المستكفي بالله

292- 338 هـ

المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله، هو أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بن المعتضد. من خلفاء الدولة العباسية. حكم من 333-334 هـ. وهو ابن المكتفى ابن المعتضد. أمه أم ولد اسمها أملح الناس.

 

بويع له بالخلافة عند خلع المتقي في صفر سنة 333هـ وعمره إحدى وأربعون سنة ومات تورون في أيامه ومعه كاتبه أبو جعفر بن شيرزاد، فطمع في المملكة وحلف العساكر لنفسه فخلع عليه الخليفة، ثم دخل أحمد بن بويه بغداد فاختفى شيرزاد ودخل ابن بويه دار الخلافة فوقف بين يدي الخليفة، فخلع عليه ولقبه معز الدولة ولقب أخاه علياً عماد الدولة وأخاهما الحسن ركن الدولة. وضرب ألقابهم على السكة ولقب المستكفي نفسه إمام الحق وضرب ذلك على السكة.

 

ثم إن معز الدولة قوي أمره وحجر على الخليفة وقدر له كل يوم برسم النفقة خمسة آلاف درهم فقط وهو أول من ملك العراق من الديلم. وأول من أظهر السعاة ببغداد وأغرى المصارعين والسباحين، فانهمك شباب بغداد في تعلم المصارعة والسباحة حتى صار السابح يسبح وعلى يده كانون وفوقه قدرة فيسبح حتى ينضج اللحم.

 

تم خلع المستكفي بالله من الخلافة حين تقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة فمد يديه إليهما ظناً أنهما يريدان تقبيلهما فجذباه من السرير حتى طرحاه إلى الأرض وجراه بعمامته، وهجم الديلم دار الخلافة إلى الحرم ونهبوها فلم يبق فيها شيء ومضى معز الدولة إلى منزله وساقوا المستكفي ماشياً إليه وخلع وسملت عيناه يومئذ.

 

وكانت خلافته سنة وأربعة أشهر وأحضروا الفضل بن المقتدر وبايعوه ثم قدموا ابن عمه المستكفي فسلم عليه بالخلافة وأشهد على نفسه بالخلع.

 

ورد في كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير:

"  لما رجع توزون إلى بغداد  وقد سمل عيني المتقي، استدعي بالمستكفي فبايعه ولقب بالمستكفي بالله، واسمه عبد الله، وذلك في العشر الأواخر من صفر من هذه  السنة، وجلس توزون بين يديه وخلع عليه المستكفي‏.‏

 

وكان المستكفي مليح الشكل ربعة حسن الجسم والوجه، أبيض اللون مشرباً حمرة أقنى الأنف، خفيف العارضين، وكان عمره يوم بويع بالخلافة إحدى وأربعين سنة‏.‏ ‏

 

وأحضر المتقي بين يديه وبايعه وأخذ منه البردة والقضيب، واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامري، ولم يكن إليه من الأمر شيء، وإنما الذي يتولى الأمور ابن شيرزاد، وحبس المتقي بالسجن‏.‏

 

وطلب المستكفي أبا القاسم الفضل بن المقتدر، وهو الذي ولي الخلافة بعد ذلك، ولقب المطيع لله، فاختفى منه ولم يظهر مدة خلافة المستكفي، فأمر المستكفي بهدم داره التي عند دجلة‏".‏

 

وزاد الخليفة في لقبه إمام الحق، وكتب ذلك على السكة المتعامل بها، ودعا له الخطباء على المنابر أيام الجُمع‏.‏

 

وجاء أيضاً:

" لما كان اليوم الثاني والعشرين من جمادى الآخرة حضر معز الدولة إلى الحضرة، فجلس على سرير بين يدي الخليفة، وجاء رجلان من الديلم فمدا أيديهما إلى الخليفة فأنزلاه عن كرسيه، وسحباه فتحربت عمامته في حلقه، ونهض معز الدولة واضطربت دار الخلافة حتى خلص إلى الحريم، وتفاقم الحال، وسيق الخليفة ماشياً إلى دار معز الدولة فاعتقل بها، وأحضر أبو القاسم الفضل بن المقتدر فبويع بالخلافة، وسملت عينا المستكفي وأودع السجن، فلم يزل به مسجوناً حتى كانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين  وثلاثمائة كما يأتي ذكر ترجمته هناك"‏.‏

