الحد الرابع عشر: في الشجاعة وما يتعلق بها - الفرع الثالث

محاضرات الأدباء

الراغب الأصفهاني

الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصفهاني (أو الأصبهاني) المعروف بالراغب والمتوفي سنة 502هـ-1108م

 

الحد الرابع عشر

في الشجاعة وما يتعلق بها

الفرع الثالث

التفادي من محاربة الأنذال:

قصد الإسكندر موضعاً فحاربته النساء فكف عنهن، فقيل له في ذلم فقال: هذا جيش إذا غلبناه فما لنا به من فخر، وإن غلبنا فتلك فضيحة الدهر.

شاعر:

قبيل لئامٍ إن ظفرنا عليهم ... وإن يغلبونا يوجدوا شر غالب

الممتنع من الصلح:

عبد الرحمن بن سليمان:

فلا صلح ما دامت هضاب أبان

حرملة بن المنذر:

طلبوا صلحنا ولات أوانٌ ... فأجبنا أن ليس حين بقاء

فلحا الله طالب الصلح منا ... ما أطاف المبس بالدهماء

عمرو بن الأهيم:

ليس بيني وبين قيسٍ عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب

الزبرقان:

فلن أصالحهم ما دمت ذا فرسٍ ... واشتد قبضاً على الأسياف إبهامي

تبكيت من عرض عليه صلح فلم يقبله واستوخم عاقبته:

ابن قيس:

ومولى دعاه الغي والغي كاسمه ... وللجبن أسبابٌ تصد عن الحزم

أتاني يشب الحرب بيني وبينه ... فقلت له: لا بل هلم إلى السلم

ولما أبى أرسلت فضلة ثوبه ... إليه فلم يرجع بحزمٍ ولا عزم

فكان صريع الجهل أول مرةٍ ... فيا لك من مختار جهلٍ على علم!

ضارع يطلب الصلح:

قال المتنبي:

من أطاق التماس شيءٍ طلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا

مما جاء في الهزيمة والخوف

وأن الفرار لا يقي من الموت

قال الله تعالى " قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم أينما تكونوا يدرككم الموت " وقال أمير المؤمنين يوم الجمل: إن الموت طالب حثيث لا يعجزه المقيم ولا يفوته الهارب، وإن لم تقتتلوا تموتوا، وإن أشرف الموت القتل. والعرب تقول: أجرأ من خاصي خصاف؛وكان جباراً فشهد حرباً فوقف حجزة فجاء سهم فغرز في الأرض وجعل يهتز، فبحث فرآه قد أصاب يربوعاً فقال:

لا المرء في شيء ولا اليربوع

ولا أقتل إلا بأجلي ثم حمل فخرق الصف فأنكى في القوم.

شاعر:

إن الفرار لا يزيد في الأجل

تفضيل القتل على الهرب:

قال سقراط لرجل هرب من الحرب: الهرب من الحرب فضيحة. فقال الرجل: شر من الفضيحة الموت! فقال سقراط: الحياة إذا كانت صالحة فسلم، فإذا كانت رديئة فالموت أفضل منها. ولما قتل الإسكندر ملك الهند قال لحكمائه: لم منعتم الملك من الطاعة؟قالوا: ليموت كريماً ولا يعيش تحت الذل.

الممتنع من الفرار:

امرأة من عبد القيس:

أبوا أن يفروا والقضا في نحورهم ... ولم يرتقوا من خشية الموت سلما

ولو أنهم فروا لكانوا أعزةً ... ولكن رأوا صبراً على الموت أحزما

 تعيير من أثار الحرب فهرب:

عمارة بن عقيل:

ما في السوية أن تجر عليهم ... وتكون في الهيجاء أول صادرٍ

هدبة بن الخشرم:

وليس أخو الحرب الغليظة بالذي ... إذا زينته الحرب للسلم أخضعا

الحصيفي:

جنيتم علينا الحرب ثم ضجعتم ... إلى السلم لما أصبح الأمر مبهما

المعير بانهزامه:

الحجاج في كلامه: وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها، ألا يلوي الشيخ على بنيه ولا يسأل المرء عن أخيه؟ شاعر:

شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره جرد العلا

خراش بن الحارث:

ما أنت إلا كعيرٍ خاف ميسمه ... قد يضرط العير والمكواة في النار

آخر:

فوليت عنه يرتمي بك سابحٌ ... وقد قابلت أذنيه منه الأخادع

وقال المنصور لبعض الخوارج: عرفني من أشد أصحابي إقداماً؟فقال: لا أعرفهم بوجوههم، فإني لم أر إلا أقفاءهم.

