الجزء الثالث

 وحدث الامير كليب بذلك الخبر فأزداد كدر على كدر وارسال الرسول اليه ثانياً فما حضر فعند ذلك صار كليب الية وقد عظم الامر لدية فلما دخل عليه نهض الزير على قدمية وسبه كليب وشتمه وضربه حتى الالمة ثم نزع عنه ثياب الحرير حتى صار معيره فالكبير و الصغير وارسله مع الرعيان ليرعى النوق و الجمال ورجع إلى الجليله واعلمها بما فعل مع اخية المهلهل فلما رات انها لم تبلغ الامل زادت غماً وكدرا وأخذت تدبر على هلاكه بحيلة أخرى فقالت ذات يوم لكليب أما تخشى من الهتيكة و العايب أما في راسك نخوة وناموس من جهة أخوك المهان المعكوس فقال لها ما معنى هذا الكلام وما هو المراد بهذا التوبيخ و الملالم قالت بلغني من بعض الغلامان الذين يدورون مع الرعيان بأنهم فعلوا معي القبيح وانت جالس مستريح ليس عندك علم ولا خبر وقد تحدث فيك جميع البشر ثم شرحت له واقعة بهذا الشعر و المقال ، تقول الجليله:

 

 

يا محفوظ اتاني علم بحال أخوك

وشاع العلم بكل القوم غناء الناس مع الصعلوك

وصار الناس بقيل وقال وكل البدو عليك ضحوك

أنت أمير كبير القوم وقيس وحمير قد هابوك

فكيف يكون أخوك الزير وقومك من أهلة يجافوك

كيف بقالك راس يقوم والرعيان لقد عابوك

فاقتل أخوك في سيفك وإلا قومك قد لاموك

فكل العالم تحكي فيه، يقول الزير بقي مهتوك

فهذا الاخ ومثله ألف في يوم الضيق فما عانوك

أخاف يقولوا كل أهله مثله والعالم يشكوك.

 

 

 فلما فرغت الجليلة من هذا الشعر ووقف كليب على حقيقة الامر التهب فؤاده واضطرب من شدة الغيظ والغضب وأخذته الحمية وعصفة في راسة نخوة الجاهلية وقد صمم النية على أن يقتل أخوة ويسقيه كأس المنية فقالت الجليلة لا تقتله يا أمير لان كلام الناس كثير فالأوفق أن تأخذه إلى وادي السباع وهو مكان منقطع عن الناس كثير النمور والاسود فتقتله هنا وتعود فتفترسه الوحوش والاسود وتتخلص من كلام العباد. فقال هذا هو الصواب و الامر الذي لا يعاب ومن وقته ركب ظهر جوادة واعتدا بآلة حربة وجلادة واستدعى الزير اليه فما تمثل بين يديه قال له مرادي ان اذهب إلى الصيد و القنص وأزيل ما بقلبي من الغصص فسار أمامي فتماثل أمرة وصار ووجد في قطع البراري و القفار حتى وصل إلى الوادي المذكور وهو مكان مهجور وما زالنا وسائرين حتى صار في وسط ذلك المكان وإذا بجواد كليب قد شخر ونخر وضرب الارض وتأخر وإذا بسباع من بطن الوادي قد ظهر فلما رآه الأمير كليب هجم عليه الجواد ورماه بالرمح فأخطأه فتبعه الأسد فانهزم كليب من امامه خوفا من العطب فلما رأى  الزير اخاه قد هرب تقدم نحو الاسد بقلب اقوى من الحجر وطعنه بخنجر كان معه فقده نصفين فاخرج قلبه فاكله وصاح على اخيه ارجع يا اخي ولات خاف فرجع كليب وهو يتعجب من أفعال الزير فنزل عن ظهر الحصان وقلبه بين عينيه وصفا له قلبه وقال في سره من يكون له أخ مثل هذا ويفرط فيه، وان عاش هذا الغلام يكون من عجائب الزمان ثم رجع واياه فلما راته الجليله قالت لماذا ما قتلته فأخبرها بواقعة الحال وكيف أنه قتل الاسد والذي يكون مثله لا يستأهل القتل بل يجب له الاكرام ثم أشار يقول :

 

 

يقول كليب من صفوة ربيعه شديد الباس ذو عزم رجيح

كريم الاصل سلطان متوج وفي طريق الكرم ماني شحيح

الا يا بنت عمي يا جليله الا يا صاحبة الوجه المليح

نظرن اليوم من سالم فعالا يشيب لها الطفل الطريح

لقاني السبع من خلفي وزمجر فصار الزير من خلفه يصيح

فكر السبع نحو الزير هاجم فعاد الزير واقف مستريح

ولما قد دنا منه وقارب فغار عليه كالسبع الجريح

طعنه الزير بالخنجر فقده وألقاه على الغبرا طريح

فلما شفت هذا الفعل منه علمت بأنه فارس رجيح

رجعت اليه من فرحي سريعا وصحت عليه في قول مليح

مهلهل يا مهلهل يا مهلهل فأنت اليوم أولى بالمديح

 

 

( قال الراوي ) فلما فرغ كليب من شعره زاد كدر الجليله وقالت له وهي تبكي مادام الامر كذلك فأني سأذهب نهار غد إلى بيت أهلي وأعلمهم بما ظهر من الزير في حقي فمه يقتلوه لأني لست أأتمنه على نفسي إذا بقيت عندك لأنه لابد أن يغدر بي لان عيونه محمرة علي وانت بعد كل هذا ليس لك نخوه ولا ناموس فقال أذكري الله يا جليله ودعينا من هذا فكيف اسمح بقتل أخي وهو من لحمي ودمي ولا سيما أنه شديد ومن أشجع الناس فاذا قتلته افتضحت بين العرب وتحدث في الناس فقالت لابد من قتله على طريقة غير هذه وهو أن تأخذه إلى بير صندل السباع وتدليه بحبل على نية أن ينشل الماء وحينئذ تقطع الحبل فيسقط في البير ويموت ولا يعلم به أحد وأشارت تقول :

