غزوة الخندق

غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق هي معركة وقعت في الخامس للهجرة بين المسلمين و قريش وأنصارها من غطفان وكنانة انتهت بنصر المسلمين.

 

تعود أسباب المعركة أن الرسول بعد أن أجلى بني النظير وهم قسم من يهود المدينة وساروا إلى خيبر أخذو على تغليب قريش وغطفان على حرب الرسول محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) فخرج لذلك رئيسهم حيي ابن أخطب إلى قريش بمكة وعاهدهم على حرب النبي وقال لهم: إنه قد بقي من قومه سبعمائة نفر في المدينة وهم بنو قريضة وبينهم وبين محمد عهد وميثاق وأنه يحملهم على نقض العهد ليكونوا معهم، فسار معه أبو سفيان وغيره من رؤساء قريش في قبائل العرب حتى اجتمع على قتال النبي قدر عشرة آلاف مقاتل من قريش كنانة والأقرع بن حابس في قومه، وعباس بن مرداس في بني سليم، وغطفان.

 

وهكذا انطلق جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل يقودهم أبو سفيان بن حرب وذلك في السنة الخامسة من الهجرة من شهر شوال.

لما علم الرسول بالأمر، استشار أصحابه وقادته في الحرب وأشار الصحابة بالبقاء في المدينة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق في مشارف المدينة ، فاستحسن الرسول والصحابة رأيه ، وعملوا به . كما أن يهود بني قريظة مدوا لهم يد المساعدة من معاول ومكاتل بموجب العهد المكتوب بين الطرفين. واستطاع المسلمون إنهاء حفر الخندق بعد مدة دامت خمس عشر يوماً.

 

بدت طلائع جيوش المشركين مقبلة على المدينة من جهة جبل أحد، ولكنهم فوجئوا بوجود الخندق فتفاجؤا به وقاموا إزاء المدينة شهرا.

 

لم يجد المشركون سبيلا للدخول إلى المدينة، وبقوا ينتظرون أياما وليالي يقابلون المسلمين من غير تحرك، حتى جاء حيي بن أخطب الذي تسلل إلى بني قريظة، وأقنعهم بفسخ الاتفاقية بين بني قريظة والمسلمين، ولما علم الرسول عليه الصلاة والسلام بالأمر أرسل بعض أصحابه ليتأكد من صحة ما قيل، فوجده صحيحا. وهكذا أحيط المسلمون بالمشركين من كل حدب وصوب، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ييأسوا، لأنهم كانوا على يقين بأن عين الله ترعاهم.

 

استطاع عكرمة بن أبي جهل وعمرو بن عبد ود العامري المعروف بفارس الجزيره أو فارس العرب فدعا أن يخرج له أحد من المسلمين يبارزه ولم يبرز له أحد إلا علي بن أبي طالب (امير المؤمنين). كان صغير السن إلا إن شجاعته لاتخفى على أحد وحين برز علي بن أبي طالب(ع) قال الرسول صلى الله عليه وآله. وقتل علي عمرو.. واستطاع عدد من المشركين عبور خندق المدينة واقتتلوا مع المسلمين، فقُتل من قُتل، وهرب من هرب ، وكان من جملة الهاربين عكرمة .

 

بعد مقتل عمر بن عبد ود العامري بادر علي بن ابي طالب (ع) إلى سد الثغرة التي عبر منها عمرو بن ود العامري ورجاله ورابط عندها مزمعا القضاء على كل من تسول له نفسه التسلل من المشركين، ولولا ذلك لاقتحم جيش المشركين المدينة على المسلمين بذلك العدد الهائل.

 

وهكذا كانت بطولة علي بن ابي طالب (ع) في غزوة الأحزاب من أهم عناصر النصر للمعسكر الإسلامي وانهزام المشركين.

 

ولما طال مقام قريش تفككت روابط جيش المشركين، وانعدمت الثقة بين أطراف القبائل، كما أرسل الله ريحا شديدة قلعت خيامهم،

 

وجرفت مؤنهم، وأطفأت نيرانهم، فرجعوا إلى مكة ورجعت غطفان إلى بواديها.

 

وحين أشرق الصبح، لم يجد المسلمون أحدا منهم.

 

جاء في "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لابن الجوزي:

" كانت في ذي القعدة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير ساروا إلى خيبر فخرج نفر من أشرافهم ووجوههم إلى مكة فالتقوا قريشًا ودعوهم إلى الخروج واجتمعوا معهم على قتاله وواعدوهم لذلك موعدًا ثم خرجوا من عندهم فأتوا غطفان وسليم ففارقوهم على مثل ذلك وتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب فكانوا أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير وخرجوا يقودهم أبو سفيان ووافتهم بنو سليم بمر الظهران وهم سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس وخرجت معهم بنو أسد يقودهم طلحة بن خويلد وخرجت فزارة وهم ألف يقودهم عقبة بن حصين وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف‏.‏

 

وروى الزهري أن الحارث رجع ببني مرة ت فلم يشهد الخندق منهم أحد والأول أثبت‏.‏

 

وكان جميع من وافوا الخندق ممن ذكر من القبائل عشرة آلاف وهم الأحزاب وكانوا ثلاثة عساكر والجملة بيد أبي سفيان فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصولهم من مكة ندب الناس وأخبرهم خبرهم وشاورهم فأشار سلمان الفارسي بالخندق فأعجب ذلك المسلمين وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سفح سلع وجعل سلعًا خلف ظهره وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم‏.‏

 

ثم خندق على المدينة وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم عدوهم وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بيده لينشطرا ففرغوا منه في ستة أيام‏.‏

 

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن قال‏:‏ حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي قال‏:‏ أخبرنا هوذة بن خليفة قال‏:‏ أخبرنا عوف عن ميمون قال‏:‏ حدثني البراء بن عازب قال‏:‏ لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول قال‏:‏ فشكينا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها ألقى ثوبه وأخذ المعول وقال‏:‏ بسم الله ثم ضرب ضربة فكسر ثلثها وقال‏:‏ الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة ثم ضرب الثانية فقطع ثلثًا آخر فقال‏:‏ الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ثم ضرب الثالثة وقال‏:‏ بسم الله فقطع بقية الحجر وقال‏:‏ الله أكبر قال علماء السير‏:‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثماني ليال مضين من ذي القعدة وكان لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة ودس أبو سفيان بن حرب حيي بن أخطب إلى بني قريطة يسألهم أن ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكونوا معهم عليه فامتنعوا ثم أجابوا وبلغ ذلك رسول الله قال‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل وفشل الناس وعظم البلاء واشتد الخوف وخيف على الذراري والنساء وكانوا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر‏}‏‏.‏

 

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وكتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة وإنما كانت مراوضة ومراجعة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وابن عبادة فأخبرهما بذلك فقالا‏:‏ هذا شيء تحبه أو شيء أمرك الله به قال‏:‏ لا بل أصنعه لأجلكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فقالا‏:‏ قد كنا نحن وهم على الشرك وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة فحين أذن الله بالإسلام نفعل هذا ما لنا إلى هذا حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا قال‏:‏ فأنتم وذاك فتناول سعد الصحيفة التي كتبوها فمحاها وقال ليجهدوا علينا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وجاه العدو لا يزولون غير أنهم يعتقبون خندقهم ويحرسونه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير وكانوا يخافون على الذراري من بني قريظة وكان عباد بن بشر على حرس قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عشرة من الأنصار يحرسونه كل ليلة فكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان يومًا ويغدو خالد بن الوليد يومًا ويغدو عمرو بن العاص يومًا ويغدو هبيرة بن أبي وهب يومًا ويغدو عكرمة بن أبي جهل يومًا ويغدو ضرار بن الخطاب يومًا فلا يزالون يجيلون خيلهم ويتفرقون مرة ويجتمعون أخرى ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدمون رماتهم فيرمون فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله فقال‏:‏ خذها وأنا ابن العرقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ عرق الله وجهك في النار ‏"‏ ويقال‏:‏ الذي رماه أبو أسامة الجشمي‏.‏