ابن الرومي:

لا يعرف القرن وجههويرى ... قفاه من فرسخٍ فيعرفه

آخر:

وولى كما ولى الظليم من الذعر

المتنبي:

أشد سلاحهم فيه الفرار

آخر:

قد عاد بالأقبحين: الذل والفشلا

ابو تمام:

موكل بيفاع الأرض يشرفه ... من خفة الروع لا من خفة الطرب

البحتري:

تخطأ عرض الأرض راكب وجهه ... ليمنع عنه البعد ما يبذل القرب

من وصف قوماً هزمهم:

قيس بن عطيه:

وتكر أولاهم على أخراهم ... كر المخلي عن حياض المصدر

وقال: منحناهم الهزيمة ونفضنا عليهم العزيمة.

بكر بن النطاح:

ولقيتهم لقي الأعا ... جم كالجراد المرتدف

فقطعت أصلهم وقطع الأصل أقطع للطرف

الموسوي:

إذا ما لقيت الجيش أفنيت جله ... ردى ورددت الفاصلين نواعيا

ويقال: تركت لهم شق الشمال إذا هزمتهم. وقيل ذلك لأجل أن المنهزم يأخذ طريق الشمال.

شاعر:

إذا حاربوا لم ينظروا عن شمالهم ... ولم يمسكوا فوق القلوب الخوافق

ترك اتباع المنهزم:

أوصى الإسكندر صاحب جيش له فقال: حبب إلى أعدائك الهرب. قال: كيف أصنع؟قال: إذا ثبتوا جد في قتالهم، وإذا انهزموا لا تتبعهم. وقيل لأمير المؤمنين: أنت رجل مجرب وتركب بغلة، فلو اتخذت الخيل. فقال: أنا لا أفر ممن كر، ولا أكر ممن فر. وعاتب المهلب الحجاج في تركه أتباع الخوارج لما انهزموا، فكتب إليه: أما علمت أن الكلب إذا أجحر عقر.

المتأسف على من نجا ولم يؤسر:

عوف بن عطية:

ولولا علالة أفراسنا ... لزادكم القوم خزياً وعارا

امرؤ القيس:

وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركته صفر الوطاب

أبو تمام:

لولا الظلام وعلةٌ علقوا بها ... باتت رقابهم بغير قلال

فليشكروا جنح الظلام ودروداً ... فهم لدرود والظلام موال

عنترة الكلبي:

فلولا الله والمهر المفدى ... لأبت وأنت غربال الإهاب

الفار في وقت الفرار والثابت في وقت الثبات:

قال يوماً معاوية: لقد علم الناس أن الخيل لا تجري بمثلي فكيف قال النجاشي:

ونجى ابن حربٍ سابحٌ ذو علالةٍ ... أجش هزيمٌ والرماح دواني

فقال عمر: وأعياني أشجاع أنت أم جبان؟فقال: شجاع إذا أمكنتني فرصة وإن لم تكن لي فرصة فجبان. وقيل: الهرب في وقته خير من الصبر في غير وقته. وقيل: من هرب من معركة فعرف مصيره إلى مستقره فهو شجاع.

تفضيل الإحجام حيث يكون أوفق على الإقدام:

قال المهلب: غلإقدام على الهلكة تضييع كما أن الإحجام عن الفرصة عجز. وقال المتوكل لأبي العيناء: إني لأفرق من لسانك!فقال: يا أمير المؤمنين الكريم ذو فرق وإحجام، واللئيم ذو وقاحة وإقدام.

