طبقات الشعراء الإسلاميين - الطبقة الثانية

البعيث، واسمه خداش بن بش بن خالد بن بيبة بن قرط ابن سفيان بن مجاشع بن دارم. وسمي البعيث بقوله:

تبعث مني ما تبعث بعـد مـا

 

أمرت حبال كل مرتها شزرا

وهو أول شعر قاله.

والقطامي، واسمه عمرو بن شييم بن عمرو، أحد بني بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب.

وكثير بن عبد الرحمن الخزاعي، وهو ابن أبي جمعة، وكنيته أبو صخر، وهو عند أهل الحجاز أشعر من كل من قدمنا عليه.

وذو الرمة، واسمه غيلان، وهو الذي يقول:

أنا أبو الحارث، واسمي غيلان

ابن عقبة بن بهيش بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ثعلبة بن ربيعة بن ملكان بن عدي بن عبد مناة بن أد، وهم عدي التيم، وتيم عدي، والتيم من الرباب وكان البعيث شاعرا فاخر الكلام حر اللفظ، وقد غلبه، جرير وأخمله. وكان قد قاوم جريرا في قصائد، ثم ضج إلى الفرزدق واستغاثه.

وكان القطامي شاعرا فحلا، رقيق الحواشي، حلو الشعر. والأخطل أبعد منه ذكرا وأمتن شعرا.

وكان زفر بن الحارث أسره في حرب بينهم وبين تغلب، فمن عليه وأعطاه مئة من الإبل ورد عليه ماله، فقال القطامي في كلمة له:

من مبلغ زفر القيسي مدحـتـه

 

عن القطامي قولا غير إفـنـاد

إني وإن كان قومي ليس بينهـم

 

وبين قومك إلا ضربة الهـادي

مثن عليك بما أسلفت من حسـن

 

وقد تعرض مني مقتـل بـادي

فلن أثيبك بالنعمـاء مـشـتـمة

 

ولن أبدل إحسانـا بـإفـسـاد

فإن هجوتك ما تمت محافظتـي

 

وإن مدحت لقد أحسنت إصفادي

إذ يعتريك رجال يسألون دمـي

 

ولو تطيعهم أبـكـيت عـوادي

وإذ يقولون: أرضيت العداة بنا!

 

لا بل قدحت بزند غير صـلاد

ولا كردك مالي بعدما كـربـت

 

تبدي الشماتة أعدائي وحسـادي

فإن قدرت على يوم جزيت بـه

 

والله يجعل أقواما بمـرصـاد

قال ابن سلام: فلما بلغ زفر قوله، قال: لا قدرت على ذلك اليوم.

وقال القطامي يمدحه في أخرى:

ومن يكن اسـتـلام إلـى ثـوى

 

فقد أحسنت يا زفر المـتـاعـا

أكفر بعد دفع المـوت عـنـي

 

وبعد عطائك المئة الرتـاعـا؟

ولم أر منعـمـين أقـل مـنـا

 

وأكرم عندما اصطنعوا اصطناعا

من البيض الوجوه بنـي نـفـيل

 

أبت أخلاقـهـم إلا اتـسـاعـا

بني القرم الذي علمـت مـعـد

 

تفضل فوقهم حسـبـا وبـاعـا

والقطامي الذي يقول:

ألم يحزنك أن حبال قـيس

 

وتغلب قد تباينتا انقطاعـا

أمور لو تدبرهـا حـلـيم

 

إذا لنهى وهيب ما استطاعا

ولكـن الأديم إذا تـفـرى

 

بلى وتعينا غلب الصناعـا

ومعصية الشفيق عليك مما

 

يزيدك مرة منه استماعـا

وخير الرأي ما استقبلت منه

 

وليس بأن تتبعه اتـبـاعـا

وقال يمدح أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري:

إذا مات ابن خارجة بن حصـن

 

فلا مطرت على الأرض السماء

ولا رجع البريد بـغـنـم خـير

 

ولا حملت على الطهر النسـاء

وقال فيه أيضا:

وعليك أسماء بن خارجة الذي

 

على الفعال ورفع البنـيانـا

فستعلمـين: أصـادر وراده

 

عنه وأي فتى فتى غطفانا؟

وكان كثير شاعر أهل الحجاز، وإنهم ليقدمونه على بعض من قدمنا عليه. وهو شاعر فحل، ولكنه منقوص حظه بالعراق.