 

أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا ابن الفهم قال‏:‏ أخبرنا محمد بن سعد أخبرنا يزيد بن هارون‏.‏

 

وأخبرنا عاليا بن الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا ابن مالك قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ أخبرت يزيد بن هارون قال أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده عن عائشة قالت‏:‏ خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس فسمعت وئيد الأرض من ورائي - يعني حس الأرض - فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل رمحه فجلست إلى الأرض فمر سعد وهو يرتجر ويقول‏:‏ لبث قليلًا يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل‏.‏

 

قالت‏:‏ وعليه درع قد خرجت منه أطرافه فأنا أتخوف على أطراف سعد وكان سعد من أطول الناس وأعظمهم قالت‏:‏ فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين فيهم عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه تسبغة له - تعني المغفر - قالت فقال لي عمر‏:‏ ما جاء بك والله إنك لجريئة وما يؤمنك أن يكون تحوز أو بلاء قالت‏:‏ فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت ساعتئذ فدخلت فيها قالت‏:‏ فرفع الرجل التسبغة عن وجهه فإذا طلحة بن عبيد الله فقال‏:‏ ويحك يا عمر إنك قد أكثرت منذ اليوم وأين التحوز وأين الفرار إلا إلى الله قالت‏:‏ ويرمي سعدًا رجل من المشركين من قريش يقال له ابن العرقة بسهم فقال‏:‏ خذها وأنا ابن العرقة فأصاب أكحله فدعا الله عز وجل سعد فقال‏:‏ اللهم لا تمتني حتى تشفيني من قريظ - وكانوا مواليه وحلفاءه في الجاهلية - قالت‏:‏ فرقأ كلمه وبعث الله تعالى الريح على المشركين ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويًا عزيزًا‏}‏‏.‏

 

قال مؤلف الكتاب‏:‏ العرقة أم حبان بن عبد مناف بن منقد بن عمر وسميت العرقة لطيب ريحها‏.‏

 

قال علماء السير‏:‏ لما حام الأحزاب حول الخندق أيامًا أجمع رؤساؤهم أن يغدوا يومًا فغدوا جميعًا وطلبوا مضيقًا من الخندق يقحمون فيه خيلهم فلم يجدوا فقالوا‏:‏ إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تصنعها فقيل لهم‏:‏ إن معه رجلًا فارسيًا فهو أشار عليه بذلك فصاروا إلى مكان ضيق فعبر عكرمة ونوفل وضرار وهبيرة وعمرو بن عبد ود فجعل عمرو يدعو إلى البراز وهو ابن تسعين سنة فقال علي رضي الله عنه‏:‏ أنا أبارزه فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سيفه وعممه وقال‏:‏ ‏"‏ اللهم أعنه عليه ‏"‏ فضربه علي فقتله وولى أصحابه هاربين وحمل الزبير على نوفل فقتله‏.‏

 

أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال‏:‏ أخبرنا ابن المسلمة قال‏:‏ أخبرنا أبو طاهر المخلص قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن سلمان بن داوود قال‏:‏ أخبرنا الزبير بن بكار قال‏:‏ عمرو بن عبد ود وضرار بن الخطاب وعكرمة بن أبي جهل ونوفل بن عبد الله بن المغيرة هم الذين طفروا عمرو بن ود كان أول فارس جزع المزاد وكان فارس يليل قال مؤلف الكتاب‏:‏ المزاد موضع من الخندق فيه حفر ويليل واد قريب من بدر‏.‏

 

ولما جزع عمرو بن عبد المزاد دعى البراز وقال يرتجز‏:‏ ولقد بححت من النداء بجمعكم‏:‏ هل من مبارز ووقفت إذ جبن الشجا ع بموقف البطل المناجز إني كذلك لم أزل متسرعًا نحو الهزاهز إن الشجاعة والسم احة في الفتى خير الغرائز فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم أجابه يقول‏:‏ لا تعجلن فقد أتا ك مجيب صوتك غير عاجز ذو نية وبصيرة والصدق منجي كل فائز إني لأرجو أن أقي م عليك نائحة الجنائز من ضربة فوهاء يب قى ذكرها عند الهزاهز ثم دعاه أن يبارزه فقال له علي‏:‏ يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لقريش لا يدعوك رجل إلى رسوله وإلى الإسلام فقال‏:‏ لا حاجة لي بذلك قال‏:‏ فإني أدعوك إلى مبارزة‏.‏

 

قال‏:‏ يا ابن أخي والله ما أحب أن أقتلك فقال له علي‏:‏ لكني والله أنا أحب أن أقتلك فحمي عمرو واقتحم عن فرسه وعرقبه ثم أقبل فتناورا وتجاولا وثارت عليهما غبرة سترتهما عن المسلمين فلم يرع المسلمين إلا التكبير فعرفوا أن عليًا رضي الله عنه قتله فانجلت الغبرة وعلي على صدره يذبحه‏.‏

 

قال علماء السير‏:‏ لما قتل عمرو رثته أمه فقالت‏:‏ لو كان قاتل عمرو غير قاتله ما زلت أبكي عليه دائم الأبد لكن قاتله من لا يقال به من كان يدعى أبوه بيضة البلد ثم تواعدا أن يأتوا من الغد فباتوا يعبئون أصحابهم ونحوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد فقاتلوهم يومهم ذلك إلى هوي من الليل ما يقدرون أن يزولوا عن مكانهم ولا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ظهرًا ولا عصرًا حتى كشفهم الله عز وجل فرجعوا منهزمين فلم يكن لهم بعد ذلك قتال - يعني انصرفوا - إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة فمال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الذي فاتته الصلاة فيه‏:‏ ‏"‏ شغلونا عن الصلاه الوسطى ‏"‏‏.‏

 

أخبرنا هبة الله بن محمد قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ أخبرنا أبو معاوية قال‏:‏ أخبرنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن شتير بن شكل عن علي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب‏:‏ ‏"‏ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا ‏"‏ ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء‏.‏

أخرجاه في الصحيحين‏.‏

 

وحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة وقيل‏:‏ أربعا وعشرين ليلة حتى خلص إلى كل أمر منهم الكرب‏.‏

ودعى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الأحزاب‏.‏

 

ويروى في مسجد الفتح‏".‏

أخبرنا هبة الله بن محمد قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن أحمد قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ أخبرنا أبو عامر قال‏:‏ أخبرنا كثير بن زيد قال‏:‏ حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال‏:‏ حدنا جابر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد الفتح ثلاثًا‏:‏ يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه‏.‏

 

قال جابر‏:‏ فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة‏.‏

قالوا‏:‏ وكان نعم بن مسعود الأشجعي قد أسلم وحسن إسلامه فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذل بينهم‏.‏

فأنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيويه قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن الفهم قال‏:‏ أخبرنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمر‏.‏

 

