المنصور الواحدي

545- 595 هـ

أبو يوسف يعقوب بن أبي يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي صاحب بلاد المغرب.

 

كان صافي السمرة، جميل الوجه أفوه أعين شديد الكحل ضخم الأعضاء جهوري الصوت جزل الألفاظ، من أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثاً وأكثرهم إصابة بالظن، مجرباً للأمور، ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثاً شافياً وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور. ولما مات اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه فبايعوه وعقدوا له الولاية ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجده ولقبوه بالمنصور، فقام الأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.

 

لما مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكة من هناك، وأول ما رتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها ومهد مصالحها في مدة شهرين. وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات وأرسل بذلك إلى سائر بلاد الشام التي في مملكته. فأجاب قوم وامتنع آخرون. ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسي ملكهم، فخرج عليه علي بن إسحاق بن محمد بن علي بن غانية الملثم من جزيرة ميورقة في شعبان سنة ثمانين وملك بجاية وما حولها، فجهز إليه الأمير يعقوب عشرين ألف فارس وأسطولاً في البحر ثم خرج بنفسه في أول سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاستعاد ما أخذ من البلاد ثم عاد إلى مراكش.

 

وفي سنة ست وثمانين بلغه أن الفرنج ملكوا مدينة شلب وهي في غرب جزيرة الأندلس، فتجهز إليها بنفسه وحاصرها وأخذها، وأنفذ في الوقت جيشاً من الموحدين ومعه جماعة من العرب، ففتحوا أربع مدن من بلاد الفرنج كانوا قد أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة، وخافه صاحب طليطلة وسأله الصلح، فصالحه خمس سنين وعاد إلى مراكش. فلما انقضت مدة الهدنة ولم يبق منها سوى القليل خرجت طائفة من الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسبوا وعاثوا عيثاً فظيعاً، فانتهى الخبر إلى الأمير يعقوب وهو بمراكش، فتجهز لقصدهم في جحفل عرمرم من قبائل الموحدين والعرب، واحتفل وجاز إلى الأندلس، وذلك في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. فعلم الفرنج به، فجمعوا خلقاً كثيراً من أقاصي بلادهم وأدانيها. وأقبلوا نحوه.

 

وبلغ الأمير يعقوب خبر مسيرهم وكثرة جموعهم، فما هاله ذلك، وجدّ في السير نحوهم حتى التقوا في شمال قرطبة على قرب قلعة رباح في مرج الحديد، وفيه نهر يشقه، فعبر إلى منزلة الفرنج وصافهم، وذلك يوم الخميس التاسع من شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، واقتفى في ذلك طريقة أبيه وجده فإنهما أكثر ما كانوا يصافون يوم الخميس، ومعظم حركاتهم في صفر، ووقع القتال وبرزت الأبطال وصبرت الرجال، فأمر الأمير يعقوب فرسان الموحدين وأمراء العرب أن يحملوا ففعلوا، وانهزم الفرنج وعمل فيهم السيف فاستأصلهم قتلاً، وما نجا ملكهم إلا في نفر يسير، ولولا دخول الليل لم يبق منهم أحد، وغنم المسلمون أموالهم، حتى قيل إن الذي حصل لبيت المال من دروعهم ستون ألف درع، وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصرها لها عدد، ولم يسمع في بلاد الأندلس بكسرة مثلها.

 

ومن عادة الموحدين أنهم لا يأسرون مشركاً محارباً إن ظفروا به ولو كان ملكاً عظيماً، بل تضرب رقابهم كثروا أو قلوا، فلما أصبح جيش المسلمين اتبعوهم فألفوهم قد أخلوا قلعة رباح لما داخلهم من الرعب، فملكها الأمير يعقوب وجعل فيها والياً وجيشاً. ولكثرة ما حصل له من الغنائم لم يمكنه الدخول إلى بلاد الفرنج في ذلك الوقت، فعاد إلى مدينة طليطلة وحاصرها وقاتلها أشد قتال وقطع أشجارها وشن الغارات على بلادها، وأخذ من أعمالها حصوناً كثيرة وقتل رجالها وسبى حريمها وخرب مبانيها وهدم أسوارها، وترك الفرنج في أسوأ حال، ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة.

 

ثم رجع إلى إشبيلية وأقام إلى أثناء سنة ثلاث وتسعين، فعاد إلى بلاد الفرنج مرة ثالثة وفعل فيها كفعله المتقدم، فلم يبق للفرنج قدرة على لقائه وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأرسلوا إليه يلتمسون منه الصلح، فأجابهم إلى ذلك لما اتصل به من أخبار علي بن إسحاق الميورقي فإنه كان قد خرج على بلاد إفريقية وخرب أكثر بلادها وتوجه نحو الغرب، وسولت له نفسه النزول على بجاية لما علمه من اشتغال الأمير يعقوب بجزيرة الأندلس والجهاد فيها وتأخره عن بلاد المغرب مدة ثلاث سنين. فأوقع الصلح بينه وبين ملوك الأندلس جميعاً على ما اختاره لمدة خمس سنين، ثم عاد إلى مراكش في أواخر سنة ثلاث وتسعين ولما وصل إليها أمر باتخاذ الأحواض والروايا وآلات السفر للتوجه إلى بلاد إفريفية، فاجتمع إليه مشايخ الموحدين وقالوا له: يا سيدنا قد طالت غيبتنا بالأندلس، فمنا من له خمس سنين ومنا من له ثلاث سنين وغير ذلك، فتنعم علينا بالمهلة هذا العام وتكون الحركة في أول سنة خمس وتسعين، فأجابهم

إلى سؤالهم وانتقل إلى مدينة سلا وشاهد ما فيها من المتنزهات المعدة له، وكان قد بنى بالقرب من المدينة المذكورة مدينة عظيمة، سماها رباط الفتح على هيئة الإسكندرية في اتساع الشوارع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحسينه وتحصينه، وبناها على البحر المحيط الذي هناك، وهي على نهر سلا مقابلة لها من البر القبلي، وطاف تلك البلاد وتنزه فيها ثم رجع إلى مراكش إلى أن توفي فيها.

المرجع: وفيات الأعيان