 

 

ما قالت الجليله بنت مرة ودمعي فوق وجناتي غزارة

أخوك الزير ما هو كثير فالح يلعب مع وليدات الصغارة

أخوك الزير شوفه مثل الضبع كما المجنون يلعب بالحجارة

يا ريته ما يشوف الخير دائم كأنه شبه ضبع في مغارة

يا ليت الزير ينقص من حداكم ولا يبقى تظهر له خبارة

الا يا حيف هذا من ربيعه وتعدوه ببنات الامارة

ترى خمسين خليفه مثل أبيك أمارة من أمارة من أمارة

يبقى الزير هو ندل فيكم ليته لا يطلب من الحرارة

قتل الزير أحسن من حياته ولا نهتك ما بين الامارة

أقتل هل ردي لا عاش عمره وأهيفه في حسامك مثل ناره

أنت ابن عمي نور عيني وشوري اليك ما هو فشارة

ما قالت الجليلة بنت مرة وناري عالقة من ذي شرارة

 

 

( قال الراوي ) وكان كليب يحب الجليله محبة عظيمه ولا كان يخالفها في شيء فلما ألحت عليه وافقها على ذلك اكراما لخاطرها فنهض ثاني الايام وركب جواده وأخذ في صحبته أخوه الزير ومائة من الفرسان وسار بهم إلى بير صندل وعند وصولهم قال كليب يا سالم خيولنا قد عطشت فمرادنا أن ننزل ونسقيها وأنت تنزل إلى البير فتملا دلو فقال حبا وكرامة يا أخي فدلوه في حبل وأخذ يملي الادليه وهم ينشلوا ويسقوا حتى ملأوا الارض الذي على باب البير  وجاؤوا بالخيل ليسقوها فتزاحمت على بعضهما البعض وأخذت بالصهيل والازدحام فعجز كليب وجماعته عن ردها على بعضهما البعض فسمع الزير وهو بالبير صهيل الخيل وجعيرها فصرخ عليها صوتا مثل الرعد القاصف حتى ارتجت منه الوديان واضطربت منه قلوب الفرسان فجفلت الخيل وتأخرت وانفصلت عن بعضها فلما رأى كليب ما فعله أخوه سالم تعجب غاية العجب وندم على ما فعل وفي الحال أخرجه من البير وازدادت محبته عنه ورجع إلى الديار فلما راته الجليله غابت عن الوجود من شدة الغيظ وقالت لكليب بارك الله فيك أهكذا المفارقة فقال والله يا جليله من كان هذا الفعل فعله يحرم الله قتله ثم حدثها بما جرى وكان يقول وعمر السامعين يطول :

 

يقول كليب من شعر نفيس قصيدة ما نظمها قط:

 

 

 

قائل جليله اسمعي يابنت عمي أرى عقلك بهذا اليوم زائل

أأقتله ليشفي اليوم قلبك ومنه قد ظهرت لنا فعايل

سباع الغاب هابت من لقائه كذلك الخيل صيرها جفايل

ثلاث ألوف يلقاهم بصدره من الشجعان فرسان القبايل

تقول لقتله وارتاح منه فقولك ما هو قول عاقل

فاني لا أبيعه بألف مثلك ولو مهما جرى منه من فعايل

أراكي تطلبي قتله سريعا فقولك عنه ليس له دلائل

فقولك يا جليله قول باطل فحاش الزير أن يتبع رذائل

فقلي من كلامك لا تعيدي أيا بنت الاماجد والاصايل

 

 

فلما فرغ كليب من شعره ونظامه وفهمت الجليله فحوى كلامه اغتاظت في الباطن ولكنها أظهرت له السرور وقالت له أن قصدي امتحانك لأرى هل أنت تحبه أو تبغضه لأنه فصيح اللسان ومن أشد الفرسان وأخذت تمازح كليب بكلام النفاق حتى صفا قلبه وراق ثم انها صبرت مدة أيام وبعد ذلك أظهرت عن نفسها انها مريضة فرقدت في الفراش وقالت لكليب أن لي حاجه اليك ولا يقدر عليها سوى أخوك الزير فقال وما حاجتك قالت أريد مقدار كأسين من حليب السباع لأنه يقوي الاعصاب وانا في غاية الضعف والعناء وقد وصفت دايتي هذا عاجلا لمرضي وقالت أن هذا الدواء يأتي بولد ذكر وأشارت تقول :

 

 

مقالات الجليله بنت مرة كليب اسمع لي يا أبا اليماما

انت اليوم ملك البوادي يا ليت الحق بك يا امير داما

وتحكم يا ملك شرقا وغربا من ارض الروم للكعبة دواما

وتحت يداك الوف من العساكر متوكم حاكم وكم فيه مقاما

وكم أبراج من ذهب وفضه جواهر تشرق جناح الظلام

ولا لك طفل تحيي فيه ذكرك سوى سبع بنات مثل الحماما

اتاني منك سبع بنات اتاني ولاجاني منك ذكر غلاما

وقالت دايتي لي يا جليلة معي لك علم يبري السقاما

لبان لبوة بصوفة احمليها تروحي في ذكر حامل قواما

فنادى الزير وأخبره سريعا ادام الله عمرك بالسلاما.