وبه قال أخبرنا عبد الله بن عاصم الأشجعي عن أبيه قال‏:‏ قال نعيم بن مسعود‏:‏ لما سارت الأحزاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرت مع قومي وأنا على ديني فقذف الله في قلبي الإسلام فكتمت ذلك قومي وأخرج حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء فأجده يصلي فلما رآني جلس وقال‏:‏ ‏"‏ ما جاء بك يا نعيم ‏"‏ وكان بي عارفًا قلت‏:‏ إني جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق فمرني بما شئت قال‏:‏ أما استطت أن تخذل عنا الناس فخذل قلت‏:‏ أفعل ولكن يا رسول الله أقول قال‏:‏ ‏"‏ قل ما بدا لك فأنت في حل ‏"‏ قال‏:‏ فذهبت إلى قريظة فقلت‏:‏ اكتموا علي قالوا‏:‏ نفعل فقلت‏:‏ إن قريشًا وغطفان على الانصراف عن محمد صلى الله عليه وسلم إن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا إلى بلادهم فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناء قالوا‏:‏ أشرت علينا والنصح لنا ثم خرجت إلى أبي سفيان بن حرب فقلت قد جئتك بنصيحة فاكتم علي قال‏:‏ أفعل قلت‏:‏ تعلم أن قريظة قد ندموا على ما فعلوا فيما بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم وأرادوا إصلاحه ومراجعته فأرسلوا إليه وأنا عندهم إنا سنأخذ من قريش وغطفان سبعين رجلًا من أشرافهم نسلمهم إليك تضرب أعناقهم ونكون معك على قريش وغطفان حتى نردهم عنك وترد حناحنا الذي كسرت إلى ديارهم - يعني بني النضير - فإن بعثوا إليكم يسألونكم رهنًا فلا تدفعوا إليهم أحدًا واحذروهم ثم أتى غطفان فقال لهم مثل ذلك وكان رجلًا منهم فصدقوه وأرسلت قريظة إلى قريش‏:‏ إنا والله ما نخرج فنقاتل محمدًا صلى الله عليه وسلم حتى تعطونا رهنًا منكم يكونون عندنا فإنا نتخوف أن تنكشفوا وتدعونا ومحمدًا فقال أبو سفيان‏:‏ صدق نعيم‏.‏

 

وأرسلوا إلى غطفان بمثل ما أرسلوا إلى قريش فقالوا لهم مثل ذلك وقالوا جميعًا‏:‏ إنا والله ما نعطيكم رهنًا ولكن أخرجوا فقاتلوا معنا‏.‏

فقالت اليهود‏:‏ نحلف بالتوراة أن الخبر الذي قال نعيم لحق وجعلت قريش وغطفان يقولون‏:‏ الخبر ما قال نعيم ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء وهؤلاء من نصر هؤلاء‏.‏

 

واختلف أمرهم وتفرقوا في كل وجه وكان نعيم يقول‏:‏ أنا خذلت بين الأحزاب حتى تفرقوا في كل وجه وأنا أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على سره‏.‏

 

قال علماء السير‏:‏ فلما استوحش كل فريق من صاحبه اعتلت قريظة بالسبت فقالوا‏:‏ لا نقاتل وهبت ليلة السبت ريح شديدة فقال أبو سفيان‏:‏ يا معشر قريش إنكم والله لستم بدار مقام لقد هلك الخف والحافر وأجدب الجناب وأخلفتنا بنو قريظة ولقد لقينا من الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بحضرته أحد من العساكر قد انقشعوا فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة لينظر ما فعل القوم‏.‏

 

فروى مسلم في أفراده من حديث إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبيه قال‏:‏ كنا عند حذيفة فقال رجل‏:‏ لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت فقال حذيفة‏:‏ أنت كنت تفعل ذلك لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا رجل يأتينا نجبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ‏"‏ فسكتنا فلم يجبه أحد ثم قال‏:‏ ‏"‏ ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ‏"‏ فسكتنا ولم يقم قائم فقال‏:‏ ‏"‏ قم يا حذيفة ‏"‏ فلم أجد بدًا إذ دعاني باسمي إلا أن أقوم قال‏:‏ ‏"‏ اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي ‏"‏ فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهمي في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تذعرهم علي ‏"‏ فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام فلما أتيته أخبرته خبر القوم وفرعت وقررت فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائمًا حتى أصبحت قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ قم يا نومان ‏"‏‏.‏

وقد رواه ابن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان‏:‏ يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبتموه قال‏:‏ نعم يا ابن أخي قال‏:‏ كيف كنتم تصنعون قال‏:‏ والله لقد كنا نجهد فقال الفتى‏:‏ والله لو أدركناه ماتركناه يمشي على وجه الأرض ولحملناه على أعناقنا فقال حذيفة‏:‏ يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق يصلي هويًا من الليل ثم التفت إلينا فقال‏:‏ ‏"‏ من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ‏"‏ وشرط له انه إذا رجع أدخله الله الجنة فما قام رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويًا من الليل ثم التفت إلينا فقال مثل ذلك ثم قال‏:‏ ‏"‏ أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة ‏"‏‏.‏

 

فما قام أحد من شدة الخوف والجوع والبرد فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام فقال‏:‏ ‏"‏ يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون ‏"‏‏.‏

 

فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل فلا تترك قدرًا ولا نارًا ولا بناء‏.‏

فقام أبو سفيان فقال‏:‏ يا معشر قريش لينظر امرؤ جليسه فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت‏:‏ من أنت فقال‏:‏ أنا فلان بن فلان ثم قال أبو سفيان‏:‏ يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل‏.‏

فرجعت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ لم يقتل يوم الخندق من المسلمين إلا ستة نفر وقتل من المشركين ثلاثة‏".‏

 

جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير:

" وقد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الأحزاب فقال تعالى:

‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ * أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9-27‏]‏‏.‏ ‏

وقد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير، ولله الحمد والمنة، ولنذكر ها هنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

 

وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، نص على ذلك ابن إسحاق، وعروة بن الزبير، وقتادة والبيهقي، وغير واحد من العلماء سلفاً وخلفاً‏.‏

 

وقد روى موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال‏:‏ ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع‏.‏

 

وكذلك قال الإمام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه‏.‏

 

قال البيهقي‏:‏ ولا اختلاف بينهم في الحقيقة لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين، وقبل استكمال خمس، ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد، واعدوا المسلمين إلى بدر العام المقابل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع، ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس، والله أعلم‏.‏

 

وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أُحداً في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي‏.‏

 

وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي، وقد صرح بأن بدراً في الأولى، وأحداً في سنة ثنتين، وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع، وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك من ربيع الأول سنة الهجرة، فصارت الأقوال ثلاثة، والله أعلم‏.‏

 

والصحيح قول الجمهور أن أحداً في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، والله أعلم‏.‏

 

فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال‏:‏ عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقد أجاب عنها جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب في أواخر الخامسة عشرة‏.‏

 

قلت‏:‏ ويحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه يوم الأحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التي يجاز لمثلها الغلمان، فلا يبقى على هذا زيادة عليها، ولهذا لما بلَّغ نافع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال‏:‏

إن هذا الفرق بين الصغير والكبير، ثم كتب به إلى الآفاق، واعتمد على ذلك جمهور العلماء، والله أعلم‏.‏

 

وهذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق وغيره‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس، فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة ومن لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض قالوا‏:‏

 

إنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود منهم‏:‏ سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله‏.‏

 

فقالت لهم قريش‏:‏ يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه‏.‏

قالوا‏:‏ بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 51 -52‏]‏

 

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه‏.‏ ‏

 

فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع‏.‏

 

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة‏.‏

 

قال ابن هشام‏:‏ يقال إن الذي أشار به سلمان‏.‏

قال الطبري، والسهيلي‏:‏ أول من حفر الخنادق منوشهر بن أيرج بن أفريدون، وكان في زمن موسى عليه السلام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، وتخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف، ومنهم من ينسل خفية بغير إذنه ولا علمه عليه الصلاة والسلام‏.‏

 

وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62-64‏]‏‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ فعمل المسلمون فيه حتى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جُعيل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً، فقالوا فيما يقولون‏:‏

سماه من بعد جُعَيلِ عمراً * وكان للبائس يوماً ظهرا

 

وكانوا إذا قالوا عمراً، قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً، وإذا قالوا ظهراً قال لهم ظهراً‏.‏