وسمعت يونس النحوي يقول: كان ابن أبي إسحاق يقول: كان كثير أشعر أهل الإسلام.

قال ابن سلام: ورأيت ابن أبي حفصة يعجبه مذهبه في المديح جدا، يقول: كان يستقصي المديح.

وكان فيه مع جودة شعره خطل وعجب، وكانت له منزلة عند قريش وقدر قال: وقدم على عبد الملك بن مروان الشام فأنشده، والأخطل عنده، فقال عبد الملك: كيف ترى يا أبا مالك! قال: أرى شعرا حجازيا مقرورا، لو ضغطه برد الشام لاضمحل. قال: وأخبرني أبان بن عثمان البجلي قال: دخل كثير على عبد الملك فأنشده مدحته وفيها:

على ابن أبي العاصي دلاص حصينة

 

أجاد المسدي سـردهـا وأذلـهـا

فقال له عبد الملك: أفلا قلت كما قال الأعشى لقيس ابن معدي كرب؟:

وإذا تجيء كتيبة مـلـمـومة

 

شهباء يخشى الذائدون نهالها

كنت المقدم غير لابس جـنة

 

بالسيف تضرب معلما أبطالها

فقال يا أمير المؤمنين! وصفه بالخرق، ووصفتك بالحزم.

أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، أخبرني عثمان بن عبد الرحمن قال: أنشد كثير عبد الملك بن مروان حين أزمع بالمسير إلى مصعب:

إذا ما أراد الغزو لم تثن همه

 

حصان عليها نظم در يزينهـا

نهته فلما لم تر النهي عـاقـه

 

بكت وبكى مما شجاها قطينها

فقال عبد الملك: والله لكأنه شهد عاتكة! بنت يزيد بن معاوية وهي امرأته، أم يزيد بن عبد الملك.

وقدم كثير على يزيد بن عبد الملك وقد مدحه بقصائد جياد مشهورة، فأعجب بهن يزيد، وقال له: احتكم. قال: وقد جعلت ذلك إلي! قال: نعم. قال: مئة ألف. قال: ويحك! مئة ألف!! قال: على جود أمير المؤمنين أبقى أم على بيت المال؟ قال: ما بي استكثارها، ولكني أكره أن يقول الناس: أعطي شاعرا مئة ألف، ولكن فيها عروض؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.


فكان يحضر سمر يزيد ويدخل عليه، فقال له ليلة: يا أمير المؤمنين ما يعني الشماخ بقوله:

إذا عرقت مغابنها وجادت

 

بدرتها قرى جحن قتـين

قال: فسكت عنه يزيد، فقال: بصبصن إذ حدين! ثم أعاد فسكت عنه يزيد، فقال: بصبصن إذ حدين! فقال له يزيد: وما على أمير المؤمنين أن لا يعرف هذا؟ هو القراد أشبه الدواب بك! - وكان كثير قصيرا متقارب الخلق - فحجب عن يزيد فلم يصل إليه، فكلم مسلمة بن عبد الملك يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، مدحك؟ قال: بكم مدحنا؟ قال: بسبع قصائد. قال: فله سبعمئة دينار، والله لا أزيده عليها.

أنا أبو خليفة، نا ابن سلام، نا - أو حدثني - ابن جعدبة وأبو اليقظان، عن جويرية بن أسماء قال: مات كثير وعكرمة مولى ابن عباس في يوم واحد، فأجفلت قريش في جنازة كثير، ولم يوجد لعكرمة من يحمله.

