

وأني حين تنشر العوالي أعيد الرمح في أثر الجراح

تعدت تغلب ظلم علينا بلا ذنب يعد ولا جناح

ومالي همه ايدا قصد سوى قتل العدى يوم الكفاح

 

( قال الراوي ) فلما فرغ جساس من كلامه قال أبوه سوف ترى ما يحل بنا من البلاء والويل من سيف المهلهل فارس الخيل ثم صار يبكي ويتأسف ويلطم كفا على كف ثم قال لأولاده الرأي عندي أن نكتف جساس ونرسله إلى الزير وأخوته ليقتلوه بثأر كليب وبهذه الوسيلة تزول الفتنه وتطفي النار وتزول الاحزان والاكدار فان المصيبة عظيمة وعاقبتها ذميمة وخيمه فقالت اولاده ما هذا الكلام يا ابانا فهل بعد كليب غير جساس يليق أن يكون ملكا فأن كنت تحسب جساب المهلهل فما هو الا كالأهبل وليس له داب الا اكل الكباب وشرب الشراب وقال مرة العياذ بالله من كيد الشيطان الرجيم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ثم قال لأولاده وان اخيكم همام له عند الزير مدة ايام فنخاف ان يعلم الزير بقتل اخيه فيقتله ولا يبقيه. .

 

( قال الراوي) وكان لهمام جاريه اسمها رباب فاستعاده مرة اليه وقال لها اقطعي البقاع وسيري إلى بير السباع واعلمي همام سرا بما جرى وتجدد قولي له ان يرجع بالعجل خوفا من ان يقتل فسارت الجارية حتى وصلت إلى هناك فوجدت الزير وهمام على سفرة الطعام وهما بالكلام ويشربان المدام ويتحدثان بالكلام فلما رآها همام وثب اليها وقال ما دهاك قالت سر طويل وحزن وعويل ثم أعلمته سرا بواقعة الحال وطلبت منه المسير إلى الاطلال فلما وقف على حقيقة الاحوال اعتراه الانذال وغاب عن الصواب وتبدل انشراحه بالحزن والاكتئاب فلما طال بينهما الحديث والخطاب خرج الزير من بين الاطناب كأنه اسد الغاب فوجدهما يتكلمان سرا ويميان عليه فعظم الامر لديه فسل الحسام وقال ما هو الخبر يا همام فاني اراكم في قلق واهتمام واشار يقول:

 

يقول الزير أبو ليلى المهلهل أحس النار في قلبي لهيب

فقلبي موجع والجسم ناحل ولا القى إلى جسمي طبيب

وشاب الراس مني والعوارض فاني صرت في حال عجيب

وافكر في الزمان وشؤم فعله وهذا الدهر يتقلب قليب

أيا همام الا يا ابن عمي فمالك خائف واقف رعيب

فما أبصر الحرمه تقول لك تناديك وانت لها تجيب

اراكم تكتموا الاسرار عني كأني بينكم رجل غريب

اراكم في حديث وفي وشاوش وبين ذا وذا امر عجيب

فلا تخل الامور من الحوادث يا همام أعلمني تصيب

والا افتحوا لي الباب حتى اروح عني بدا قلبي يطيب

 

(قال الراوي) فلما فرغ من شعره أجابه همام يقول:

 

يقول همام اسمع يا مهلهل فدمعي فوق الخدود سكيب

وناري بالحشا قد أحرقتني أحس لها طي الفؤاد لهيب

أقول أنت تسمع يا مهلهل بأنك صاحبي نعم الحبيب

فما نحن في وشاوش لا وانت بيننا رجل غريب

انا واياك في طرب ولهو ولا تحسب حسابات الحسيب

جعلنا يا فتى نيت جملكم جرى دمه على نحره سكيب

 

 

فلما سمع الزير هذا الشعر توقد قلبه بلهيب الجمر وأجابه يقول: :

 

يقول الزير يا همام اسمع ان ابن عمي لي نسيب

فما لك علم في وقتك كله ولا في القضية لك طليب

فقم اذهب إلى اهلك يا نسيبي بلا تطويل من قلب المعيب

فتأتي أخوتي ثم يقتلونك ويدعونك على الغبرا كثيب

فما أقدر أن أحميك منهم وانت محب أيا نعم الحبيب

فلو جينا ما عيش أكلنا وكاسات شربناه بطيب

لكنت أمد يدي تحت سيفي وآخذ ثار أخوي عن قريب

 

 

( قال الراوي ) فلما فرغ الزير من هذا الشعر والنظام قال لهمام انت من دون بني مرة نديمي وصديقي وزوج أختي ورفيقي ليس عندك علم بهذا المنكر فلا تخاف ولا تفزع فقال همام لقد جرى القلم يا ابن العم والذي مضى ما بقى يرجع فأما تقتلني عوض عن أخيك أو تأخذ منا ما يرضيك وترفع عن الحرب والقتال وتتركنا نبقى في الاطلال فو الله صعب على هذا الامر والتهب قلبي بنار الجمر لما سمعت بهذا الخبر المهول فلا كان جساس المهار.