 

ورد في كتاب "مروج الذهب" للمسعودي:

" وبويع المستكفي بالله، وهو أبو القاسم عبدُ اللّه بن علي المكتفي، يوم السبت لثلاث خَلَوْنَ من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وخُلِعَ في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، لسبع بَقِينَ من هذا الشهر، فكانت خلافته سنة وأربعة أشهر إلا أياماً، وأُمه أُم ولد.

 

ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه

قد قدَّمنا عندما ذكرنا خَيْر المتقي للّه أن المستكفي بويع له بالسبق على نهر عيسى من أعمال بادوريا بإزاء القرية المعروفة بالسندية في الوقت الذي سمِلَتْ فيه عينا المتقي، بايع به أبو الوفاء توزون وسائر مَنْ حضر من القُوَاد وأهل الدولة، وأهل عصره من القضاة منهم القاضي أبو الحسن محمد بن الحسين بن أبي الشوارب وجماعة من الهاشميين، فصلّى بهم في يومهم ذلك المغربَ والعشاء، وسار حتى نزل في يوم الأحد بالشَّماسية، فلما كان في يوم الاثنين انحدر في الماء راكباً في الطيار الذي يسمى الغزل، وعليه قلنسوة طويلة محدودة، ذكِرَ أنها كانت لأبيه المكتفي باللّه، وعلى رأسه توزون التركي ومحمد بن محمد بن يحيى بن شيرزاد وجماعة منِ غلمانه، وسُلّم إليه المتقي ضريراً، وأحمد بن عبد اللّه القاضي مقبوضاً عليه، وحضر بعد ذلك سائر القضاة والهاشميين، فبايعوا له، واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامريَّ مدة، تم غضب عليه، وغلب على أمره محمد بن شيرزاد، وجلس للناس، وسأل عن القضاة، وكَشَفَ عن أمر شهود الحضرة، فأمر بإسقاط بعضهم، وأمر باستتابة بعضهم من الكذب وقبول بعضهم لأشياء كان قد علمها منهم قبل الخلافة، فامتثل القضاة ما أمر به من ذلك، واستقضى على الجانب الشرقي محمد بن عيسى المعروف بابن أبي موسى الحنفي، وعلى الجانب الغربي محمد بن الحسين بن أبي الشوارب الأموي الحنفي، فقالت العامة: إلى هاهُنا انتهى سلطانه، وانتهى في الخلافة أمره وَنَهْيُه، وقد كان بينه وبين الفضل بن المقتدر الذي يسمى بالمطيع قبل ذلك مجاورة في دار ابن طاهر، وعداوة في اللعب بالحمام وتطييرها، واللعب بالكِبَاش والديوك والسمان، وهو الذي يسمى بالشام النفخ. فلما حُمل المستكفي إلى نهر عيسى ليبايع له هرب المطيع من داره، وعلم أنه سيأتي عليه، فلما استقرت للمستكفي طلب المطيع، فلم يقف له على خبر، فهدمَ داره، وأتى على جميع ما قدر عليه من بستان وغيره. 

 

المستكفي وغلام ضمه له توزون

وذكر أبو الحسن علي بن أحمد الكاتب البغدادي، قال: لما استخلف المستكفي ضم إليه توزونُ غلاماً تركياً من غلمانه يقف بين يديه، وكان للمستكفي غلام قد وقف على أخلاقه ونشأ في خدمته؛ فكان المستكفي يميل إلى غلامه، وكان توزون يريد من المستكفي أن يقدم المضموم إليه على غلامه الأول؛ فكان المستكفي يبعث بالغلام التركي في حوائجه، اتباعاً لمراضاة توزون، فلا يبلغ له ما يبلغ غلامه.