وكان لكثير في التشبيب نصيب وافر، وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب جميعا في النسيب، وله في فنون الشعر ما ليس لجميل. وكان جميل صادق الصبابة، وكان كثير يتقول، ولم يكن عاشقا، وكان راوية جميل.
وهو القائل:

ألمم بعزة إن الركب منطلـق

 

وإن نأتك ولم يلمم بها خـرق

قامت تراءى لنا والعين ساجية

 

كأن إنسانها في لجة غـرق

ثم استدار على أرجاء مقلتهـا

 

مبادرا خلسات الطرف يستبق

كأنه حين مار المأقـيان بـه

 

در تحلل من أسلاكه نسـق

قال وسمعت الناس يستحسنون من قوله:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

 

تمثل لي ليلى بكل سبيل

قال ابن سلام: وسمعت من يطعن عليه يقول: ما له يريد ينسى ذكرها؟ تعلق الناس على كثير بقوله:

فإن أمير المؤمنين هـو الـذي

 

غزا كامنات الصدر مني فنالها

وقوله:

ترى ابن أبي العاصي وقد صف دونه

 

ثمانون ألفا قد توافت كـمـولـهـا

يقلـب عـينـي حـية بـمـحـارة

 

إذا أمكـنـتـه شـدة لا يقـيلـهـا

قال ابن سلام: فقلت لابن أبي حفصة: من جودة مديحه هذا، جعل دونه ثمانين ألفا! وجعله يقلب عيني حية بمحارة! وجعل أمير المؤمنين غزا كامنات صدره!. فقال: هذا النابغة قال لملك العرب:

أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

 

إلى حمام شراع وارد الثـمـد

أمره أن يحكم كحكم فتاة وقال كثير لعبد العزيز بن مروان:

وما زالت رقاك تسل ضغني

 

وتخرج من مضابئها ضبابي

ويرقيني لك الحاوون حتـى

 

أجابك حية تحت الحجـاب

وحدثني أبو خليفة، عن محمد بن سلام قال: كان علماؤنا يقولون: أحسن الجاهلية تشبيها امرؤ القيس، وأحسن أهل الإسلام تشبيها ذو الرمة.


وقوله:

بها العين والآرام فوضى كأنها

 

ذبال تذكي أو نجوم طوالـع

وقوله:

كأن يدي حربائها متشمسـا

 

يدا مجرم يستغفر الله تائب

وقوله:

فنلنا صدورا من حديث كـأنـه

 

جنى النحل ممزوجا بماء الوقائع

أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام قال، أخبرنا أبو البيداء الرياحي قال، قال جرير: قاتل الله ذا الرمة حيث يقول:

ومنتزع من بـين نـسـعـيه جـرة

 

نشيج الشجا جاءت إلى ضرسه نزرا

أما والله لو قال: "من بين جنبيه"، لما كان عليه من سبيل.

حدثنا أبو خليفة، عن ابن سلام قال: كان ذو الرمة من جرير والفرزدق بمنزلة قتادة من الحسن وابن سيرين، وكان يروى عنهما وعن الصحابة، وكذلك ذو الرمة، هو دونهما ويساويهما في بعض شعره.

قال: ويقال إن ذا الرمة راوية راعي الإبل، ولم يكن له حظ في الهجاء، وكان مغلبا.

أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: إنما شعره نقط عروس: يضمحل عن قليل، وأبعار ظباء: لها مشم في أول شمها ثم تعود إلى أرواح البعر.