مالك الأنصاري:

أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً ... وأنجو إذا غم الجبان من الكرب

من هرب لما علم قلة غنائه:

هبيرة القرشي:

لعمرك ما وليت ظهراً محمداً ... وأصحابه جبناً ولا خشية القتل

ولكنني قلبت أمري فلم أجد ... لسيفي غناءٌ إن ضربت ولا نبلي

وقفت فلما لم أجحد لي مقدماً ... صدرت كضرغام هزبرٍ إلى الشبل

ثنى عطفه عن قرنه حيث لم يجد ... مساغاً له عند التصرف والختل

آخر:

أعاذل ما وليت حتى تبددت ... رجالٌ وحتى لم أجد لي مقدما

وحتى رأيت الورد يدمي لبانه ... وقد هزم الأبطال وانتثل الدما

اعتذار هارب زعم أن هربه نبوة أو قدر:

شاعر:

أيذهب يومٌ واحدٌ أن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا

ولم تبد مني نبوةٌ قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا

عبد الله بن غلفاء:

وليس الفرار اليوم عاراً على الفتى ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس

وسمع بعض الفرس قول الشاعر:

ألم تر أن الورد عرد صدره ... وحاد عن الدعوى وضوء البوارق

فقال: عذره أشد من ذنبه، فمن قصر عن إمساك مركوبه كيف يرجى منه أن يهزم جماعة عدوه؟ نعيم التميمي:

فإن يك عاراً فلج أتيته ... فرادى فذاك الجيش قد فر أجمع

ثعلبة الباهلي:

فلا تعذلاني في الفرار فإنني ... فراري لما قد فر قبلي عامر

فإن لم أعود نفسي الكر بعدها ... فلا وألت نفسي عليها أحاذر

وقال الوليد لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما لك جفوت عثمان رضي الله عنه؟فقال: أبلغه أني لم أفر يوم أحد ولا تخلفت يوم بدر. فأخبرته بذلك فقال: أما فراري يوم أحد فقال يعيرني به وقد عفا الله عني حيث يقول: " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " ؛وأما تخلفي يوم بدر فإني كنت أمرض بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، أخبره عني بذلك.

المتفادي من حضور الحرب:

قيل لبعضهم: لم لا تغزو؟قال: إني أكره الموت على فراشي فكيف أسعى إليه برجلي!ورأى المعتصم في بعض منتزهاته أسداً فنظر إلى رجل أعجبه زيه وقوامه وسلاحه فقال له: أفيك خير؟فعلم الرجل مراده. فقال: لا. فقال: لا قبح الله سواك!وضحك. واجتاز كسرى في بعض حروبه برجل قد استظل بشجرة، وألقى سلاحه وربط دابته فقال له: يا نذل نحن الحرب وأنت بهذه الحالة!فقال: أيها الملك إنما بلغت هذا السن بالتوقي. فقال: زه!وأعطاه مالاً.

وصف المحتج لانهزامه بخوفه من القتل:

قيل لرجل: إنك انهزمت. فقال: غضب الأمير علي وأنا حي خير من أن يرضى وأنا ميت.

زفر بن الحارث:

ألا لا تلوماني على الجبن إنني ... أخاف على فخارتي أن تحطما

ولو أنني أبتاع في السوق مثلها ... إذا شئت ما باليت أن أتقدما

آخر:

يقول لي الأمير بغير نصحٍ: ... تقدم! حين جد بنا المراس

وما لي إن أطعتك من حياةٍ ... وما لي بعد هذا الرأس رأس

وهرب الوليد من الطاعون فقيل له: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً. فقال: ذلك القليل أطلب. وقيل لرجل يوم صفين قد انهزم: ما خبر الناس؟فقال: من صبر أخزاه الله ومن انهزم نجاه الله.

محمد بن موسى القاشاني وله أشعار كثيرة في الدلالة على وجوده:

أنا المحصون من كتب المغازي ... إذا قرئت سرى فيها قراني

أرى في النوم سيفاً أو سناناً ... فأسلح في الفراش على المغاني

أبو الغمر:

باتت تشجعني عرسي وقد علمت ... أن الشجاعة مقرونٌ بها العطب

للحرب قومٌ أضل الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى مكروهها وثبوا

ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا الجد يعجبني منهم ولا اللعب

بنت الطرماح:

فتنةٌ يسعى لها جهالها ... أكلب النار فدعها تقتتل

المؤثر الدعة على الحرب:

أبو العتاهية: دخلت أنا وأبان على عنان وهي في خيش فقلت: إن العيش خيش. فقالت: لا قتال وجيش.