 

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد سمعت أنساً قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر الأنصار والمهاجره‏)‏‏)‏ فقالوا مجيبين له‏:‏

نحن الذين بايعوا محمداً * على الجهاد ما بقينا أبدا

 

وفي الصحيحين من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس نحوه‏.‏

 

وقد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن أنس بنحوه‏.‏

 

وقال البخاري‏:‏ حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال‏:‏ جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم ويقولون‏:‏

نحن الذين بايعوا محمداً * على الإسلام ما بقينا أبدا

 

قال‏:‏ يقول النبي صلى الله عليه وسلم مجيباً لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة‏)‏‏)‏

 

قال‏:‏ يؤتون بملء كفي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن‏.‏

 

وقال البخاري‏:‏ حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار‏)‏‏)‏‏.‏

 

ورواه مسلم، عن القعنبي، عن عبد العزيز به‏.‏

 

وقال البخاري‏:‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه، أو أغبر بطنه يقول‏:‏

والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته‏:‏ أبينا أبينا‏.‏

 

ورواه مسلم من حديث شعبة به‏.‏

 

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثني إبراهيم بن يوسف، حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن البراء يحدث قال‏:‏ لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة، وهو ينقل من التراب يقول‏:‏ ‏

اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا

ثم يمد صوته بآخرها‏.‏

 

وقال البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلي، حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخي، حدثنا المسيب بن شريك، عن زياد بن أبي زياد، عن أبي عثمان، عن سلمان‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق وقال‏:‏

بسم الله وبه هُدينا * ولو عبدنا غيره شقينا

يا حبذا رباً وحبَّ دينا

وهذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏

 

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، عن معاوية ابن قرة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهم يحفرون الخندق‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم لا خير إلا خير الآخرة فأصلح الأنصار والمهاجرة‏)‏‏)‏‏.‏

وأخرجاه في الصحيحين من حديث غندر، عن شعبة‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ وقد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون‏.‏

 

فمن ذلك أن جابر بن عبد الله كان يحدث‏:‏ أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كُدْيَة، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية‏.‏

 

فيقول من حضرها‏:‏ فوالذي بعثه بالحق نبياً، لانهالت حتى عادت كالكثيب، ما ترد فأساً ولا مسحاة‏.‏ هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه‏.‏

 

وقد قال البخاري - رحمه الله -‏:‏ حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه قال‏:‏ أتيت جابراً فقال‏:‏ أنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْيًة شديدة، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هذه كدية عرضت في الخندق، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا نازل‏)‏‏)‏‏.‏

 

ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل، أو أهيم‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله ائذن لي إلى البيت‏.‏ فقلت لامرأتي‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء‏؟‏

 

قالت‏:‏ عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت‏:‏ طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كم هو ‏؟‏‏)‏‏)‏ فذكرت له، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي‏)‏‏)‏‏.‏

 

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا‏)‏‏)‏ فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال‏:‏ ويحك، جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم‏.‏

قالت‏:‏ هل سألك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادخلوا ولا تضاغطوا‏)‏‏)‏ فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية‏.‏ قال‏:‏ كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة‏.‏ تفرد به البخاري‏.‏

وقد رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه أيمن الحبشي مولى بني مخزوم، عن جابر بقصة الكدية، وربط الحجر على بطنه الكريم‏.‏

 

ورواه البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر قصة الكدية والطعام، وطوله أتم من رواية البخاري قال فيه‏:‏

لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار الطعام، قال للمسلمين جميعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏قوموا إلى جابر‏)‏‏)‏ فقاموا، قال‏:‏ فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت‏:‏ جاءنا بخلق على صاع من شعير وعناق، ودخلت على امرأتي أقول‏:‏ افتضحت جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين‏.‏

 

فقالت‏:‏ هل كان سألك كم طعامك‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقالت‏:‏ الله ورسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا‏.‏

قال‏:‏ فكشفت عني غماً شديداً‏.‏

قال‏:‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏خدمي ودعيني من اللحم‏)‏‏)‏ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يثرد، ويغرف اللحم، ويخمر هذا، ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا‏.‏

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏كلي وأهدي‏)‏‏)‏ فلم تزل تأكل وتهدي يومها‏.‏

وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر به، وأبسط أيضاً‏.‏

وقال في آخره‏:‏ وأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة، أو قال ثلثمائة‏.‏

وقال يونس بن بكير‏:‏ عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر فذكر القصة بطولها في الطعام فقط، وقال‏:‏ وكانوا ثلثمائة‏.‏

 

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن أبي الزبير، حدثنا ابن ميناء، سمعت جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما حفر الخندق رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً، فانكفأت إلى امرأتي فقلت‏:‏ هل عندك شيء‏؟‏ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً‏.‏

 

فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه‏.‏

 

فجئته فساررته، فقلت‏:‏ يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سؤراً فحيهلا بكم‏)‏‏)‏‏.‏

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء‏)‏‏)‏ فجئت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت‏:‏ بك وبك، فقلت‏:‏ قد فعلت الذي قلت، فأخرجت لنا عجيناً فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك‏.‏

 

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك، ولا تنزلوها‏)‏‏)‏ وهم ألف، فأُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا كما هو‏.‏

 

ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم به نحوه‏.‏

 

وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث، وفي سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال‏:‏

حدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وكانت عندي شويهة غير جد سمينة قال‏:‏ فقلت والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وأمرت امرأتي، فطحنت لنا شيئاً من شعير، فصنعت لنا منه خبزاً، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 

فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق، قال وكنا نعمل فيه نهاراً، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا فقلت‏:‏ يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئاً من خبز هذا الشعير، فأنا أحب أن تنصرف معي إلى منزلي‏.‏

 

قال‏:‏ وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده‏.‏

قال‏:‏ فلما أن قلت ذلك، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏ ثم أمر صارخاً فصرخ، أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

قال‏:‏ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، قال‏:‏ فبرك وسمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا، وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها‏.‏

 

والعجب أن الإمام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق عنه، عن جابر مثله سواء‏.‏

 

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وحدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت‏:‏ دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت‏:‏ أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما‏.‏

 

قالت‏:‏ فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ألتمس أبي وخالي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏تعالي يا بنية ما هذا معك‏؟‏‏)‏‏)‏

قالت‏:‏ قلت يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هاتيه‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأتهما‏.‏ ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب‏.‏

ثم قال لإنسان عنده‏:‏ ‏(‏‏(‏اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء‏)‏‏)‏ فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب‏.‏

 

هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع‏.‏

 

وهكذا رواه الحافظ البيهقي من طريقه، ولم يزد‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال‏:‏ ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى‏.‏

 

قال‏:‏ ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال‏:‏ قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أوقد رأيت ذلك يا سلمان ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق‏)‏‏)‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في ‏(‏مغازيه‏)‏‏.‏

وذكره أبو الأسود عن عروة‏.‏

 

ثم روى البيهقي من طريق محمد بن يونس الكديمي، وفي حديثه نظر‏.‏

 

لكن رواه ابن جرير في ‏(‏تاريخه‏)‏ عن محمد بن بشار وبندار، كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، فذكر حديثاً فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّ الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعاً‏.‏

قال‏:‏ واحتق المهاجرون والأنصار في سلمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏سلمان منا أهل البيت‏)‏‏)‏‏.‏

 

قال عمرو بن عوف‏:‏ فكنت أنا وسلمان، وحذيفة، والنعمان بن مقرن، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى، ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا‏.‏

 

فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة تركية، فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون‏.‏

 

ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه عن ذلك النور، فقال‏:‏

‏(‏‏(‏لقد أضاء لي من الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا‏)‏‏)‏ واستبشر المسلمون وقالوا‏:‏ الحمد لله موعود صادق‏.‏

 

قال‏:‏ ولما طلعت الأحزاب قال المؤمنون‏:‏ هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً، وقال المنافقون‏:‏ يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ وهذا حديث غريب‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا هارون بن ملول، حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، فخندق على المدينة قالوا‏:‏ يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها‏.‏

 

فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏فتحت فارس‏)‏‏)‏ ثم ضرب أخرى فكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال ‏(‏‏(‏فتحت الروم‏)‏‏)‏ ثم ضرب أخرى فكبر‏.‏

فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏جاء الله بحمير أعواناً وأنصاراً‏)‏‏)‏ وهذا أيضاً غريب من هذا الوجه، وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي فيه ضعف، فالله أعلم‏.‏

 

وقال الطبراني أيضاً‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو نميلة، حدثنا نعيم بن سعيد الغري أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال‏:‏ احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع‏.‏

 

فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة‏؟‏‏)‏‏)‏

قال رجل‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما لا، فتقدم فدلنا عليه‏)‏‏)‏ فانطلقوا إلى بيت الرجل فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن جئ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتانا‏.‏

 

فجاء الرجل يسعى وقال‏:‏ بأبي وأمي، وله معزة ومعها جديها، فوثب إليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الجدي من ورائها‏)‏‏)‏ فذبح الجدي، وعمدت المرأة إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت، فأدركت القدر، فثردت قصعتها فقربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

 

فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه فيها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله اللهم بارك فيها أطعموا‏)‏‏)‏ فأكلوا منها حتى صدروا، ولم يأكلوا منها إلا ثلثها وبقي ثلثاها، فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم، فذهبوا فجاء أولئك العشرة، فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم قام ودعا لربة البيت، وسمت عليها، وعلى أهل بيتها‏.‏

 

ثم مشوا إلى الخندق فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهبوا بنا إلى سلمان‏)‏‏)‏ وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوني فأكون أول من ضربها‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏ فضربها، فوقعت فلقة ثلثها، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة‏)‏‏)‏ فقال عندها المنافقون‏:‏ نحن نخندق على أنفسنا، وهو يعدنا قصور فارس والروم‏.‏

 

ثم قال الحافظ البيهقي‏:‏ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن ميمون بن أستاذ الزهري، حدثني البراء بن عازب الأنصاري قال‏:‏

 

لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها أخذ المعول وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏ وضرب ضربة فكسر ثلثها‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله‏)‏‏)‏ ثم ضرب الثانية فقطع ثلثاً آخر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض‏)‏‏)‏‏.‏

 

ثم ضرب الثالثة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله‏)‏‏)‏ فقطع بقية الحجر، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة‏)‏‏)‏ وهذا حديث غريب أيضاً، تفرد به ميمون بن أستاذ هذا، وهو بصري روى عن البراء، وعبد الله بن عمرو وعنه حميد الطويل، والجريري، وعوف الأعرابي‏.‏

 

قال أبو حاتم، عن إسحاق بن منصور، عن ابن معين‏:‏ كان ثقة‏.‏

وقال علي بن المديني‏:‏ كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه‏.‏

وقال النسائي‏:‏ حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ضمرة، عن أبي زرعة السيباني، عن أبي سكينة - رجل من البحرين - عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر‏.‏

فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول، ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم‏}‏ فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة‏.‏

 

ثم ضرب الثانية وقال‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلمات الله وهو السميع العليم‏}‏ فندر الثلث الآخر وبرقت برقة، فرآها سلمان‏.‏

 

ثم ضرب الثالثة وقال‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم‏}‏ فندر الثلث الباقي‏.‏

 

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس، فقال سلمان‏:‏ يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب إلا كانت معها برقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا سلمان رأيت ذلك ‏؟‏‏)‏‏)‏ قال‏:‏ أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها، ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له من حضره من أصحابه‏:‏ يا رسول الله ادع أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم‏.‏ فدعا بذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم ضربت الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعيني‏)‏‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ذراريهم، ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا‏.‏

 

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم ضربت الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعيني‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

 

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك وما تركوكم هكذا‏)‏‏)‏ رواه النسائي مطولاً وإنما روى منه أبو داود ‏(‏‏(‏دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم‏)‏‏)‏ عن عيسى بن محمد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني به‏.‏

 

ثم قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر، وزمان عثمان، وما بعده‏:‏ افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة، إلا وقد أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك‏.‏

 

وهذا من هذا الوجه منقطع أيضاً، وقد وصل من غير وجه ولله الحمد‏.‏

 

فقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي‏)‏‏)‏‏.‏

 

وقد رواه البخاري منفرداً به عن يحيى بن بكير، وسعد بن عفير، كلاهما عن الليث به‏.‏ وعنده قال أبو هريرة‏:‏ فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتثلونها‏.‏

 

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي‏)‏‏)‏ وهذا إسناد جيد قوي على شرط مسلم، ولم يخرجوه‏.‏

 

وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها‏)‏‏)‏‏.‏

 

فصل نزول قريش بمجتمع الأسيال يوم الخندق‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى، إلى جانب أحد‏.‏

 

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء، فجعلوا فوق الأطام‏.‏

 

قال ابن هشام‏:‏ واستعمل على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ‏

 

قال البخاري‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار‏}‏ قالت‏:‏ ذلك يوم الخندق‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ ولما نزل الأحزاب حول المدينة أغلق بنو قريظة حصنهم دونهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وخرج حيي بن أخطب النضري، حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم، فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه‏:‏ ويحك يا كعب افتح لي‏.‏

قال‏:‏ ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقاً‏.‏

قال‏:‏ ويحك افتح لي أكلمك‏.‏

قال‏:‏ ما أنا بفاعل، قال‏:‏ والله إن أغلقت دوني إلا خوفاً على جشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل، ففتح له فقال‏:‏ ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام‏.‏

قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قال‏:‏ جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة وبغطفان، على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى، إلى جانب أحد، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه‏.‏

 

فقال كعب‏:‏ جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي ‏!‏ فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاءً وصدقاً‏.‏

 

وقد تكلم عمر بن سعد القرظي فأحسن فيما ذكره موسى بن عقبة‏:‏ ذكرهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ومعاقدتهم إياه على نصره وقال‏:‏ إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمع له - يعني في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محاربته مع الأحزاب - على أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد العهد، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 

قال موسى بن عقبة‏:‏ وأمر كعب بن أسد بنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن، تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمداً، قالوا‏:‏ وتكون الرهائن تسعين رجلاً من أشرافهم، فنازلهم حيي على ذلك، فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة أسد وأسيد وثعلبة، فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين، بعث سعد بن معاذ وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير‏.‏

 

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحقٌ ما بلغنا عنهم، فإن كان حقاً فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس‏)‏‏)‏‏.‏

 

قال‏:‏ فخرجوا حتى أتوهم‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ فدخلوا معهم حصنهم، فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف، فقالوا‏:‏ الآن وقد كسر جناحنا وأخرجهم يريدون بني النضير، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم، فأغضبوه فقال له سعد بن معاذ‏:‏ إنا والله ما جئنا لهذا، ولما بيننا أكبر من المشاتمة‏.‏

 

ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال‏:‏ إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير، أو أمر منه‏.‏

فقالوا‏:‏ أكلت أير أبيك‏.‏

 

فقال‏:‏ غير هذا من القول كان أجمل بكم وأحسن‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ من رسول الله‏؟‏ لا عهد بيننا وبين محمد‏.‏