 

 

(قال الروي ) فلما فرغت الجليلة من شعرها ونظامها صدق مقالها وارسل في الحال يطلب أخاه الزير فدخل وسلم علية وقبل يدية وقال بقلب جسور انا عبد مأمور ولا اخالفك بأمر من الامور فأعلمة كليب بالوقعة وقال اريد منك يا أخي ان تأخذ هذا الحق الصغير وتملاه من حليب لبوة فقال على الراس والعين ولكن يا أخي اعطني سيف اتسلح به خوفا من هجوم السباع فقال كليب للجليلة ان تعطي السيف فقالت له الا تستحي يا زير أن تطلب سيف وانت في هذه الشجاعة فخجل واطرق راسة وسار من وقته وساعته وقد تأكد انها تريد هلاكه وضرره وما زال يسير حتى وصل إلى غابة كبيرة كثيرة الاشجار والصخور وليس معه سوى سكين وعصاه فبينما هو ينظر من خلف وقدام واذا بأسد قد ظهر وهو هائل المنظر وعيناه تقدح بالشرر. فلما اقترب منة قبض علية الزير ونشله بقوة ساعدة وزندة ولوحة بيده مثل المقلاع وخبط به الارض فرض عظامة ثم نزل علية بالعصا حتى قتلة واراد ان يجز راسة وإذا بلبوة قد اقبلت علية ومن خلفها سبعة اشبال فلما رات ذكرها قد مات احمرت عيناها فأراد الزير ان يلاعبها قليلا وقد علم انها مغتاظة فجعل نفسه انه خائفا منها فركض من امامها فتبعته وكان قد وصل إلى شجرة لبيرة فطلع اليها وبقيت هي تنظر الية وتهمهم ثم اقلبت اشبالها وجعلوا يرضعون من ثديها فوجد الزير لها ثدي مثل الحق فقال هذا الذي طالبه مني أخي ثم أراد النزول فقال ان نزلت تفترسني من رجلي ثم رمى نفسة من الشجرة فجاء راكبا عليها فقبض عليها من رقبتها والقى رجلية على بطنها بقوة شديدة حتى لم يعد لها سبيل ان تتحرك من مكانها ثم سحب السكين وهو يضحك عليها وينحراها كما ينحر الجزار الغنم وملآ الحق من حليبها وقطع راسها وراس الاسد بعد ان ربط اشبالها بالحبال وساقهم امامة كالكلاب .

 

فلما اقبل إلى الحي ولاقته فرسان العرب واصحاب المناصب والرتب واستعظموا ذلك الامر واعتراهم العجب وعند وصولة إلى القصر سمعت الجليلة الضجة فطلت براسها من الشباك فرات الزير وهو مقبل على تلك الحالة فالتهب قلبها بنار الغضب لأنها كانت تظن انه يموت ويهلك ثم دخل الزير على الجليلة وكان كليب جالس معها فسلم عليها ورمى الرؤوس امامها وقدم الحق لامرأة اخيه وقال لها هل تجدين شيئا اخر حتى أقضية فقالت بارك الله فيك يا سبع الرجال فانك تستحق المدح والثناء وكان كليب لما رأى رؤوس السباع تعجب من قسوة قلبة وشدة باسه وقال له كيف فعلت والى اين وصلت فأشار الزير يقول :

 

 

يقول الزير قهار المواكب رماني الدهر في كل المصائب

فلا تسمع أخي قول الاعادي لآن الضد شورة ليس صائب

يشوروا عليك في الاعادي ليسقوك أخي كأس العواطب

فأهل عليك في رأي وخيم لآن كلامها لاشك كاذب

فاعلم يا أخي في ما جرا لي بهذا اليوم في وادي الثعالب

وجدت سبع وسط الغاب دائر كأنه جائع للصيد طالب

فلما شافني حالا أتاني وكشر عن سنانه والمخالب

فصحت علية جاهلية فتقدم يا أخي الي هاجم وطالب

حززته بخنجري فأهوى على وجه الثرى الأرض قالب

أتتني بعده لبوة مغيرة فلما شفتها وليت هارب

رأيت أشبالها سبعة وراها فداروا لجهتي من كل جانب

فلما شفتهم جاؤوا لنحوي طلعت لشجرة ذات الشناغب

فداروا حولها فرميت نفسي فصرت لظهرها بالحال راكب

حززت لراسها وملئت حقي حليب بعد أن نلت المأرب

وراس السبع واللبوة قطعته علامة للاغارب والاقارب

وسقت أولادها السبعة أمامي فلما صرت في وسط المضارب

فلاقتني رجال قومي وجاءتني الأقارب والأجانب

وهذا ما جرى لي في نهاري وما قاسيت من هول المصائب

 

 

(قال الراوي ) فلما فرغ الزير سالم من شعره ونظمه واخوه كليب مع الجليلة يسمعوا كلامة فغضبت الجليلة من كلام الزير وكيف انه لمح بشعره عليها فقالت في سرها لابد لي أن أعمل على قتله وبعد ذهابه قالت لزوجها كليب كيف يعلم اني ساعية في قتلة ولم يكن عارف بما فعلة معي فوالله ان الموت الذ عندي من الحياة فلا بد لي ان أشنق نفسي واستريح من جور أخيك القبيح ثم صارت تصيح وتبكي فقال كليب أخزي الشيطان ودعينا من هذا الكلام الان واخذ يتلطف بخاطرها ويقول لها كم مرة رميناه بالاخطار وهو يرجع سالما كاسبا غانما فقالت الجليلة مرادي أن تسمع مني ما أقوله لك الآن ولا عدت ولا عدت تسمع مني غير هذه المرة وهو ان تجعل نفسك مريضا وترقد في الفراش فاذا أتاك أخوك الزير حتى يراك فتقول له أصابك مرض شديد ووصف له الاطباء شربة من بير السباع اذا سمع منك هذا الكلام فأخذته النخوة والغيرة ويذهب في الحال لقضاء حاجتك فاذا راح لا يعود يرجع أبدا من كثرة وجود السباع في ذلك المكن والكثرة تغلب الشجاعة فيفترسوه في الحال وتكون قد بلغنا الآمال لأنني كلما تذكرت إعماله أريد ان أخنق حالي والعرض عند الحر غالي ثم أنشدت تقول من فؤاد متبول : الا اسمع لشوري ما أقولك على علم الصحيح أنا أدلك أخوك هبيل ما بسوى مسلة ولو قلع في الجبال وألف تلة فأرسله غدا بير صندل وان ارستلة لهناك يقتل ومنة تستريح مدى الدهور ونخطى بالمقاصد والحبور.