زيد الخيل:

تذكر حصنه لما رآني ... أقلب آلةً مثل الهلال

الهذلي:

عقوا بسهمٍ فلم يشعر به أحدٌ ... ثم استفاقوا وقالوا: حبذا الوضح!

الهارب عن قومه:

قيل: الشجاع يقاتل من لا يعرفه، والجبان يفر من عرسه، والجواد يعطي من لا يسأله، والبخيل يمنع من نفسه.

شاعر:

يفر جبان القوم عن أم نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه 

حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:

إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام

أبو تمام:

أجدى قرابيسه صرف الردى ونجا ... بحيث أنجى مطاياه من الهرب

وله:

ونجا ابن خانية البعولة لو نجا ... بمهفهف الكشحين والآطال

ترك الأحبة سالياً لا ناسياً ... عذر النسي خلاف عذر السالي

من نجا وقد استولى عليه الخوف:

شاعر:

فإن ينج منه الباهلي فإنه ... قطيع نياط القلب دامي المقاتل

أبو تمام:

من مشرق دمه في وجهه بطل ... أو ذاهل دمه في الرعب قد نزفا

فذاك قد سبقت منه القنا جزعاً ... وذاك قد سبقت منه القنا نطفا

غيره:

وما نجا من شفار البيض منفلتٌ ... نجا ومنهن في أحشائه فزع

وقيل لمنهزم: كيف فلان؟فقال : قتل! قيل: ففلان؟ قال: قتل!قيل: هل لك في سويق تشربه؟قال: السويق قتل!وقيل لرجل قد تعرض له الأسد فأفلت منه: كيف حالك؟قال: سلمت غير أن الأسد خرئ في سراويلي.

عابدة المهلبية:

فإن ثبتوا فعمرهم قصيرٌ ... وإن هربوا فويلهم طويل

المتبجح بإثارة الحرب والانهزام:

شاعر:

وكتيبةٍ لبستها بكتيبةٍ ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي

فتركتهم نفض الرماح ظهورهم ... من بين منجدلٍ وآخر مسند

فقال أبو القاسم الدميري: هذا كقول الله سبحانه وتعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريءٌ منك" .

المتبجح بأنه عدا لما رأى العدى:

تميم بن أسد الخزاعي:

لما رأيت بني نفاسة أقبلوا ... يغشون كل وتيرةٍ وحجاب

ونشيت ريح الموت من تلقائهم ... وخشيت وقع مهند قرضاب

رفعت رجلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالمتن العراء ثيابي

تسلية المنهزم:

لما انهزم أمية بن عبد الله لم يدر الناس كيف يهنئونه او يعزونه، فدخل عبد الله بن الأهتم فقال: الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا، فقد تقدمت للشهادة بجهدك، ولكن علم الله حاجة الإسلام إليك فأبقاك له.

المتنبي يعتذر عن سيف الدولة في هزيمة وقعت له:

قل للدمستق: عن المسلمين لكم ... خافوا الأمير فجازاهم بما صنعوا

لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمقٍ ... فليس تأكل إلا الميت الضبع

وإنما عرض الله الجنود لكم ... لكي يكونوا بلا فشلٍ إذا رجعوا

فكل غزوٍ إليكم بعد ذا فله ... وكل غازٍ لسيف الدولة التبع

المظهر الشجاعة خارج الحرب والجبن فيها:

قيل لبعضهم: ما النذالة؟قال: الجراءة على الصديق والنكول عن العدو. ولهذا باب في غير هذا الموضع.

الجبن:

في المثل: هو أجبن من صفرد ومن صافر؛قيل: هو طائر يتعلق برجليه في شجرة خشية أن ينام فيؤخذ. وأحذر من عقعق وأشرد من ظليم.

عبد قيس بن خفاف:

وهم تركوك أسلح من حبارى ... رأت صقراً وأشرد من ظليم

وأجبن من المتروف ضرطاً؛هو رجل كان إذا نبهته امرأته للصبوح يقول: لو نبهتني لغارة!فجاءته يوماً تنبهه وقالت: الخيل، فجعل يقول الخيل؛ويضرط حتى مات. قال الله تعالى: " يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو " فهذا مبالغة في وصف الفزع. وسأل عبد الملك محمد بن عميرة عن بعض الأمراء فقال: تركته مشفقاً على حياته محتاجاً إلى طولها. 