 

فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلاً فيه حدة فقال له سعد بن عبادة‏:‏ دع عنك مشاتمتهم لما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، ثم قالوا‏:‏ عضل والقارة أي‏:‏ كغدرهم بأصحاب الرجيع‏:‏ خبيب وأصحابه‏.‏

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ ثم تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه حين جاءه الخبر عن بني قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً، فاشتد على الناس البلاء والخوف حين رأوه اضطجع، وعرفوا أنه لم يأته عن بني قريظة خير، ثم إنه رفع رأسه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشروا بفتح الله ونصره‏)‏‏)‏‏.‏

 

فلما أن أصبحوا، دنا القوم بعضهم من بعض، وكان بينهم رمي بالنبل والحجارة‏.‏

قال سعيد بن المسيب‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم إني أسألك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد‏)‏‏)‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف -‏:‏ كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط‏.‏

 

وحتى قال أوس بن قيظي‏:‏ يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا فإنها خارج من المدينة‏.‏

 

قلت‏:‏ هؤلاء وأمثالهم المرادون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12-13‏]‏‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مرابطاً، وأقام المشركون يحاصرونه بضعاً وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل، فلما اشتد على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ومن لا أتهم عن الزهري إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه‏.‏

 

فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا‏:‏ يا رسول الله أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به ولا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا‏؟‏

 

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما‏)‏‏)‏

 

فقال له سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا‏؟‏ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم‏.‏

 

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت وذاك‏)‏‏)‏ فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال‏:‏ ليجهدوا عليها‏.‏

قال‏:‏ فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين، ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال، إلا أن فوارس من قريش - منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهر المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس، أحد بني محارب بن فهر - تلبسوا للقتال‏.‏

 

ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا‏:‏ تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا‏:‏ والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع‏.‏

 

وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليه الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه، فلما خرج هو وخيله قال‏:‏ من يبارز ‏؟‏

 

فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له‏:‏ يا عمرو إنك كنت هاعدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه‏.‏

 

قال‏:‏ أجل‏.‏

قال له علي‏:‏ فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام‏.‏

قال‏:‏ لا حاجة لي بذلك‏.‏

قال‏:‏ فإني أدعوك إلى النزال‏.‏ ‏

قال له‏:‏ لمَ يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك‏.‏

قال له علي‏:‏ لكني والله أحب أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه، فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ وقال علي بن أبي طالب في ذلك‏:‏

 

نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب

فصدرت حين تركته متجدلاً * كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنني * كنت المقطر بزَّنى أثوابي

لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر الأحزاب

 

قال ابن هشام‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو، فقال في ذلك حسان بن ثابت‏:‏

 

فر وألقى لنا رمحه * لعلك عكرم لم تفعل

ووليت تعدو كعدو الظليـ * ـم ما إن يحور عن المعدل

ولم تلو ظهرك مستأنساً * كأن قفاك قفا فرعل

 

قال ابن هشام‏:‏ الفراعل صغار الضباع‏.‏

 

وذكر الحافظ البيهقي في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏‏:‏ عن ابن إسحاق في موضع آخر من السيرة قال‏:‏ خرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد، فنادى من يبارز ‏؟‏

فقام علي بن أبي طالب فقال‏:‏ أنا لها يا نبي الله‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه عمرو اجلس‏)‏‏)‏‏.‏

ثم نادى عمرو‏:‏ ألا رجل يبرز ‏؟‏

فجعل يؤنبهم ويقول‏:‏ أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها، أفلا تبرزون إلي رجلاً ‏؟‏

فقام علي فقال‏:‏ أنا يا رسول الله ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اجلس‏)‏‏)‏‏.‏

 

ثم نادى الثالثة فقال‏:‏

 

ولقد بححت من النداء * لجمعهم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع * موقف القرن المناجز

ولذاك إني لم أزل * متسرعاً قبل الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز

 

قال‏:‏ فقام علي رضي الله عنه فقال‏:‏ يا رسول الله أنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه عمرو‏)‏‏)‏‏.‏

 

فقال‏:‏ وإن كان عمراً‏.‏ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه حتى أتى وهو يقول‏:‏

 

لا تعجلن فقد أتاك * مجيب صوتك غير عاجز

في نية وبصيرة * والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقي * م عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء * يبقى ذكرها عند الهزاهز

 

فقال له عمرو‏:‏ من أنت ‏؟‏

قال‏:‏ أنا علي‏.‏

قال‏:‏ ابن عبد مناف ‏؟‏

قال‏:‏ أنا علي بن أبي طالب‏.‏

فقال‏:‏ يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك‏؟‏

 

فقال له علي‏:‏ لكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب فنزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضباً واستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في درقته فقدها، وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرفنا أن علياً قد قتله، فثم يقول علي‏:‏

 

أعلي تقتحم الفوارس هكذا * عني وعنهم أخروا أصحابي

اليوم يمنعني الفرار حفيظتي * ومصمم في الرأس ليس بنابي

 

إلى أن قال‏:‏

 

عبد الحجارة من سفاهة رأيه * وعبدت رب محمد بصواب

 

إلى آخرها‏.‏

 

قال‏:‏ ثم أقبل علي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل فقال له عمر بن الخطاب‏:‏ هلا استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها‏؟‏ فقال‏:‏ ضربته فاتقاني بسوءته، فاستحييت ابن عمي أن أسلبه‏.‏

 

قال‏:‏ وخرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق‏.‏

 

وذكر ابن إسحاق فيما حكاه، عن البيهقي‏:‏ أن علياً طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو لكم لا نأكل ثمن الموتى‏)‏‏)‏‏.‏

 

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا نصر بن باب، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين، فأعطوا بجيفته مالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية‏)‏‏)‏ فلم يقبل منهم شيئاً‏.‏

 

وقد رواه البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حجاج وهو ابن أرطأة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس‏:‏ أن رجلاً من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا خير في جسده ولا في ثمنه‏)‏‏)‏‏.‏

 

وقد رواه الترمذي، من حديث سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وقال غريب‏.‏

 

وقد ذكر موسى بن عقبة‏:‏ أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حين قتل، وعرضوا عليه الدية، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، فلا أرب لنا في ديته، ولسنا نمنعكم أن تدفنوه‏)‏‏)‏‏.‏

 

وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال‏:‏ وخرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، فسأل المبارزة فخرج إليه الزبير بن العوام، فضربه فشقه باثنتين حتى فلَّ في سيفه فلاً، وانصرف وهو يقول‏:‏

 

إني امرؤ أحمي وأحتمي * عن النبي المصطفى الأمي

 

وقد ذكر ابن جرير‏:‏ أن نوفلاً لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة، فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب، فنزل إليه علي فقتله وطلب المشركون رمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن، فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئاً، ومكنهم من أخذه إليهم‏.‏

وهذا غريب من وجهين‏.‏

 

وقد روى البيهقي‏:‏ من طريق حماد بن يزيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأطم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطئ لي، فأصعد على ظهره فأنظر إليهم كيف يقتتلون، وأطأطئ له فيصعد فوق ظهري فينظر‏.‏

 

قال‏:‏ فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة ها هنا ومرة ها هنا، فما يرتفع له شيء إلا أتاه، فلما أمسى جاءنا إلى الأطم‏.‏

قلت‏:‏ يا أبة رأيتك اليوم وما تصنع‏.‏

قال‏:‏ ورأيتني يا بني‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فدى لك أبي وأمي‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، أخو بني حارثة‏:‏ أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة‏.‏

قال‏:‏ وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن‏.‏

 

قالت عائشة‏:‏ وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب‏.‏ قالت‏:‏ فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرفل بها ويقول‏:‏