  

من أخبار الحجاج مع أهل الشام

قال: وأقبل المستكفي يوماً على محمد بن محمد بن يحيى بن شيرزاد الكاتب، فقال له: أتعرف خبر الحجاج بن يوسف مع أهل الشام؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: ذكروا أن الحجاج بن يوسف كان قد اجْتَبَى قوماً من أهل العراق وجَدَ عندهم من الكِفاية ما لم يجد عند مختصيِّه من الشاميين؛ فشق ذلك على الشاميين وتكلموا فيه، فبلغ إليه كرمهم؛ فركب في جماعة من الفريقين، وأوْغَلَ بهم في الصحراء؛ فلاَحَ لهم من بُعْدٍ قطارُ إبل؛ فدعا برجل من أهل الشام، فقال له: أمْض فاعرف ما هذه الأشباح، واسْتَقْص أمرها، فلم يلبث أن جاء وأخبره أنها إبل فقال: أمحملة هي؟ أم غير محملة؟ قال: لا أدري، ولكِني أعود وأتعرف ذلك، وقد كان الحجاج أتبعه برجل آخر من أهل العراق، وأمر بمثل ما كان أمَرَ الشاميَّ، فلما رجع العراقي أقبل عليه الحجاج وأهل الشام يسمعون، ما هي؟ قال: إبل، قال: وكم عددها؟ قال: ثلاثون، قال وما تحمل. قال: زيتاً، قال: ومن أين صَدَرَتْ! قال: من موضع كذا قال: وأين قصدت؟ قال: موضع كذا، قال: ومَنْ ربها؟ قال: فلان فالتفت إلى أهل الشام، فقال:

ألام على عمرو، ولو مات أو نأى

 

لقلَّ الذي يُغْنِي غَنَاءَكَ يا عمرو

 

فقال ابن شيرزاد: فقد قال: يا أمير المؤمنين بعضُ أهل الأدب في هذا المعنى:

شر الرسولين مَنْ يحتاج مرسلُه

 

منه إلى العَوْدِ، والأمران سيَّان

كذاك ما قال أهل العلم في مَثَلٍ

 

طريقُ كلِّ أخي جهلٍ طريقان

 

قال المستكفي: ما أحسن ما وصف البحتري الرسول بالذكاء بقوله:

وكأنَّ الذكاء يبعث مـنـه

 

في سواد الأمور شُعْلَةَ نار

 

وعلم ابن شيرزاد استثقال المستكفي لغلام توزون؛ فأخبر توزون بذلك فأعفاه منه، وأزاله عن خدمته.

 

مسامرة في وصف الخمر

وحَدَّثَ أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق المعروف بابن الوكيل البغدادي قال: كان أبي قديماً في خدمة المكتفي، فلما كان من أمره ما اشتهر، صرت في خدمة ابنه عبد اللّه بن المكتفي، فلما أفْضَتِ الخلافة إليه كنت أخَصِّ الناس به؛ فرأيته في بعض الأيام وعنده جماعة من ندمائه ممن كان يعاشرهم قبل الخلافة من جيرانه بناحية دار ابن طاهر، وقد تذاكروا الخمر وأفعالها، وما قال الناس فيها من المنثور والمنظوم، وما وصفت به، فقال بعض مَنْ حضر: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً وصف الخمرة بأحسن من وصف بعض من تأخر؛ فإنه ذكر في بعض كتبه في الشراب ووصفه أنه ليس في العالم شيء واحد أخذ من أمهاته الأربع فَضِيلَتَهَا وابتزَهَا أكرم خواصها إلا الخمرة؛ فلها لون النار، وهو أحسن الألوان، وَلدُونَة الهواء، وهي ألين المجسَّاتِ، وعذوبة الماء، وهي أطيب المذاقات، وَبَرْدُ الأرض، وهي ألذ المشروبات، قال: وهذه الأربع وإن كُنَّ في جميع المآكل والمشارب متركبة فليس الغالب عليه ما وصفنا من الغالب على الخمر، قال واصفها: قد قلت في اجتماع الصفات التي ذكرنا فيها:

لست أرى كالراح في جَمْعِهَا

 

لأربع هُـنَّ قِـوَامُ الـورى

عذوبة الماء ولـينُ الـهـوا

 

وسخنة النار وبرد الـثـرى

 

ولما كانت الراح بالموضع الذي وصفناها به، من الفضل على سائر ما ينال من هذه الدنيا، كانت الأوصاف أحسن لها من سائر ما ينال ويوصف من صنوف اللذات والمدح بها بما تبعث من فنون الشهوات.