آخر:

قطيع نياط القلب دامي المقاتل

أبو تمام:

حيران يحسب سجف النقع من دهشٍ ... طوداً يحاذر أن ينقض أو جرفا

من ذكر خور نفسه:

أتى الحجاج برجل من أصحاب ابن الأشعث فقال له: أسألك أن تقتلني وتخلصني!فقال له الحجاج: لمه؟ فقال: إني أرى كل ليلة في المنام أنك تقتلني!وقتلة واحدة خير؛فضحك وخلى سبيله.

شاعر:

لقد خفت حتى لو تمر حمامةٌ ... لقلت: عدوٌ أو طليعة معشر

آخر:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير

ولما قال عرابة بن سلامة:

وددت مخافة الحجاج إني ... من الحيتان في لجٍ أعوم

قيل له: أقويت؟فقال: الأقواء بين عقلي ونفسي أكبر من ذلك.

من ضاقت عليه الدنيا من المخافة:

كتب مروان إلى بعض الخوارج: إني وإياك لكالزجاجة والحجر، إن وقع عليها رضها، وإن وقعت عليه قضها. قال: واستضعف ابن شبرمة رجلاً فقال: أنت حجة خصمك وسلاح عدوك وفريسة قرنك.

المتكلح من المخافة:

الخائف إذ أفرط به خوفه تقلصت شفته.

الأعشى:

وإذا العوالي أخرجت أقصى ألم ... كلح الفتى جزعاً ولم يتبسم

شيوع المخافة في الناس:

قال الله تعالى " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت " وقال حسان:

تشيب الناهد العذراء منها ... ويسقط من مخافتها الجنين

مما جاء في التلصص وما يجري مجراه

السرقة:

قيل : فلان أسرق من ذبابة ومن عقعق ومن شظاظ؛وهو رجل موصوف بالسرقة. وقيل: فلان لو خلا بالكعبة لسرقها. وقيل: لص شص على الأتباع. ومن الموصوف بالسرقة شيبان بن شهاب كان يجمع القراد في دبة فيأتي بها عطن الإبل إذا استقرت فيه فيفتحها ثم يرسلها، فتتبدد الإبل فيسرقها.

ومنه قول الشاعر:

وأوصى جحدرٌ قدماً بنيه ... بإرسال القراد على البعير

أصناف اللصوص:

قال عثمان الخياط: السارق في الحضر والسفر خمسة: المحتال، وصاحب ليل، وصاحب طريق، والنباش والخناق، فالمحتال اسم لمن لا يعمل إلا بحيلة ولا يقتل فهو لا يعرف بالصبر والنجدة، واللصوص يبهرجونهم ولا يستصحبونهم، وأما صاحب الليل فالنقاب والمتسلق والمكابر وأشباه ذلك، والنباش معروف؛وأما الخناق فما منهم واحد إلا وهو صاحب بعج ورضخ، والرضخ إنما يكون في الأسفار، ويصحب الرجل المنفرد من الرفقة ومعه حجران أملسان ملمومان قدر ملء الكف، فإن قدر عليه ساجداً أو نائماً، وإلا فقائماً فيعمد إلى صماخه ولا يخطئ ، وأكثرهم لا يرضى بالقتل مخافة المطالبة، وتعين ناس منهم شيخاً معه مال، وكان لا ينزل إلا بين القوم فلما أعياهم أمره وكادوا يبلغون المنزل وخافوا الفوت، وجدوا تشاغلاً من القوم فألقى أحدهم الوتر في عنقه وغطاه بثوبه، وأذن في أذنه فأخذ المخنوق يخور، فاجتمع القوم فقالوا: ما لكم والرجل خلوا عنه. فقالوا سلوا ربكم العافية وتباعدوا عنه، فإنه إذا أفاق ورآكم استحيا، فلما رأوه قد برد قالوا: دعوه قد نام وفي النوم راحته. ولما تفرق القوم أخذوا المال وتركوه. ومن الخناقين من يحمل الرجل إلى داره بحيلته، فإذا ألقى الوتر في عنقه ضرب أصحابه الطبل والصنج، وتصايحوا كما يفعل النساء في البيوت ليخفى صوته.