 

 قال الزير وحق من يعرف الغيب وروح أخي كليب أني لا أرفع السيف عنكم حتى اشفي غليلي منكم ثم أقتلكم عن بكرة أبيكم وأهتك النساء والبنات وأجعلكم مثلا بين الناس ولو لم تكن زوج أختي وسميري ما كنت أعلمتك بما في ضميري بل كنت قتلتك في الحال وأورثتك النكال فسر الان إلى الاطلال ولا عدت تريني وجهك في الحرب والقتال فلما سمع همام ذلك الكلام ركب ظهر الحصان وأومأ إلى ابنه شيبان الذي كان معهما في ذلك المكان ان يسير معه إلى تلك الاوطان فامتنع عن المسير وقال سأبقى مع خالي الزير فسار همام وقد عظم عليه الامر وهو ينقض غبار الموت عن منكبيه حتى وصل إلى حلته واجتمع بأبيه وأخوته وأخذ يلوم جساس على فعله وكيف انه تجاسر على كليب وقتله وأعلم قومه بما عزم الزير فخاف الكبير والصغير وأيقنوا بالهلاك والتدبير واستعدوا من يومهم إلى الحرب والكفاح وجمعوا آلات الحرب والكفاح هذا ما كان على بني مرة.

 

 وأما الزير صاحب الشجاعة والقدرة فانه بعد ذهابه إلى الديار اشتعلت بقلبه لهيب النار واعتراه الاصفرار فصار يلطم وجهه في يده وقد عظم الامر عليه حتى رقصت شعرات شاربيه ومع ذلك لم تنزل من عينيه دمعه لانه كان من الجبابرة السبعة وكان يقول وحق رب العباد لابد ان افتك ببني بكر الاوغاد واقتل الشيوخ والاولاد ولما طال المطال وهو على هذا الحال قال له شيبان بن همام دع عنك هذا الكلام واشرب المدام فانك عاجز يا خال عن هذه الفعال فمن انت من الابطال حتى تتكلم بهذا المقال وتتباهى على الامراء واكابر الناس كأبي همام وعمي جساس ثم انشد وعمر السامعين يطول: انشد شيبان وقال

 

في بيوت ودمعي من عيني طال

خالي اسمع ما أقول وحط قولي وسط البال

خلي الهرج ووطئ النفس واترك عنك القيل وقال

تقول تكيد بني مرة وتقتل كل الابطال

غدا يا خالي هم يأتوك بخيل كثير ونعم رجال يظهر خيول

عليك تجول ودق طبول كما الزلزال

ونرج الارض بطول وعرض ترحوا قتلي بضرب صقال

يجيء جساس قوي الباس كذا العباس زكي الحال

ويأتي عمر بخيل ضمر وصفر ونمر وابو جفال

يجي ملك القوم كان بيوم الكون كسبع صال

وأخي شيبون بطل مجنون وابي همام ان جال ومال

وتأتي الشوس وكل عبوس يخلوا الروس تلال تلال

 

 

فلما انتهى شيبان من كلامه أجابه الزير على شعره ونظامه:

 

يقول الزير أواه يا ابن اختي عقلي زال

يولي غدا الفرسان تجيك يخوفني من أهل أنذال

أتاري انت عدو مبين كلامك ما خلالي حال

وانا العربيد بيوم نكيد للروس اكيد بطعن وعوال

اكيد الشوس اقطع الروس انا الجبار فغير محال

وبعد كليب لأبيع الروح اشلكم بالرمح شلال

وبعد كليب اخلي السيف طول العمر بكم عمال

وبعد كليب سياج البيض ما أعتق منكم رجال

وانت يا ابن اختي اليوم عدت بغير محال

وابوك أغدي سيفي فيه وأعشي الرمح من الابطال

 