 

قال: فأما شعاع الخمر فإنه يشبه بكل شيء نوري، من شمس وقمر ونجم ونار، وغير ذلك من الأشياء النورية، فأما لونها فيحتمل أن يشبه بكل أحمر في العالم وأصفر، من ياقوت وعقيق وذهب، وغير ذلك من الجواهر النفيسة والحلى الفاخرة. قال: وقد شبهها الأولون بدم الذبيح، ودم الجَوْفِ، وشبهها غيرهم بالزيت والرازقي وغيرهما، وتشبيهها بالجوهر الأكرم أفضل لها، وأحسن في مدحها.

 

قال: فأما صفاؤها فيحتمل أن يشبه بكل ما يقع عليه اسم الصفاء وقد قال بعض الشعراء المتقدمين في صفائها:

تُرِيكُ القَذَى من دونها وَهْيَ دونه

 

وهذا أحسن ما قاله الشعراء في وصف الخمر، قال: وقد أتى أب نُوَاسٍ في وصفها ووصف طعمها وريحها وحسنها ولونها وشعاعها وفعلها في النفس وصفة آلاتها وظروفها وأدْنَانِهَا، وحال المنادمات عليها والاصطباح، والاغتباق، وغير ذلك من أحوالها، بما يكاد يغلق به باب وصفها، لولا اتِّسَاع الأوصاف لها، واحتمالها إياها، وأنّها لا تكاد تحصر ولا يبلغ إلى غاياتها، قال: وقد وصف أبو نُوَاسٍ نورها فقال:

فكأنها في كـفـه

 

شمس وراحته قمر

 

وقال:

فعلت في البيت إذ مُزِجَتْ

 

مثل فعل الصبح في الظُّلَم

فاهتدى سَاري الظَّلاَم بهَـا

 

كاهتداء السَّفْرِ بِالـعـلـم

 

وقال أيضاً:

بنت عشر صَفَتْ ورقَّتْ فلو صبَّتْ على الليل راح كل ظلام

 

وقال أيضاً:

إذا عَبَّ فيها شاربُ القوم خِلْتَـه

 

يُقَبِّلُ في داج من الليل كَوْكَـبَـا

ترى حيثما كانت من البيت مشرقاً

 

وما لم تكن فيه من البيت مغربا

 

وقال أيضاً:

وكأن شاربها لفَرْطِ شعـاعـهـا

 

في الكأس يكرع في ضِيَا مقباس

 

وقال أيضاً:

فقلت له: ترفق بي فـإنـي

 

رأيت الصبح من خلل الديار

فقال تعجباً منـي: أصُـبْـحٌ

 

ولا صبح سوى ضوء العُقَارِ

وقام إلى الدنان فَسَدَ فـاهـا

 

فعاد الليل مصبـوغ الِإزار

 

وقال أيضاً:

وحمراء قبل المزج صفراء دونه

 

كأن شعاع الشمس يلقاك دونهـا

 

وقال:

كأن ناراً بها مُحَرَّشة

 

تهابها تارة وتخشاها

 

وقال أيضاً:

حمراء لولا إنكسار الماء لاختطفت

 

نور النواظر من بين الحمـالـيق

 

وقال أيضاً:

ينقضًّ منها شعاع كلما مزجـت

 

كالشُّهْبِ تنقضُّ في إثْر العفاريت

 

وقال:

عُتَقَتْ في الدنان حتى استفـادت

 

نور شمس الضحى وبَرْدَ الظلام

 

وقال:

فجوزَهَا عني عُقَارا ترى لـهـا

 

إلى الشرف الأعلى شعاعا مطنبا

 

وقال:

قال: ابْغِنِي المصباح، قلت لَه: اتئدْ

 

حَسْبِي وحَسْبُكَ ضوؤها مصباحا

فسكبت منها في الزجاجة شـربة

 

كانت لنا حتى الصباح صبـاحـا

 

قال: وله في هذا الفن أشياء كثيرة قد وصفها في مشابهة النار ومجانسة الأنوار والرفع للظلام، وتصيير الليل نهاراً والظلم أنواراً، مما هو إغراق الواصف واشتطاط المادح، قال: وليس إلى صفة لونها ونورها ما هو أحسن مما وصفها، إذ ليس بعد الأنوار شيء في الحسن، قال: فداخل المستكفي سرور وفرح وابتهاج بما وصف، فقال: ويحك!! فرج عني في هذا الوصف، قال: نعم يا سيدي.