عونة اللصوص:

العين والمؤتي والشاغل والطراز، فالعين الذي يلزم الصيارف يتأمل كل مال محمول يأتي السفن، فيتعرف موضع الحرز ويأتي دار قوم يتطلب أنه يتوضأ، فيتعرف خزائنهم والموضع الذي يقصدون منه. والمؤتي الذي يتولى البيع والإبتياع لهم، ويجعل عند ذلك كأنه أمير قرية أو زعيم محلة، والشاغل هو الذي يشغل القوم عن اللص، والطراد إذا ظفروا به يجيء اللص فيضربه ما لا يضربه السلطان. ويقول: هذا والله صاحبي هو الذي ذهب بمالي، ويضربه ويحتال بذلك حتى يتشاغل عنه القوم، فإذا تشاغلوا عنه أفلته وتأسف مع القوم.

المتبجح بالتصعلك المتشوق إليه:

قال عروة بن الورد:

أقيموا بني لبنى صدور مطيكم ... فإن منايا القوم شرٌ من الهزل

لعل انطلاقي في البلاد وبغيتي ... وشدي حيازيم المطية بالرحل

سيدفعني يوماً إلى رب هجمةٍ ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل

آخر:

وأني لأستحيى من الله أن أرى ... أطوف بحبلٍ ليس فيه بعير

وأسأل ذياك البخيل بعيره ... وبعران ربي في البلاد كثير

بعض اللصوص:

وكم بيتٍ دخلت بغير إذنٍ ... وكم مالٍ أكلت بغير حل

آخر:

وعيابة للجود لم تدر أنني ... بإنهاب مال الباخلين موكل

غدوت على ما أحتازه فحويته ... وغادرته ذا حيرةٍ يتململ

وقيل لأعرابي أتسرق بالنهار؟قال:

معاذ الله من سرقٍ بليلٍ ... ولكني أجاهر بالنهار

وقال بعض الخراب والخارب سارق الإبل خاصة:

أيذهب بارح الجوزاء عني ... ولم أذعر هوامل بالستار؟

وإنما قال ذلك لأن البارح يعفى الأثر فيأمن أن يقتص أثره فيؤخذ.

ولبعض لصوص التمر:

ألا يا جارنا باباض إنا ... وجدنا الريح خير منك جارا

يخبرنا إذا هبت علينا ... وتملأ وجه ناظركم غبارا

تحسين التلصص والتبجح به:

قال عثمان الخياط: لم تزل الأمم يسبي بعضهم بعضاً ويسمون ذلك غزواً، وما يأخذونه غنيمة، وذلك من أطيب الكسب، وأنتم في أخذ مال الغدر والفجرة أغدر، فسموا أنفسكم غزاة كما سمى الخوارج أنفسهم سراة وأنشد:

سأبغي الفتى إما جليس خليفةً ... يقوم سواءً أو مخيف سبيل

وأسرق مال الله من كل فاجرٍ ... وذي بطنةٍ للطيبات أكول

وقالوا: اللص أحسن حالاً من الحاكم المرتشي والقاضي الذي يأكل أموال اليتامى.

التجسير على التلصص:

عثمان الخياط: جسروا صبيانكم على المخارجات وعلموهم الثقافة، وأحضروهم ضرب الأمراء أصحاب الجرائم لئلا يجزعوا إذا ابتلوا بذلك، وخذوهم برواية الأشعار من الفرسان، وحدثوهم بمناقب الفتيان وحال أهل السجون وإياكم والنبيذ فإنها تورث الكظة وتحدث الثقل، ودعوا إلى البول والنوم ولا سيما بالليل، ولا بد لصاحب هذه الصناعة من جراءة وحركة وفطنة وطمع، وينبغي أن يخالط أهل الصلاح ولا يتزيا بغير زيه.