 

 

فلما سمع كلامها أجابها إلى مرامها وانقطع عن الديوان ومقابلة الناس وجعل نفسه مريض وأقام بالفراش مدة أيام لما شاع هذا الخبر علم الزير بذلك فتشوش خاطرة لأنه كان يحبه محبة عظيمه فدخل عليه فراه راقد وهو يتوجع علية ويتأسف ويسلية بالكلام فقال له كليب اعلم ان مرضى شديد وأنا خائف منة وقد وصفت لي الاطباء شربة ماء من بير السباع فمتى شربتها شفيت من هذا الدواء وليس لي غيرك يا أخي من يأتيني بها فان كنت تحبني أريد منك الان يا فارس الفرسان وقهار العدا في ساحة الميدان أن تذهب إلى ذلك المكان وتأتيني بالمطلوب والمقصود من بين الأسود.

 

 

 فقال الزير أبشر يا أمير ثم نزل من عنده وجاء بقربتين فحزمهما على حمار ثم سار وجد في قطع القفار إلى أن وصل إلى بير السباع وكانت السباع في ذلك الوقت سارحة في البرية سوى سبع واحد كان راقد على حافة البير وهو واضع يدية على فمه او نائم فقال الزير في سرة هذا نايم وعيب علي أن اقتله غدرا فتركة وفك القرب وربط الحمار من يديه ورجلية ونزل البير من الدرج فملا القرب وأتفق أنه عند نزوله إلى البير شهق الحمار فوعى السبع ولما رأى الحمار هجم علية وضربة بمخلبة فقتلة وجعل يأكله فلما خرج الزير من البير ووجد السبع قد قتل الحمار وهو يأكله أغتاظ جدا فوضع القرب على الارض وقصد نحو السبع بقلب كالحديد وقال ويلك يامشؤوم كيف تأكل حماري أما علمت ببطشي واقتداري فوحف ذمة العرب لابد من تحميلك القرب وكان الاسد قد وثب علية ونهض برجلية فالتقاة الزير بالعصا وضربة ضربة شديدة وقعت على رأسه فدوخته فوقع على الارض طائشا فجاء الزير بالحبل ولجمة لجاما قويا ووضع بردعة الحمار على ظهره ثم وضع القرب ورفسه برجلة فنهض مثل السكران فقال الزير يا قليل الادب الذي يأكل حمير العرب فهو أولى أن يحمل القرب ثم ركب على ظهره وساقه مثل الكلب وكان كلما عرج عن الطريق يضربه بالعصا على راسه حتى طاعه قهرا وجبرا وسار وجد في قطع القفار حتى أقترب من الديار فعند ذلك تذكر ما جرى له مع أخيه والاسد وكيف عاد ظافرا منصورا فجاش الشعر في خاطره فأنشده يقول:

 

 

أنا مهلهل فعزي يفلق الحجرا الانس والجن تخشى سطوتي حذرا

كيد النساء فيبقى في عدم فخيب الله من يسمع كلام مرا

قالوا أخوك كليب اليوم منطرحا عالفراش ضعيف الجسم والبصرا

فجأته عاجلا حتى أساله والعقل في خيرة مما عليه جرى

فقلت له كيف حالك أنت أخبرني فقال يامهلهل كيف أنت ترى

أريد شربة ماء أطفي بها طمئي من صندل تزول الهم والكدرا

فسرت حالا لذلك البير في عجل فنلت قصدي وعدت اليوم مفتخرا

هذه فعالي وكل الناس ترهبني حتى الاسود وأهل البأس والآمرا

 

 

(قال الراوي ) ومازال يقطع القفار وينشد الاشعار حتى وصل الديار وهو راكب على ظهر الاسد غير مبال بأحد لأنه بلغ المقصود والارب وفعل أفعال تعجز عنها فرسان العرب ولما دخل الحي جفلت الخيل والجمال واندهشت النساء والرجال لما رأوا الاسد على تلك الحال وكثرت الضجات وتصايحت الاولاد والبنات وسمع كليب والجليلة تلك الضجة فطلا برؤاسهما من الشباك فوجد المهلهل قد أقبل وهو يسوق الاسد بعصا فبكى كليب لما رآه وقال لابنة عمه الجليله هل ينبغي لهذا البطل أن يقتل فقد جاء بالأسد وعلى ظهره القرب وهذا أعجب العجب فاشتعل قلبها والتهب من شدة الغضب حتى كادت تموت قهرا ثم نزل كليب اليه وقلبه بين عينيه وقال لله درك يا فارس الميدان وزينة الشبان وبعد ذلك سأله عما جرى له وكان فأنشد يقول : يقول الزير أبو ليلى المهلهل ودمعي فوق وجناتي سائل

 

 