 

قال عبد اللّه بن محمد الناشئ: وقد كان المستكفي تَرَكَ النبيذ حين أفْضَتِ الخلافة إليه، فدعا بها من وقته، ودعا إلى شربها، وقد كان المستكفي- حين أفضت الخلافة إليه- طَلَبَ الفضل بن المقتدر، على حسب ما قدمنا، لما كان بينهما من العداوة فيما ذكرنا، وغير ذلك مما عنه أعرضنا، فهرب الفضل، وقيل: إنه هرب إلى أحمد بن بُوَيْهِ الديلمي متنكراً، وأحسن إليه أحمد ولم يظهره، فلما مات توزون ودخل الديلمي إلى بغداد وخرج عنها صار إلى ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد اللّه بن حَمْدَان، وانحدر معه هو وابن عمه عبد اللّه بن أبي العلاء، فكان بينه وبين ابن بُوَيْهِ الديلمي من الحرب ما قد اشتهر، وانحاز الديلمي إلى الجانب الغربي ومعه المستكفي والمطيع مُخْتَفٍ ببغداد، والمستكفي يطلبه أشدَّ الطلب، وأنزل المستكفي في بيعة النصارى المعروفة بدُرْنَا من الجانب الغربي.

 

لابن المعتز في وصف سلة كوامخ

فذكر أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق المعروف بابن الوكيل، ومنزلتُهُ من خدمة المستكفي ما قدمنا، قال: كان المستكفي في سائر أوقاته فازعاً وَجِلاً من المطيع أن يلي الخلافة، ويُسَلّم إليه فيحكم فيه بما يريد، فكان صدره يضيق لذلك، فيشكو ذلك في بعض الأوقات إلى من ذكرنا ممن كان يألفه من ندمائه فيشجعونه ويهونون عليه أمر المطيع، إلى أن قال لهم في بعض الأيام: قد اشتهيت أن نجتمع في يوم كذا كذا فنتذاكر أنواع الأطعمة وما قال الناس في ذلك منظوماً، فاتفق معهم على ذلك، فلما كان في اليوم الذي- حضروا أقبل المستكفي فقال: هاتوا، ما الذي أعَدَّه كل واحد منكم. فقال واحد منهم: قد حضرني يا أمير المؤمنين أبيات لابن المعتز يصف سلة فيها سكارج كوامخ، فقال: هاتها، قال:

أمتع بسلة قضبـان أتـتـك وقـد

 

حَفَتْ جوانبها الجامات أسـطـار

فيها سكارج أنـواع مـصـفـفة

 

حمر وصفر وما فيهنَّ إنـكـار

فيهن كامخ طرخون مـبـوهـرة

 

وكامخ أحمـر فـيهـا وكـبـار

أعطته شمسُ الضحى لوناً فجاء به

 

كأنه من ضياء الشمس عـطـار

فيهنَّ كامخ مَرْزَ نجُوشَ قـابـلـه

 

من القرنفل نوع منه مـخـتـار

وكامخ الدار صيني فـلـيس لـه

 

في الطعم شِبْة ولا في لونه عار

كأنه المسك ريحاً في تنـسـمـه

 

حريف في طعمه والريح معطار

وكامخ الزَّعْتر الـبـريِّ إن لـه

 

لوناً حكاه لدينا المسـك والـقـار

وكامخ الثوم لما أن بصـرت بـه

 

أبصرت عطراً له بالأكل أمَّـارُ

كأن زيتونها فيهـا ظـلام دُجًـى

 

في الجنب منه من الممقور أسفار

إذا تأملت ما فيهن مـن بـصـل

 