( قال الراوي ) فلما فرغ الزير من انشاده نهض الغلام ليركب على جواده ويلحق بأبيه وأعمامه فضربه الزير بجامه القاه على الارض قتيل وفي دماه جديل ثم قطع عنقه ووضعه في مخلاه حصانه ولفها في قربوس السرج وتركها فسار الجواد حتى وصل إلى القبيلة وسار إلى بيت مولاه فلما رأت أم الولد جواد الغلام وهو في تلك الصفة قالت للجارية دونك جواد سيدك فتقدمت الجارية وأخذت المخلاة فوجدت فيها رأس شيبان فاستعظمت ذلك الشأن واعلمت بواقعة الحال فطار عقلها لما نظرت راس ابنها مقطوع فضجت بالبكاء والنواح والعويل والصياح فاجتمعت عليها نساء الحي من كل مكان ولما سمع همام الخبر طار من عينيه الشرر فبكى واشتكى وقال لزوجته ضباع نظرت ما فعل أخوك فو الله لم يبق لي غريم سواه فشقت ثيابها وسارت عند أخيها المهلهل ولامته على ما فعل وقالت اتقتل ابن أختك بثأر أخيك ثم أشارت تقول: تقول ضباع يا سالم علامك بجاه كليب ما سويت بابني بثأر كليب تقتل ابن أختك وتحرق مهجتي وتزيد حزني حزنت على كليب وما جرى له وحزني في صميم القلب مبني ولكن قد حكم ربي مراده وربي ما كتب لي يصيبني.

 

فأجابها الزير بهذه الابيات:

 

يقول الزير من قلب حريق بقتل كليب زاد اليوم حزني

الا يا أخت قلي من بكاك ولا تخشين من أمر يعبني

فو الله ثم والله ثم والله اله العرش منذ ادعو يجبني

فلا بد لي من حرب الاعادي وقتل كل جبار طلبني

 

 فلما فرغ الزير من كلامه قالت له الله درك يا سالم ي اقهار الاسود القشاعم لقد زالت لوعتي الان وخفت عني الاحزان لما سمعت شعرك يا فارس الفرسان وعرفت ما انت معول عليه من الحرب والطعن وأخذ الثأر وكشف العار ثم رجعت إلى الديار وهي في قلق وافتكار هذا ما كان من امره.

 

( قال الراوي ) ولما اشتهر موت كليب ووصل إلى ابنائه الخبر وعلمت بذلك جميع أهله وبناته فمزقوا الثياب واكثروا من البكاء والانتحاب فتهتكت لوجه الملاح ووقع في الحي العويل والصياح وكسرت الفرسان السيوف والرماح وخرجت بنت كليب من الخدور وهن مهتكات الستور نشرت الشعور حافيات الا الاقدام يقطعن السهول والاكام وقدامهن اختهن اليمامة وكان ذلك اليوم مثل يوم القيامة ولما وصلن اليه وجدن الطيور حائمات عليه فوقعن على جثته وقبلن يديه وارتمين حواليه ولما قرأنا ذلك الشعر الذي كتبه على الصخرة زادت احزانهن واخذن يلطمان على وجوههن ثم اقبلت اخوة كليب إلى ذلك المكان وازدحمت الرجال والنسوان والابطال والفرسان والسادات والاعيان يرثوه بالأشعار واجروا لهيب نارها سوء البطل الاوحد والسيف المهند والصحصاح الشهير الذي ليس له في ذلك العصر نظير عمها المهلهل الملقب بسالم الزير فسارت هي واختها اليها وتوقفت عليه فقالت والله يا عماه مكانك حزنان بما جرى علينا وكان من طوارق الزمان يقتل اخيك ملك العصر والاوان ثم القت نفسها غميانه في حجره وضعن على جثته وقبلن يديه وارتمين حواليه ولما قرأنا ذلك الشعر الذي كتبه على الصخرة* "~uينيه ويقول سلامتك يا أمير اليمامة  يا صاحب الجهة والكرامة فقد احرقت قلبي بفقدك فلا كان من عيش بعدك ولما اشتد عليه الامر ارته اليمامة وصية أخيه المكتوبة على الصخرة فقرأها وقال وحق الاله المتعال اني لا اصالح إلى الابد مادامت روحي في هذا الجسد ثم بكى وتنهد ورثاه بهذه القصيدة أم السادات واكبر العمد وهي من أجود مراثي العرب واحسن الاشعار أهل الفضل والادب :

 