ذهبت اليوم نحو البير قاصد أجيب الماء يا ابن الاكارم

وجدت السبع قرب البير راقد فقلت بخاطري ذا السبع نايم

نزلت البير أملا منه أشرب وربي بالذي قد كنت عالم

ملأت القربتان وعدت حالا لأرجع للقبيلة والمعالم

وجدت السبع قد أكل البهيمة ضربته بالعصا فعاد نايم

وحملت القرب من فوق ظهره وجئت إليك يافخر الاكارم

أطال الله أيامك وعزك على طول الزمان وأنت دايم

 

 

 فلما سمع كليب هذا المقال أجابه على شعره:

 

يقول كليب اسمع يا مهلهل فما لك من مثيل في العوالم

سابع البر خافت من قتالك وولت في الفلا منك هزايم

نزلت البير أملا منه واشرب وتحظى بالسرور والغنايم

فقم البس ثيابا من حرير وأفعل ما تريد يا ابن الاكارم

فمهما طلبت مني يا مهلهل أنا أعطيك والله عالم

أخي ما عاد عندي أعز منك وحق الله خلاق العوالم

 

 

فلما فرغ كليب من كلامه أنزل الزير القرب من على ظهر الاسد وضربه بالسيف القاه قتيل ثم قطع رأسه أمام أخيه وقال الله أكبر فقد أخذنا بثأر الحمار وبلغنا ما نحب ونختار بعون الواحد القهار فأمر كليب الخدم أن يدخلوا الزير إلى الحمام فدخل وأغتسل ولبس حلة من أرجوان وذهب إلى عند أخيه في الديوان فقام له على الاقدام وأكرمه غاية الاكرام واجلسه في اعلى مقام فأزداد اعتباره عند الخاص والعام وأرتفع منزلته عند الامراء والاكابر واشتهر اسمه بين القبايل والعشائر وقال له كليب ذات يوم أطلب يا أخي مهما تريد فأن شئت مدينه أوهبك إياها أو إمراه جميله أزوجك بها فمالي جميعا بين يديك فلا أبخل بشيء عليك لأنك اليوم ساعدي وزندي وأنت الحاكم من بعدي فقال لا أريد سوى سلامتك والذي أريده منك أن تأمر بصيوان يكون كبير مفروش بالفرش الفاخر عند بير السباع ويكون عندي جماعه من الخدم يقدمون لي ما أحتاجه من الاكل والخمر لأني أريد أن أنفرد عن باقي جماعة الناس وأكون وحدي خصوصا من كيد النساء وعندما تشتاق اليّ تزورني .

 

 

فقال كليب ما هذا العمل فوالله ما عاد لي صبر على فراقك يا مهلهل ولا عدت أسمع فيك كلام الاعادي اللئام فأبقي عندي في العز والاكرام .فقال يا أخي قد صممت النية على الارتحال فإن الانعزال أفضل للرجال الاحرار ولا سيما قد صار على السباع ثأر عليّ قتل الحمار ولابد لي من قتل جميع الاسود أو أن الحمار يرجع ويعود ، فضحك كليب من كلامه وتعجب وأمر له بما طلب وقدم له جوادا من أطيب الخيول وجميع ما يحتاج اليه من السلاح والنصول والمشروب والمأكول وأرسل معه عبدان يخدمانه ثم ودعه وسار حتى وصل إلى بير السباع فنصبوا له الصيوان وقام في ذلك المكان وهو يأكل ويشرب المدام وكان في كل يوم يلبس عدته ويركب جواده ويصيد السباع وكان كلما قتل اسد يقول يا لثارات الحمار ومازال على تلك الحال حتى أفناها وبنا له قصرا من رؤوسهم فلما طال عليه الزمان أخذه القلق والضجر لانفراده عن البشر وكان بينه وبين همام بن مرة محبة عظيمه ووداد فزار الامير همام في بعض الايام ففرح بقدومه عليه وقال اهلا وسهلا يا ابن العم وترحب به غاية الترحيب وقال له لقد ضاقت نفسي من الوحشه والانفراد فوالله ما عدت ادعك تذهب من عندي ابدا وكان همام يسرف أكثر اوقاته عنده فينادمه ويشرب معه المدام ويتناشدان الاشعار في الليل والنهار ومازالا كذلك وهم في بسط وانشراح وطرب وافراح وشرب المدام وسماع الانغام مدة ثلاثة أعوام هذا ما كان من حديثهم في تلك الايام.

 

حرب البسوس بين بكر وتغلب

 

( قال الراوي ) وأعجب ما أتفق وتسطر من الاحاديث التي تروى وتذكر هو حديث العجوز الشاعرة أخت الملك تبع حسان الذي قتله كليب كما شرحنا قبل الان وهي المرأة التي ذكرها تبع لكليب في ملحمته بأنها سوف تظهر بعده وتلقي الفتنه في القبائل وبسببها يقتل كليب بن وائل وتثير الحرب بين بكر وتغلب وباقي عشائر العرب وكانت هذه العجوز من عجائب الزمان وغرائب الاوان ذات مكر واحتيال وخداع ساحرة ماكرة وكان لها أربعة أسماء لأنها في يوم ولاداتها وردت اليها أموال السبعة أقاليم وامها سمتها تاج بخت لأنها كانت كثيرا ما تأكل من جوز الهند وكانت مع هذه الاوصاف القبيحة جميلة المنظر فصيحة الكلام شديدة البأس ولما كبرت وانتشت وصارت بنت عشرين سنة فكانت تسارع الطواشية وتركب الخيل في الميدان وتبارز الابطال والفرسان وشاع صيتها في كل مكان وتواردت اليها الخطاب من جميع المدن والبلدان فكانت تقول لا اتزوج الا من يقهرني في الميدان فكانت تقهرهم في القتال وتعلم عليهم في ساحة المجال فاقتصرت عنها الخطاب وتباعدت عنها الطلاب.