كأنهـنَّ لـجـين حَـشْـوُهُ نـار

وسَلْجَمٌ مستدير القـد خـالـطـه

 

طعم من الخل قد حازته أسطـار

كأن أبـيضـه فـيه وأحـمـره

 

دراهم صففـت فـيهـن دينـار

في كل ناحية منها يلوح لها نجـم

 

إلينا بضوء الـفـجـر نـظَّـارُ

كأنها زهرة البستان قـابَـلَـهَـا

 

بدر وشمـس وإظـلام وأنـوار

 

لأبي نواس في وصف باطرنجا

فأقبل المستكفي على معلم كان يعلمه في صباه طيب النفس، وكان يضحك منه ويستطرفه، فقال له: قد أنشدنا ما سمعت، فأنشدنا أنت، قال: لا أدري ما قال هؤلاء، وما أنشدوا، غير أني مضيت في أمس يومنا هذا أدور حتى أتيت باطرنجا، فرأيت رياضها، فذكرت قول أبي نُوَاس فيها، فواللّه لقد شجاني، وذهب بي كل مذهب، فقال له المستكفي: وما الذي قال أبو نُوَاس، ووصف من أمرها؟ قال:

نومُ عـينيك يا ابـن وهب غِرَارُ

ولنار الهـوى بقـلـبـك نـــار

 

باطرنجا بها ثَوَائي ولي

فيها إذا دارت الكؤوس اعتبار

 

من حديثي أني مررت بها يَوْ

ماً وقلـبي من الهوى مُـسْـتَـطَـار

 

وبها نَرْجِـسٌ ينـادي غـلامـي

قف فقد أدرَكَـتْ لدينـا الـعـقـار

 

وتغنَّى الدرَّاج واستمطر

اللهو وجادت بِنَوْرِهَا الأزهار

 

فانثـنـينـا إلى رياض عـيون

ناظـرات ما إنْ بهِنَ احْوِرَارُ

ومكان الجفون منهـا ابيضاض

ومكان الأحداق منهـا اصفرار

بينمـا نحن عندها صَرَخَ الوَرْ

دُ: إلينـا يا أيُّهَا السُّمَّــار

عندنـا قهوة تغـافل عـنهـا

دهرهـا فالوجود منها خُمَـارُ

وانثنينا للورد من غير أن

تنبو عَنِ النّرْجِس المُضَاعف دار

فرأى النّرْجِس الذي صنع الوَرْ

د، فنادى مسـتصرخاً: يا بَهَـارُ

ورأى الورد عسكرين من

الصفر فنادى فجاءه الْجُلَّـنَـارُ

واستجاشا تُفّاحَ لُبْنَان لمَّا

حَمِيَتْ مـن وطـيسها الأوتـار

واستجاش البَهَارُ جيشاً

من الأتْرُجِّ فيه صِغَارُه والكـبـار

فرأيت الربيع في عسكَرِ

الصفر وقلبي يشفه الاحْمِرَارُ

ليس إلا لحمرة من خُدُودٍ

من أنَاس بَـغَـوْا علينا وَجَارُوا

 

فلم أر المستكفي منذ ولي الخلافة أشد سروراً منه في ذلك اليوم، وأجاز جميع مَنْ حضر من الجلساء والمغنين والملهين، ثم أحضر ما حضره في وقته من عَيْنٍ وَوَرِقٍ مع ضيق الأمر إليه، فواللّه ما رأيت له بعد ذلك يوماً مثله، حتى قَبَضَ عليه أحمد بن بُوَيْهِ الديلمي، وسَمَلَ عينيه، وذلك أن الحرب لما طالت بين أبي محمد الحسين بن عبد اللّه بن حمدان- وكان في الجانب الشرقي ومع الأتراك- وابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان، وبين أحمد بن بُوَيْهِ الديْلَمِي في الجانب الغربي، والمستكفي معه، اتهم الديلمي المستكفي بمسألة بني حَمْدَان ومكاتبتهم بأخباره، وإطلاعهم على أسراره، مع ما كان تقدم له في نفسه، فَسَمَلَ عينيه، ووَلّى المطيع، وأعمل الديلمي الحيلة في البيان بالديلم، فحملهم في السفن مع بوقات ودسَّابات فيِ الليل، وألقاهم في مواضع كثيرة من الشارع إلى الجانب الشرقي؛ فتَوَجَّهَتْ له على بني حَمْدَان الحيلة فخرجوا نحو الموصل من بعد أحداث كثيرة بين الأتراك وبينهم ببلاد تكريت، واستوثق الأمر لأحمد بْن بُوَيْهِ الديلمي، وشرع في عمارة البلد، وسد البُثُوقَ، على حسب ما ينمو إلينا من أخباره، واتصل بنا من أفعاله، على بعد الدار، وفساد السبل، وانقطاع الأخبار، وكوننا ببلاد مصر والشام.