أخبرني محمد بن يحيى، عن الفضل بن الحباب، عن محمد ابن سلام قال: مر الفرزدق بذي الرمة وهو ينشد:

أمنزلتي مي سلام عـلـيكـمـا

 

هل الأزمن اللائي مضين رواجع

فوقف حتى فرغ منها. فقال: كيف ترى يا أبا فراس؟ قال: أرى خيرا. قال: فمالي لا أعد في الفحول؟ قال: يمنعك عن ذلك صفة الصحاري وأبعار الإبل. وولى الفرزدق وهو ينشد:

ودوية لو ذو الرميمة رامـهـا

 

بصيدح أودى ذو الرميم وصيدح

قطعت إلى معروفها منكراتهـا

 

إذا خب آل دونهـا يتـوضـح

وكان هوى ذي الرمة مع الفرزدق على جرير، وذلك لما كان بين جرير وابن لجأ التيمي، وتيم وعدي أخوان من الرباب، وعكل أخوهم ولذلك يقول جرير:

فلا يضغمن الليث عكلا بغرة

 

وعكل يشمون الفريس المنيبا

الفريس ههنا: ابن لجأ. وكذلك يفعل السبع: إذا ضغم شاة ثم طرد عنها أو سبقته، أقبلت الغنم تشم موضع الضغم، فيفترسها السبع وهي تشم، ولذلك قال جرير لبني عدي:

وقلت نصاحة لبني عدي:

 

ثيابكم ونضح دم القتـيل

يحذر عديا ما لقى ابن لجأ أنا أبو خليفة، نا ابن سلام قال، أخبرني أبو يحيى الضبي قال، قال ذو الرمة يوما: لقد قلت أبياتا إن لها لعروضا، وإن لها لمرادا ومعنى بعيدا. قال الفرزدق: وما قلت؟ قال قلت:

أحين أعاذت بي تمـيم نـسـاءهـا

 

وجردت تجريد اليماني من الغمـد

ومدت بضبعي الربـاب ومـالـك

 

وعمرو وشالت من ورائي بنو سعد

ومـن آل يربـوع زهـاء كـأنـه

 

زها الليل محمود النكاية والرفـد

فقال له الفرزدق: لا تعودن فيها، فأنا أحق بها منك! قال: والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبدا إلا لك.
فهي في قصيدة الفرزدق التي يقول فيها:

وكنا إذا القيسي نـب عـتـوده

 

ضربناه فوق الأنثيين على الكرد

الأنثيان: الأذنان. والكرد: العنق.

أنا أبو خليفة، نا محمد بن سلام، حدثني أبو الغراف قال: مر ذو الرمة بمنزل لامرئ القيس بن زيد مناة، يقال له "مرأة" به نحل، فلم ينزلوه ولم يقروه، فقال:

نزلنا وقد طال النهـار وأوقـدت

 

علينا حصى المعزاء شمس تنالها

أنخنا فظلـلـنـا بـأبـراد يمـنة

 

عتاق وأسياف قديم صقـالـهـا

فلما رآنا أهل مـرأة أغـلـقـوا

 

مخادع لم ترفع لخير ظلالـهـا

وقد سميت باسم امرئ القيس قرية

 

كرام صواديها لئام رجـالـهـا

فلج الهجاء بني ذي الرمة وبين هشام المرئي.

فمر الفرزدق بذي الرمة وهو ينشد:

وقفت على ربع لمية ناقتـي

 

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبـثـه

 

تكلمني أحجاره وملاعـبـه

فقال الفرزدق ألهاك التبكاء في الديار، والعبد يرجز بك في المقبرة! يعني هشاما.

وكان ذو الرمة مستعليا هشاما، حتى لقى جرير هشاما فقال:غلبك العبد! - يعني ذا الرمة -. قال: فما أصنع يا أبا حزرة، وأنا راجز وهو يقصد، والرجز لا يقوم للقصيد في الهجاء؟ فلو رفدتني! فقال له جرير - لتهمته ذا الرمة وميله إلى الفرزدق - قل له:

غضبت لرهط من عدي تشمسوا!