 

 وكان قد سمع بخبرها ملك عظيم اسمة سعد اليماني وكان مل بلاد السرو ابن عم أخوها تبع وبطل أروع ليث صميدع صاحب مدن وبلدان وجيش وفرسان فهام قلبة في حبها فركب في جماعة من أبطاله وسار قاصدا ديار ابن عمة تبع ليخطب أخته سعاد فلما وصل إلى تلك البلاد ترحب به الملك تبع واضافة ضيافة عظيمة لأنه ملك وأمره نافذ في القبائل فلما كان اليوم الثالث قال سعد لتبع اعلم يا ابن العم حضرت من بلادي لأخطب أختك سعاد الدرة المصونة والجوهرة المكنونة فلا تردني خائب فهي ابنة عمي ومن لحمي ودمي وأنا أحق بها من كل أحد ، فقال تبع اني أرغب في ذلك غير انه كما لا خفاك بأنها لا تتزوج بأحد مهما كان الا بمن يقهرها في الميدان فقال أني ما أتيت الا على هذا الشرط فعند ذلك دخل عليها أخوها وأخبرها بقدوم الامير سعد بن عمها وانه قد جاء ليخطبها ويتزوجها بعد أن يبارزها ويحاربها فأجابته إلى ذلك المرام.

 

 وفي ثاني الايام اعتدت بألة الحرب والجلاد وركبت على ظهر جوادها وبرزت إلى الميدان وحل الضرب والطعان وكان الامير سعد قد ركب حصانة وبرز إلى الميدان والتقاها بقوة قلب وجنان وأخذا يتقاتلان نحو ساعة من الزمن وكان الامير سعد صاحب نخوة وحمية ومن اشد فرسان الجاهلية فحاربها حتى أتبعها ثم اقتلعها من بحر سرجها فأقرت له بالغلبة وبعد ذلك تزوجها واقام الحفلة سبعة أيام ورجع بها إلى بلادة وكانت قد أخذت معها جميع ما تملكه من أمتعه وأموال وعبيد وغلمان وأقامت مع زوجها في أرقد عيش وهناء لمدة عشر سنين إلى ان عمي وفقد البصر فصارت تحكم مكانه واطاعتها العرب وعظم أمرها واشتهر ذكرها ومازالت على تلك الحال وهي في أرقد عيش وانعم بال الا ان كليب قتل أخوها تبع كما سبق الكلام ولما بلغها هذا الخبر اخذها القلق والضجر وتنغص عيشها وتمرمر وقالت لابد لي من المسير إلى تلك الديار ،كليب الغدار وإذا قتلته انطفئ ناري وأكون قد أخذت بثأري.

 

 فأقامت مكانها وكيلا يحكم بالنيابة عنها وركبت هي وزوجها وبناتها وأخذت معها عبدان ومازالت تقطع البراري والآكام حتى وصلت إلى بلاد الشام فسألت عن رحلة بني مرة فأرشدوها اليها فلما صارت هناك قصدت الامير جساس دون باقي الناس ودخلت عليه وهو في الديوان وحوله جماعة من الامراء والاعيان فتقدمت اليه وسلمت عليه ودعت وترحمت وبأفصح لسان تكلمت وقالت له أدام الله أيامك ورفع على ملوك الارض قدرك ومكانك وبلغك أربك ومناك ونصرك على حسادك وأعدائك فتعجب جساس من فصاحة مقالها فأثنى عليها وسألها عن حالها فقالت له أنني شاعرة أطوف القبائل والعشائر وأمدح السادة والسادات والاكابر وقد سمعت بجودك وكرمك ولطفك ومحاسن شيمك فأتيت إلى دارك حتى أعيش في جوارك وأكون مشمولة بأنظارك ثم أنها بعد هذا الثناء والمديح أشارت اليه بهذا الشعر الفصيح :

 

 

تقول سعاد من قلب مفجوع زمان السوق أبقانا ذلائل

وبعد غلانا صرنا رخاصا وبعد الكثر قد صرنا قلائل

وبعد العز قد صرنا اذلا وبعد السمن قد صرنا هزايل

فهذا الدهر ماله قط صاحب فهذا مستقيم وذاك مائل

وذا يبكي وذا يضحك ويلعب وذا يندب عياله والحلائل

فسبحان الذي قدر علينا بغربتنا وتشتيت الشمائل

فبعد ان كنت في خير ونعمه دعاني الدهر كالطلاب شاتل

أدور على المناصب والامارا وأنزل في القرايا والمدائن

سمعت بذكركم في آل مرة ثلاث شهور لي عندكم أسائل

أيا جساس يافخر البرايا ويا كهف اليتامى والارامل

قصدتك لا تخيب فيك ظني أيا أبن الأماجد الاصائل

فأجبر خاطري ربي يجبرك ويعطيك السعادة والفضائل

فكم أوهبت من مال ونوق وكم فرقت من خيل أصائل

فانت اليوم بين الناس فردا ثناء مشاع في كل القبائل

عديم المثل ما بين الامارا وقد تفاخرت عربان القبائل

عساك اليوم تنعم لي بمالٍ ولا تصغي إلى واش وقائل

فارجع بالغنايم والعطايا وبالخيل المسومه الصواهل

 

 

فلما فرغت العجوز من شعرها ونظامها وفهم جساس فحوى كلامها قال لها أهلا ومرحبا الارض أرضي والديار دياري وانت نزيلتي وفي جواري فكل من تعدى عليك قتلته ثم أشار يترحب بها ويقول:

 

 