 

لبّثْ قليلاً يشهد الهيجا جمَل * لا بأس بالموت إذا حان الأجل

 

فقالت له أمه‏:‏ الحق بني فقد والله أخرت‏.‏

قالت عائشة‏:‏ فقلت لها يا أم سعد، والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي‏.‏

قالت‏:‏ وخفت عليه، حيث أصاب السهم منه، فرُمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل‏.‏ ‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال‏:‏ رماه حيان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه قال‏:‏ خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال له سعد‏:‏ عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك أنه كان يقول‏:‏ ما أصاب سعداً يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم‏.‏

 

وقد قال أبو أسامة في ذلك شعراً قاله لعكرمة بن أبي جهل‏:‏

 

أعكرم هلاّ لمتني إذ تقول لي * فداك بآطام المدينة خالدَ

ألست الذي ألزمت سعداً مريشة * لها بين أثناء المرافق عاند

قضى نحبه منها سعيد فأعولت * عليه مع الشمط العذارى النواهد

وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا * عبيدة جمعاً منهم إذ يكابد

على حين ما هم جائر عن طريقه * وآخر مرعوبٌ عن القصد قاصد

 

قال ابن إسحاق‏:‏ والله أعلم أي ذلك كان‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال إن الذي رمى سعداً خفاجة بن عاصم بن حبان‏.‏

قلت‏:‏ وقد استجاب الله دعوة وليه سعد بن معاذ في بني قريظة، أقر الله عينه فحكم فيهم بقدرته وتيسيره، وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك كما سيأتي بيانه، فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال‏:‏ كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع، حصن حسان بن ثابت، قالت‏:‏ وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذ أتانا آت‏.‏

 

فقلت‏:‏ يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما أمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله‏.‏

قال‏:‏ يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا‏.‏

 

قالت‏:‏ فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت، ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت‏:‏ يا حسان انزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل‏.‏

 

قال‏:‏ مالي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب‏.‏

قال موسى بن عقبة‏:‏ وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم، فحاصروهم قريباً من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدرى أتم أم لا‏.‏

قال‏:‏ ووجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة، فقاتلوهم يوماً إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا، فانكفأت الكتيبة مع الليل، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم‏)‏‏)‏ وفي رواية ‏(‏‏(‏وقبورهم ناراً‏)‏‏)‏‏.‏

 

فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير، وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالناس من البلاء والكرب، جعل يبشرهم ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق أمناً، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏

 

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق‏:‏ ‏(‏‏(‏ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي به‏.‏

 

ورواه مسلم والترمذي، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة، عن علي به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

 

ثم قال البخاري‏:‏ حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش وقال‏:‏ يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏والله ما صليتها‏)‏‏)‏ فنزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب‏.‏

 

وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم، والترمذي، والنسائي من طرق، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة به‏.‏

 

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت، حدثنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قاتل النبي صلى الله عليه وسلم عدواً، فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى فاملأ بيوتهم ناراً، واملأ قبورهم ناراً‏)‏‏)‏ ونحو ذلك تفرد به أحمد، وهو من رواية هلال بن خباب العبدي الكوفي، وهو ثقة يصحح له الترمذي وغيره‏.‏

 

وقد استدل طائفة من العلماء بهذه الأحاديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، كما هو منصوص عليه في هذه الأحاديث،

وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث‏.‏

 

وقد حررنا ذلك نقلاً واستدلالاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏}‏

 

وقد استدل طائفة بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما هو مذهب مكحول والأوزاعي‏.‏

 

وقد بوب البخاري ذلك، واستدل بهذا الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم يوم أمرهم بالذهاب إلى بني قريظة - كما سيأتي - ‏(‏‏(‏لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة‏)‏‏)‏ وكان من الناس من صلى العصر في الطريق، ومنهم من لم يصل إلا في بني قريظة بعد الغروب، ولم يعنف واحداً من الفريقين‏.‏

 

واستدل بما ذكره عن الصحابة ومن معهم في حصار تستر، سنة عشرين في زمن عمر، حيث صلوا الصبح بعد طلوع الشمس لعذر القتال، واقتراب فتح الحصن‏.‏

 

وقال آخرون من العلماء وهم الجمهور منهم الشافعي‏:‏ هذا الصنيع يوم الخندق منسوخ بشرعية صلاة الخوف بعد ذلك، فإنها لم تكن مشروعة إذ ذاك، فلهذا أخروها يومئذ، وهو مشكل‏.‏

 

قال ابن إسحاق وجماعة‏:‏ ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان‏.‏

وقد ذكرها ابن إسحاق - وهو إمام في المغازي - قبل الخندق، وكذلك ذات الرقاع ذكرها قبل الخندق، فالله أعلم‏.‏

 

وأما الذين قالوا‏:‏ إن تأخير الصلاة يوم الخندق وقع نسياناً كما حكاه شراح مسلم عن بعض الناس، فهو مشكل إذ يبعد أن يقع هذا من جمع كبير مع شدة حرصهم على محافظة الصلاة، كيف وقد روي أنهم تركوا يومئذ الظهر والعصر والمغرب حتى صلوا الجميع في وقت العشاء، من رواية أبي هريرة وأبي سعيد‏.‏

 

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد وحجاج قالا‏:‏ حدثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال‏:‏ حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هَويٌ من الليل حتى كفينا، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

 

قال‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره، فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل‏.‏

قال حجاج في صلاة الخوف‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 239‏]‏‏.‏

وقد رواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى القطان، عن ابن أبي ذئب به‏.‏

قال‏:‏ شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس فذكره‏.‏ ‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا هشيم، حدثنا أبو الزبير، عن نافع بن جبير، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه‏:‏ أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله‏.‏

قال‏:‏ فأمر بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء‏.‏

 

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن معمر، حدثنا مؤمل - يعني ابن إسماعيل- حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن عبد الكريم - يعني ابن أبي المخارق- عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله‏:‏

 

أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء، ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم‏)‏‏)‏‏.‏

 

تفرد به البزار وقال‏:‏ لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏

وقد رواه بعضهم، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي عبيدة، عن عبد الله‏.‏

فصل في دعائه عليه السلام على الأحزاب

 

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عامر، حدثنا الزبير - يعني ابن عبد الله - حدثنا ربيح بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال‏:‏ قلنا يوم الخندق‏:‏ يا رسول الله هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر ‏؟‏

 

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فضرب الله وجوه أعدائه بالريح‏.‏

 

وقد رواه ابن أبي حاتم في ‏(‏تفسيره‏)‏ عن أبيه، عن أبي عامر - وهو العقدي - عن الزبير بن عبد الله مولى عثمان بن عفان، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي سعيد، فذكره وهذا هو الصواب‏.‏

 

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين، عن ابن أبي ذئب، عن رجل من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد الأحزاب فوضع رداءه، وقام ورفع يديه مداً يدعو عليهم ولم يصل‏.‏

 

قال‏:‏ ثم جاء ودعا عليهم وصلى‏.‏

 

وثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى قال‏:‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم‏)‏‏)‏ وفي الرواية‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم‏)‏‏)‏‏.‏

وروى البخاري، عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده‏)‏‏)‏‏.‏

 

وقال ابن إسحاق‏:‏ وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم‏.‏

 

قال‏:‏ ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت‏.‏

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة‏)‏‏)‏ فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال‏:‏ يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم‏.‏

 

قالوا‏:‏ صدقت لست عندنا بمتهم‏.‏

فقال لهم‏:‏ إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها‏.‏

 

وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه‏.‏

 

قالوا‏:‏ لقد أشرت بالرأي، ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب، ومن معه من رجال قريش‏:‏ قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني‏.‏