 

وفي أي يوم لم تشمس رحالهـا

وفيم عدي عبد تيم مـن الـعـلا

 

وأيامنا اللاتي يعد فعـالـهـا؟

وضبة عمي يا ابن جل فلاتـرم

 

مساعي قوم ليس منك سجالهـا

يماشي عديا لؤمها لا تـجـنـه

 

من الناس ما ماشت عديا ظلالها

فقل لعدي تستعن بـنـسـائهـا

 

على فقد أعي عديا رجالـهـا

أذا الرم قد قلدت قـومـك رمة

 

بطئيا بأيدي المطلقين انحلالهـا

قال ابن سلام، فحدثني أبو الغراف قال: لما بلغت الأبيات ذا الرمة قال: والله ما هذا بكلام هشام، ولكنه كلام ابن الأتان.

قال: وحدثني أبو البيداء قال: لما سمعها قال؟ هو والله شعر حنظلي عدوي.

وغلب هشام على ذي الرمة.

وكان ذو الرمة يتشبب بمي بنت طلبة بن قيس بن عاصم المنقري، وكانت كنزة أمة مولدة لآل قيس بن عاصم - وهي أم سهم ابن بردة اللبن، الذي قتله سنان بن مخيس القشيري، أيام محمد بن سليمان - فقالت كنزة:

على وجه مي مسحة من مـلاحة

 

وتحت الثياب الخزي لو كان بـاديا

ألم تر أن الماء يخبـث طـعـمـه

 

ولو كان لون الماء في العين صافيا

ونحلتها ذا الرمة. فامتعض من ذلك، وحلف بجهد أيمانه ما قالها، قال: وكيف أقول هذا، وقد قطعت دهري وأفنيت شبابي أشبب بها وأمدحها! ثم أقول هذا!!، ثم طلع على أن كنزة قالتها ونحلتها إياه.

وأخبرني أبو سوار الغنوين وكان فصيحا، قال: رأيت ميا ورأيت معها بنين لها، صغار. قلت: فصفها. قال: مسنونة الوجه، طويلة الخدين، شماء الأنف، عليها وسم جمال، فقالت لي: ما تلقيت بأحد من هؤلاء إلا في الإبل. قلت له: أفكانت تنشدك ما قال فيها ذو الرمة؟ قال: إي والله، تسح سحا ما رأى مثله أحد.

قال: حدثني أبو يحيى الضبي قال: لقى ذو الرمة رؤبة فقال له ذو الرمة: ما يعني الراعي بقوله:

أناخا بأشوال طروقا بخـبة

 

قليلا وقد أعي سهيل فعردا

فجعل رؤبة يقع مرة ههنا ومرة ههنا، إلى أن قال: هي أرض بين المكلئة والمجدبة. وكذاك هي.

قال: وكان ذو الرمة أيضا ينسب بخرقاء، إحدى نساء بني عامر بن ربيعة، وكانت تحل فلجة ويمر بها الحاج، فتقعد لهم وتحدثهم وتهاديهم وتقول: أنا منسك من مناسك الحج. ثم كانت تجلس معها فاطمة ابنتها، فحدثني من رآها قال: لم تكن فاطمة مثلها. وإنما قالت: "أنا من مناسك الحج"، يقول ذي الرمة:

تمام الحج أن تقف المطايا

 

على خرقاء واضعة اللثام

وقال فيها:

أعن ترسمت من خرقاء منـزلة

 

ماء الصبابة من عنينك مسجوم؟

تثني الخمار على عرنين أرنـبة

 

شماء مارنها بالمسك مـرثـوم

وكانت مية عند ابن عم لها يقال له عاصم، فيه يقول ذو الرمة:

ألا ليت شعري هل يموتن عاصم

 

ولم تشتعبني للمنايا شعوبـهـا!

رمى الله من حتف المنية عاصما

 

بقاصمة يدعى لها فيجـيبـهـا

قال وحدثني أبي سلام، قال: دخلت على خرقاء فقالت: اخرجي يا فاطمة! - تعني ابنتها - فخرجت امرأة جميلة، وليست كأمها.