قال جساس بن مرة يا عجوز مرحبا بك بلا بطا مرحبا

بك مرحبا بك مرحبا عدد ما مشت الركاب بالوطا

في قدومك حلت البركة لنا فابشري بالخير مع كثر العطا

أسرحي ثم أمرحي في حبنا ما أغيظك لو بدا منك خطا

 

 

( قال الراوي ) فلما فرغ جساس من كلامه دعت له العجوز بالنصر وطول العمر والبقاء وقالت في سرها لقد نلت المراد بعون رب العباد وأقامت عنده شهرين وجساس كل يوم يزيد في إكرامها وكانت قد رأت اتفاق قوم كليب مع بني مرة وهم في محبة ومؤالفة عظيمه واجتماعات كثيرة كأنهما قبيلة واحده فما هان عليها ذلك الامر فأخذت تلقي الفتنه والفساد بين الامراء والقواد حتى وقع الشر والنزاع وكثر القيل والقال .

 

ولما اشتد الامر اجتمع اكابر الناس عند الامير جساس واخلوا يشكون من بني تغلب وعن سوء معاملتهم وانهم يعتدون عليهم في أكثر الاوقات بدون سبب وهذا كله من يوم ما قتل كليب تبع اليماني وامتد ملكه في الاقطار فابتدأ يجور ويظلم ولا يحسب حساب أحد وهكذا قومه تفعل كفعلة وكان مرادهم بهذا الكلام يحمسوا الامير جساس ويهيجوه على قتال كليب ولكنه لم يصغ لهم ولم يطاوعهم على مرامهم وقال لهم انه من الصواب ان اجتمع اولا مع ابن عمي كليب واعلمه عن تعديات قومه وجورهم علينا فأن وجدت كلامه قاسيا يكون هو السبب في تقويتهم وان أمر بتأديب المفترين تكون قد نلنا مرادنا .

 

 ( قال الراوي ) ومازالت الفتنه بين الفريقين تمتد وتشتد حتى اتصل الخبر إلى مسامع الامير كليب وبلغه ان بني مرة هم أصل ذلك الخصام وانهم كل يوم في جمعيات ومستعدات فضاق صدره وتكدر وارسل أعلم جساس بذلك الخبر طالبا منه ان يبادر بالحال بقصاص المذنبين وتوقيف حركات البكريين واخراج العجوز من القبيلة التي كانت سببا لهذه الورطة فاغتاظ جساس من ذلك وتأثر وتأكد عنده كلام قومه وعلم ان أصل ذلك من كليب فلم يجبه بجواب ولا بخطاب واخذ جساس من ذلك اليوم يجمع الجموع ويفرق على قومه السلاح ويقويهم بالات الحرب والكفاح فبلغ ذلك الامير كليب فازداد كدره واحتار في امره واحس بزوال ملكه وكان تذكر اخاه الزير الفارس فركب من يومه في جماعة من الفرسان وقصده إلى بير السباع فوجده جالسا على سفرة المدام مع ابن عمه الامير همام وهما يناشدان الاشعار ويتحادثان بالأخبار فنهضا له على الاقدام واجلساه في اعلى مقام وفرح الزير بقدوم اخيه لانه كان له مدة طويلة غائبا عنه غير عالم بأن مجيئه لم يكن ناتج الا عن سبب ضروري جدا وبعد ان جلس قليلا قال كليب للزير أعلم يا أخي أن سبب مجيئ اليك اولا لأجل المشاهدة وثانيا حتى آخذك إلى القبيلة وأقيمك ملكا مكاني لأني طعنت في السن ولم يعد لي طاقه على معاطاة الاحكام ولا سيما وقد تغيرت الاحوال ووقع بين القبيلتين النزاع والجدال فاشتعل مني القلب والبال فقم معي الان يا سيد الفرسان فقال الزير والله لقد اشتغل بالي بهذا المقال فانشد كليب يقول :

 

 

أخي سال أسمع ما أقول لك ففكرك ديره والذهن ليا

أراك اليوم في زهو ولهو ولا تدري بما قد حل فيا

بنو قيس قد وقعوا بخلف وجساس نوى يركب عليا

فقوم وشد عزمك يا مهلهل لأنك أنت جبار عتيا

والا راحت البلدان مني وصرنا معيره عند البرية

 

 

( قال الراوي ) فلما فرغ كليب من شعره ضحك الزير حتى استلقى على ظهره فقال كليب وما هو ضحكك قال لقلة عقلك قال انا قليل العقل قال لو لم تكن قليل العقل ماكنت تكلمت بهذا الكلام بعد ان نظرت القصر وهو أمامك قال وما يكون هذا القصر قال هذا القصر قد بنيته من رؤوس السباع الذين قتلتهم بثأر الحمار ومع كل ذلك أنت ملك عظيم وصاحب ولايات وأقاليم فكيف تقول انك خايف وفزعان وأخوك الزير فارس الفرسان فكن في أمان واطمئنان من نوائب الزمان فان كنت بثأر الحمار الذي ليس له قدر ولا مقدار قد بنيت قصرا من رؤوس السباع الا أبني من رؤوس الاعادي مدائن وضياع وقلاع وحصون فاذهب بالسلامة ولا ترتاع ثم أجابه على شعره يقول :

 

 

يقول الزير أبو ليلى المهلهل أنا لي في الحرب عزما قويا

سباع الغاب خافت من قتالي وتخشاني ولم تقدر علّيا

فاذهب يا كليب ولا تبالي واحكم بالقبائل بالسوية

فأن جارت بنو بكر وخابت فلا أترك منهم يا أخي بقية

 

 