 

قالوا‏:‏ نفعل‏.‏

 

قال‏:‏ تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم ‏؟‏

 

فأرسل إليهم‏:‏ أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال‏:‏ يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني‏.‏

 

قالوا‏:‏ صدقت ما أنت عندنا بمتهم‏.‏

قال‏:‏ فاكتموا عني‏.‏

قالوا‏:‏ نفعل، ثم قال لهم ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم‏.‏ ‏

 

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنيع الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان، إلى بني قريظة‏:‏ عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان‏.‏

 

فقال لهم‏:‏ إنا لسنا بدار مقام، هلك الخف والحافر، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه‏.‏

 

فأرسلوا إليهم‏:‏ إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً، فأصابهم ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه‏.‏

 

فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان‏:‏ والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة‏:‏ إنا ولله لا ندفع إليكم رجلاً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا‏.‏

 

فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا‏:‏ إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم‏.‏

 

فأرسلوا إلى قريش وغطفان‏:‏ إنا والله ما نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، وبعث الله الريح في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم‏.‏

 

وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم بن مسعود أحسن مما ذكره موسى بن عقبة‏.‏

 

وقد أورده عنه البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ فإنه ذكر ما حاصله‏:‏ أن نعيم بن مسعود كان يذيع ما يسمعه من الحديث، فاتفق أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم عشاء، فأشار إليه أن تعال، فجاء فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما وراءك ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

 

فقال‏:‏ إنه قد بعثت قريش وغطفان إلى بني قريظة يطلبون منهم أن يخرجوا إليهم فيناجزوك، فقالت قريظة‏:‏ نعم، فأرسلوا إلينا بالرهن، وقد ذكر فيما تقدم‏:‏ أنهم إنما نقضوا العهد على يدي حيي بن أخطب، بشرط أن يأتيهم برهائن تكون عندهم توثقة‏.‏

قال‏:‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني مسر إليك شيئاً فلا تذكره‏)‏‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح، وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم‏)‏‏)‏‏.‏

 

فخرج نعيم بن مسعود عامداً إلى غطفان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الحرب خدعة، وعسى أن يصنع الله لنا‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

فأتى نعيم غطفان وقريشاً فأعلمهم، فبادر القوم وأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة وجماعة معه، واتفق ذلك ليلة السبت، يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم، فاعتلت اليهود بالسبت، ثم أيضاً طلبوا الرهن توثقة، فأوقع الله بينهم واختلفوا‏.‏

 

قلت‏:‏ وقد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش وغطفان، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون منه الصلح على أن يرد بني النضير إلى المدينة، والله أعلم‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جمعهم، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان‏:‏ يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه‏؟‏

 

قال‏:‏ نعم يا ابن أخي‏.‏

قال‏:‏ فكيف كنتم تصنعون‏؟‏

قال‏:‏ والله لقد كنا نجتهد‏.‏

قال‏:‏ والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا‏.‏

قال‏:‏ فقال حذيفة‏:‏ يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال‏:‏ من رجل يقول فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - فشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة‏؟‏

 

فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا‏)‏‏)‏‏.‏

 

قال‏:‏ فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال‏:‏ يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه‏؟‏

 

قال حذيفة‏:‏ فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت‏:‏ من أنت‏؟‏

قال‏:‏ فلان ابن فلان، ثم قال أبو سفيان‏:‏ يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل‏.‏

 

ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي لا تحدث شيئاً حتى تأتيني لقتلته بسهم‏.‏

 

قال حذيفة‏:‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم، وهذا منقطع من هذا الوجه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 4/ 131‏)‏

 

وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج في صحيحه‏:‏ من حديث الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه قال‏:‏ كنا عند حذيفة فقال له رجل‏:‏ لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة‏:‏ أنت كنت تفعل ذلك‏؟‏

 

لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا رجل يأتيني بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة ‏؟‏‏)‏‏)‏ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله‏.‏

 

ثم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم‏)‏‏)‏ فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اذهب ائتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فمضيت، كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تذعرهم علي‏)‏‏)‏ ولو رميته لأصبته‏.‏

 

فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابني برد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائماً حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏قم يا نومان‏)‏‏)‏‏.‏

 

وقد روى الحاكم والحافظ البيهقي في ‏(‏الدلائل‏)‏ هذا الحديث مبسوطاً من حديث عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، قال‏:‏ ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه‏:‏ أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا‏.‏

 

فقال حذيفة‏:‏ لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحاً منها في أصوات ريحها، أمثال الصواعق وهي ظلمة، ما يرى أحدنا أصبعه‏.‏

فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون‏:‏ إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون، ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً‏.‏

 

حتى أتى عليَّ وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي، قال‏:‏ فأتاني وأنا جاث على ركبتي، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا‏؟‏‏)‏‏)‏ فقلت‏:‏ حذيفة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏حذيفة‏!‏‏)‏‏)‏ فتقاصرت للأرض، فقلت‏:‏ بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، فقمت فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه كائن في القوم خبر، فأتني بخبر القوم‏)‏‏)‏ قال‏:‏ وأنا من أشد الناس فزعاً، وأشدهم قراً‏.‏

 

قال‏:‏ فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته‏)‏‏)‏‏.‏

 

قال‏:‏ فوالله ما خلق الله فزعاً، ولا قراً في جوفي، إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئاً‏.‏

قال‏:‏ فلما وليت، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني‏)‏‏)‏‏.‏ ‏

قال‏:‏ فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم، يقول بيديه على النار، ويمسح خاصرته، ويقول‏:‏ الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك‏.‏

 

فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني‏)‏‏)‏ فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي‏.‏

 

ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون‏:‏ يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضرب بها‏.‏

 

ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت بي الطريق أو نحو من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين، فقالوا‏:‏ أخبر صاحبك أن الله قد كفاه‏.‏

 

قال‏:‏ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، أخبرته أني تركتهم يرحلون‏.‏

 

قال‏:‏ وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ يعني الآيات كلها، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

 

أي‏:‏ صرف الله عنهم عدوهم، بالريح التي أرسلها عليهم والجنود من الملائكة وغيرهم، التي بعثها الله إليهم، وكفى الله المؤمنين القتال أي‏:‏ لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم، بل صرفهم القوي العزيز بحوله وقوته‏.‏

 

لهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده‏)‏‏)‏‏.‏

 

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبينهم، وهكذا وقع ولم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين، كما قال محمد بن إسحاق رحمه الله‏.‏

 

فلما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا‏:‏ ‏(‏‏(‏لن تغزوكم قريش بعد عامكم، ولكنكم تغزونهم‏)‏‏)‏ قال‏:‏ فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة، وهذا بلاغ من ابن إسحاق‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق، سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الآن نغزوهم ولا يغزوننا‏)‏‏)‏‏.‏

 

وهكذا رواه البخاري من حديث إسرائيل، وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان بن صرد به‏.‏

 

قال ابن إسحاق‏:‏ واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بني عبد الأشهل، وهم‏:‏ سعد بن معاذ - وستأتي وفاته مبسوطة - وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان، وكعب بن زيد النجاري، أصابه سهم غرب فقتله‏.‏

 

قال‏:‏ وقُتل من المشركين ثلاثة وهم‏:‏ منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك، وطلبوا جسده بثمن كبير كما تقدم، وعمرو بن عبد ود العامري، قتله علي بن أبي طالب‏.‏

 

قال ابن هشام‏:‏ وحدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال‏:‏ قتل علي يومئذ عمرو بن عبد ود، وابنه حسل بن عمرو‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويقال عمرو بن عبد ود، ويقال عمرو بن عبد‏."‏