قال ابن سلام في خبره: وأرسلت خرقاء، إلى القحيف العقبلي تسأله أن يشبب بها فقال:

لقد أرسلت خرقاء نحوي جريها

 

لتجعلني خرقاء فيمن أضلـت

وخرقاء لا تـزداد إلا مـلاحة

 

ولو عمرت تعمير نوح وجلت

قال وحدثني محمد بن أبي عدي الفقيه قال، قال ذو الرمة: بلغت نصف عمر الهرم، وأنتا ابن أربعين سنة. قال: ولم يبق ذو الرمة بعد ذلك إلا قليلا، لأنه مات شابا.

قال ابن سلام: حدثني أبو الغراف، أنه مات وهو يريد هشاما، وقال في طريقه ذلك:

بلاد بها أهلها لست ابن أهلهـا

 

وأخرى بها أهلون ليس لها أهل

 قال: وكانوا إخوة ثلاثة: غيلان، وهو ذو الرمة، وأوفى، ومسعود، بنو عقبة، فهلك أوفى، ثم هلك ذو الرمة، فقال مسعود:

تعزيت عن أوفى بغيلان بعـده

 

عزاء وجفن العين ملآن مترع

ولم ينسني أوفى المصيبات بعده

 

ولكن نكأ القرح بالقرح أوجع

ولمسعود يقول ذو الرمة:

بل عجبت أخت بني لبـيد

 

وهزئت مني ومن مسعود

رأت غلامي سفر بـعـيد

 

يدرعان الليل ذا السـدود

مثل أدراع اليلمق الجـديد

 

أما بكل كوكـب حـريد

إذا سهيل لاح كالـوقـود

 

فردا كشاة البقر المطرود

يا صاحبي صوتا بالقـود

 

وعللاهن بـهـيد هـيد

وفيها يقول:

أشعث باق رمة التقليد

وبهذه الكلمة سمي ذا الرمة.

وحدثني أبي - سلام بن عبيد الله - قال: رأيت ذا الرمة، ورأيت لمته وهيئته. وقال لأبي الغراف: فيك مشابه منه.

حدثني أبو الغراف قال: دارأ الحكم بن عوانة ذا الرمة في بعض قوله، فقال فيه:

فلو كنت من كلب صحيح هجوتكـم

 

جميعا ولكن لا إخالك من كـلـب

ولكنما أخـرت أنـك مـلـصـق

 

كما ألصقت من غيرها ثلمة القعب

تدهدي فجرت ثلمة من صـحـيحة

 

فلز بأخرى بالغراء وبالـشـعـب

وحدثني أبو الغراف قال: دخل ذو الرمة على بلال ابن أبي بردة، وكان بلال راوية فصيحا أديبا، فأنشد بلال أبيات حاتم طيء:

لحا الله صعلوكا منـاه وهـمـه

 

من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما

يرى الخمس تعذيبا وإن نال شبعة

 

يبت قلبه من قلة الهم مبـهـمـا

فقال ذو الرمة: "يرى الخمص تعذيبا". وإنما الخمس للإبل! وإنما هو خمص البطون! فمحك بلال، وكان محكا، وقال: هكذا أنشدنيها رواة طيء. فرد عليه ذو الرمة، فمحك. فدخل أبو عمرو بن العلاء، فقال له بلال: كيف تنشدها؟ فعرف أبو عمرو الذي به، فقال: كلا الوجهين. فقال: أتأخذون عن ذي الرمة؟ قال: إنه لفصيح، وإنا لنأخذ عنه بتمريض. وخرجا من عنده، فقال ذو الرمة لأبي عمرو: والله لولا أني أعلمك حطبت في حبله وملت في هواه، لهجوتك هجاء لا يقعد إليك معه اثنان.