فلما سمع كليب شعره أحتار من فعله وندم على مجيئه ثم كرر عليه السؤال وطلب منه أن يسير معه خوفا من حدوث أمر من الامور فقال الزير سر أنت أولا وأنا سأتبعك فيما بعد فقال لماذا لا تسير الآن قال لا خفاك لما حضرت إلى هذا المكان قتلت جميع السباع ماعدا سبعين أو ثلاثة فمتى قتلتهم أدركتك في الحال إلى الاطلال فعند ذلك ركب كليب جواده وسلم أمره للواحد القهار إلى أن وصل إلى تلك الدار وهو قلق وافتكار هذا ما كان من أمر كليب ويرجع الكلام والسياق إلى سعاد الشاعرة الساحرة الماكرة فإنها لما اثارت الفتنه بين القوم وصار لها عند بني مرة ذلك القبول وجميع كلامها عند جساس مقبول أخذت طاسة من الفضة وملأتها من المسك والزباد والعطر وخففت الجميع مع بعضه البعض وعمدت إلى ناقتها الجربانة وأخذت تطلي أجنابها وتدهنها بذلك الطيب وأمرت بعض العبيد أن يأخذها إلى المراعي ويمر بها قرب صيوان جساس في الصباح والمساء وأوصته إذا سأله أحد عنها وعن سبب رائحتها يقول لا أعلم وانما مولاتي تعلم فأخذ الناقه ومر على ذلك المكان فعبقت رائحة الطيب فاستنشق جساس الرائحة وكانت ذكيه جدا فتعجب وكان قد نظر إلى العبد وتلك الناقه فأمر بإحضار العبد وكان يظن تلك الرائحة عابقه منه ولما أحضر وإذا رائحته كريهة جدا فسأله عن تلك الرائحة فقال من الناقه فازداد تعجبا وسأله عن سبب ذلك فقال لست أعلم يا مولاي إنما مولاتي سعاد الشاعرة تعلم ذلك فقال جساس هذا غريب فاستدعى العجوز اليه فحضرت ثم سألها عن قضية الناقه فتنهدت من فؤاد موجوع وقالت لا خفاك أطال الله عمرك وابقاك ان هذه الناقه من سلالة ناقة صالح وفيها خواص غريب يا أبن الاجواد فان بعرها من المسك وعرقها من الزباد فتعجب جساس غاية العجب وقال في نفسه تبارك الله رب العالمين فلا بدلي من أخذ هذه الناقه فافتخر بها على جميع الملوك فقال لها هل تبيعني أياها يا حرة العرب وأنا أعطيك مهما تطلبين الفضة والذهب فلما سمعت كلامه بكت ولطمت وجهها وقالت والله هذا الحساب الذي كنت أحسبه فأني ما هاجرت من بلادي الا لأجل هذه الناقه وكلما نظرها امير أو ملك يطلبها ومادام الامر كذلك فأني سأرحل من عندك ثم بكت من قلب حزين وأنشدت تقول :

 

 

تقول سعاد من قلب موجوع سفاني الدهر كاسات الحمام

ضنى مني الفؤاد وغاب نومي عمى بعلي وقد زادت سقامي

انا حرمة لي يد قصيرة ولا لي قيمه بين الانام

وهذه ناقتي قد شتتني عن الاوطان يا ابن الاكرام

فكم من سيد جاء يشتريها فما نالوا بها نيل المرام

وقد جينا لكم والتجينا وقلنا قد حطينا بالسلام

وانت تريد أن تأخذها مني فعاد رجوعنا أشهى المرام

 

 

فلما فرغت من كلامها أخذ جساس يعطف بخاطرها ويقول لها ان كلامي معك هو على سبيل المزاح فناقتك مباركة عليك وأنت المعززة عندنا فقالت من حيث ذلك أريد أن تجعل ناقتي دون باقي النوق والجمال لأنها قد تربت بالدلال وأريد مرعى لأنه البق بها فقال أرسلها إلى المراعي مع نوقي وجمالي فقالت انها لا تأكل الا من الرياحين وزهر البساتين فقال انه ليس لنا كروم ولا بساتين قالت وهذه الكروم التي بجانب القبيلة من هو صاحبها قال هي لابن عمي كليب زوج أختي الجليله وهمام متزوج أخته ضباع قالت مادام انكم اهل واقارب وانت ملك نظيره فلماذا يكون كليب أعظم منك فقال انه من بعد قتله الملك تبع عظم أمره وانتشر ذكره وتملك على البلاد وطاعته العباد فلما سمعت هذا الكلام قالت والله لقد أخطأت وبئس ما فعلت فأني تركت البحر وجئت إلى الساقية وتعلقت بالذنب وتركت الرأس فاغتاظ جساس وحس وقال ما معنى هذا الكلام يا حرة العرب فانك قد خرجت عن دائرة الصواب وباديتنا بقلة الادب أهذا جزاء المعروف والاحسان فقالت لا تغضب ولا تغتاظ وما قولي هذا الا من سبيل المحبة فكيف يكون ابن عمك وصهرك وزوج أختك ويملك على هذه الاراضي العظيمة وانت ليس لك قدر ولا قيمه أهكذا يكون الاهل وابناء الاعمام ايها الملك الهمام فقال جساس وذمة العرب وشهر رجب لقد تكلمت بالصواب وان من الان وصاعدا لست أحسب له أدنى حساب لأنه قد اعتز وتمرد ولا عاد يحسب حساب أحد وانا لابد لي أن أطالبه أن يقاسمني على املاك المملكة والا القيه في التهلكة فروحي واطلقي ناقتك لكي ترعى في احسن البساتين والمراعي ثم أنشد وقال :

 

يقول جساس شعرا من ضما يري فدمع عيني على الوجنات طاف