كليب لا خير في الدنيا وما فيها ان انت خليتها لم يبقى واليها

فيها تنعي النعاة كليبا فقلت له مالت بنا الارض أم مالت رواسيها

ليت السماء على من تحتها وقعت حالت الارض فاندكت أهاليها

الناحر النوق للضيفان يطعمها والواهب الميتة الحمراء براعيها

الحلم والجود كانا من طبائعه ما كل اللطافة يا قوم تحصيها

ضجت منازل بالخلان قد درست تبكي كليب نهار مع لياليها

كليب اي فتى زين ومكرمة تقود خيلا إلى خيل تلاقيها

تكون اولها في حين كرتها وانت بالكر يوم الكر حاميها

غدرك جساس يا عزي ويا سند وليس جساس من يحسب تواليها

لا أصلح الله منا من يصالحهم حتى يصالح ذيب المعز راعيها

وتوالد البغلة الخضرا خوالجه وانت تحيا من الغبرا تاليها

ويحلب الشاة من اسنانها لبن وتسرع النوق لا ترعى مراعيها

 

( قال الراوي ) فلما فرغ الزير من هذا المرثية الغراء وسمعته السادات والامراء تعجبوا من فصاحة لسانه وقوة قلبه وجنانه وما احتوته اليه من الالفاظ الرقيقة والمعاني البليغة الدقيقة وقالوا والله لقد جاد سالم الزير وفاق على الاشعار والمشاهير بهذا الكلام الذي هو كالدر النظير ثم اجتمع الامراء المقدمين وقالوا للعرب المجتمعين انها ما  عاد ينفع البكاء والانتحاب وان اكرام الميت دفنه في التراب ثم أتوا بكليب إلى الديار ودفنوه بكل احترام واعتبار واحتفال ووقاره رثوه بنفائس الاشعار وبنوا على قبره قبه من أعظم القبب وطلوا حيطانها بالذهب والفضة فكانت من العجب في بلاد ا لعرب زخرفوها بالنقش الفاخر كتبوا على حيطانها اسماء الاله القادر . (

 

قال الراوي ) وبعد أن تلو أسماء الاله القادر وسمعتها السادات ورؤساء العشائر دفنوا الامير كليب كما تقدم الكلام ذبح الزير على قبره النوق والاغنام وفرق المال والطعام على الارامل والأيتام ثم جلس في الديوان وجميع الأكابر والأعيان وأبطال الميدان والفرسان واخوانه الشجعان وقال أعلموا أيها الأمراء والساده الكرام أن جساس أهانكم وقتل ابن عمكم وملككم فاستعدوا لأخذ الثأر وكشف العار من بني بكر الاشرار فلما سمعوا منه هذا الكلام أجابوه إلى ذلك المرام وقالوا عن فرذ لسان أننا بين يديك ولا نبخل بأرواحنا عليك لان الامير كليب لا ينتهي ولم تلد مثله النساء ثم انهم تحالفوا معه وعاهدوه على الكرسي المملكة وبايعوه واجلسوه فلما تملك على القبيلة طرد امراه اخيه الجليله فسارت إلى بيت ابيها وجواريها وكانت جليله بولد ذكر سوف يأتي عند الخبر واستعد الزير من ذلك اليوم لقتال القوم وحلف بأعظم الأقسام بأنه لا يشرب المدام ولا يلتذ بطعام حتى يأخذ ثأره بعد الحسام وينتقم من بني بكر أشد الانتقام او انه يموت تحت ارجل الخيل ولا يبالي بالويل ثم امر الرؤساء والقواد بجمع العساكر والاجناد وان يكون في استعداد للحرب فامتثلوا امره في الحال وتجمعت الفرسان والابطال حتى امتلات الروابي والتلال وكانت قد انضمت اليه عدة قبائل وامدوه في العساكر والجحافل حتى سار في لأربعمائة الف وقال لما بلغ بني بكر هذا الخبر اعتراهم القلق والضجر وخافوا من العواقب وحلول النوائب فجمعوا المراكب والكتائب وسار بهم الامير إلى الذئاب وهو مكان شهير يبعد ثلاثة أيام عن قبيله الزير وهناك انضمت اليهم بعض القبائل من العربان فكانوا نحو ثلاثمائة ألف واقاموا في ذلك المكان ولما سمع الزير برحيل مرة وأولاده إلى الديار قال لا بد أن اقتفي الاثار وافني الكبار والصغار ثم امر القائد الكبير بسرعه المسير فامتثلوا ما امره وفعلوا ما ذكرة وفي الحال دق طبل الرجوع فارتجت منه السهول والمروج وهو الطبل الذي كان لتبع حسان ولم تكن الا ساعه من الزمان حتى ركبت الابطال والفرسان وركب المهلهل متسربلا بالسلاح كأنه ليث الغاب وعلى راسه الرايات والبنود .