قال المسعودي: ولم يتأتَّ لنا من أخبار المستكفي- مع قِصَرِ أيامه- غير ما ذكرنا، واللّه الموفق للصواب".

 

وورد في "سير أعلام النبلاء" للذهبي:

" الخليفة المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي علي بن المعتضد العباسي.

كان ربع القامة مليحاً معتدل البدن أبيض بحمرة خفيف العارضين وأمه أم ولد.

 

بويع وقت خلع المتقي لله وله يومئذ إحدى وأربعون سنة قام ببيعته توزون فأقبل أحمد بن بويه واستولى على الأهواز والبصرة وواسط فبرز لمحاربته جيش بغداد مع توزون فدام الحرب بينهما أشهراً وينهزم فيها توزون ولازمه الصرع وضاق بأحمد الحال والقحط فرد إلى الأهواز وقطع توزون الجسر وراءه وعاد إلى بغداد مشغولا بنفسه ووزر أبو الفرج السامري ثم عزله توزون بعد أربعين يوماً وأغرمه ثلاث مئة ألف دينار ورد إلى الوزارة أبا جعفر بن شيرزاد واشتد بالعراق القحط ومات الناس جوعاً وهلك ملك الأمراء توزون في أول سنة أربع فطمع في منصبه ابن شيرزاد وحلف العساكر ونزل بظاهر بغداد وبعث المستكفي إليه بالخلع والإقامات فصادر التجار والكتاب وسلط جنده على العوام فهرب الناس وانقطع الجلب ووهن أمن بغداد وأما أحمد بن بويه فقصد بغداد ونزل باجسراي وهرب الأتراك إلى الموصل واستتر المستكفي وابن شيرزاد فنزل معز الدولة أحمد بن بويه بالشماسية وبعث إليه الخليفة التحف والخلع ثم حضر وبايع فلقبه الخليفة بمعز الدولة ولقب أخاه عليا عماد الدولة وأخاه الآخر الحسن ركن الدولة وضربت أسماؤهم على السكة ثم ظهر ابن شيرزاد وقرر مع معز الدولة أموراً منها في الشهر للخليفة مئة وخمسون ألف درهم ليس إلا وكانت علم القهرمانة معظمة عند المستكفي تأمر وتنهى فعملت دعوة للأمراء فاتهمها معز الدولة وكان أصفبذ قد شفع إلى الخليفة في شيعي مغبن فرده فحقد وقال لمعز الدولة الخليفة يراسلني فيك فتخيل منه ثم دخل على الخليفة اثنان من الديلم فطلبا منه الرزق فمد يده للتقبيل فجبذاه من سرير الخلافة وجراه بعمامته ونهبت داره وأمسكوا القهرمانة وجماعة وساقوا المستكفي ماشيا إلى منزل معز الدولة فخلع المستكفي وسمله فكانت خلافته ستة عشر شهرا وبايعوا في الحال الفضل بن المقتدر ولقبوه المطيع لله وبقي المستكفي مسجوناً إلى أن مات في سنة ثمان وثلاثين مئة وله ست وأربعون سنة واستقل بملك العراق معز الدولة وضعف دست الخلافة جداً وظهر الرفض والاعتزال ببني بويه نسأل الله العفو وكان إكحال المستكفي بعد أن خلع نفسه ذليلاً مقهوراً في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين فعاش بعد العزل والكحل أربعة أعوام".