استعمال الظرف في التلصص:

حكي عن عثمان الخياط أنه إنما سمي خياطاً لأنه نقب على أحذق الناس وأبعدهم في صناعة التلصص، وأخذ ما في بيته وخرج وسد النقب كأنه خاطه فسمي بذلك. وحكى أنه قال: ما سرقت جاراً وإن كان عدواً، ولا كريماً ولا كافأت غادراً بغدره. وقال لأصحابه: إضمنوا لي ثلاثاً أضمن لكم السلامة: لا تسرقوا الجيران واتقوا الحرم ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف، وإن كنتم أولى بما في أيديهم لكذبهم وغشهم وتركهم إخراج الزكاة، وجحودهم الودائع. وخرج سليمان وكان من أجلد هذه العصابة ليلة بأصحابه إلى دار بعض الصيارفة فاختفوا، فلما أرادوا الإنصراف قال بعض أصحابه: دعنا نقم على مفارق الطرق لنأخذ من بعض المارة نفقة يومنا، فقال: على أن لا تبطشوا بهم، فقالوا: وهل يفعل ذلك إلا الجبان؟فبينما هم كذلك إذ مر شاب ذو هيئة، فلما قرب سلم عليهم فرد عليه بعضهم السلام، فقام إليه بعضهم فقال رئيسهم: دعه فإنه سلم ليسلم وأجابه بعضكم فصار له ذمة بذلك، قالوا: فنخلي سبيله، قال: أخاف عليه غيركم، ليذهب معه ثلاثة يوصلونه إلى منزله ففعلوا فلما بلغ دفع لهم مالاً وقال: لأحوطنكم بمالي وجاهي لما عاملتموني به. فلما عادوا بالدراهم قال رئيسهم: هذا أقبح من الأول تأخذون مالاً على قضاء الذمام والوفاء بالعهد، لا أبرح أو تردوا إليه المال!فقالوا: قد افتضحنا بالصبح. فقال: لئن نفتضح بالصبح خير من تضييع الذمام وقال: ما خنت ولا كذبت منذ تفتيت.

المتبجح منهم بالصبر على الضرب:

أبو معن الزنحي وكان النظام يقول: لو ادعى النبوة وإن معجزته الصبر على الضرب بالسياط لأدخل عليهم به شبهة عظيمة. وقال عثمان الخياط: ضربته يوماً بشمراخ رطب، فالتوى التواء الحية وكاد يواثبني فقلت: إنك لم تتعمد أحسبت أن صبري على السياط طبيعة، إنما هو الكظم والصبر على قدر النظارة، ألا ترى أنه قيل: أصبر الناس من ضرب في السجن خمسين سوطاً، لأنه إذا لم يكن من يمدحه تألم، وإذا كان بين الناس بحيث يرونه فهو العزم والمروءة والقيام بالفتوة. وقال بعضهم: ضربت بالمدينة ثلاثين حداً على ثلاثين سكراً فما قلت حس، وأن أحدكم ليتألم من دون حد. قيل لبعضهم: من أصبر من رأيت؟فقال: عرفت صبر الهند على النيران، وصبر الأعراب على مد الأعناق لسيوف السلطان، وصبر السند على قطع الآذان وجدع الأنوف، ولم أر أصبر من الفتيان تحت الضرب، والثاني ربما يزهق في ألف درهم وعنده عشرة آلاف، فيضرب سوطا ًأو سوطين فيخرج عن أهله وعشيرته.

فعل الطرارين:

أتى بعضهم بزازاً في غدوة، وهو فارس مع غلام فقال: ائتني بجراب بلخي وجراب مروي وعجل، وخذ الثمن، فأخرج ذلك وساومه وأطمع التاجر وقال: ائتني بآخر. فلما دخل الحانوت قال: ما أضيع متاعكم وأنتم تسخرون بالناس، لو أن إنساناً أخذ متاعك هذا وقفل الباب هكذا ما كنت تفعل؟فحرك التاجر الباب يظن أنه يلعب فإذا هو قد مر إلى الساعة. ودخل آخر على قوم فقال أحدهم: ما في الدنيا أعجب من فلان ترمي بخاتمك في الهواء فإن شئت أتاك به وإن شئت بغيره فقال : أنا أريكم ما هو أعجب من هذا، هاتوا خواتيمكم فأخذها كلها فجعلها في أصابعه وجعل يمشي القهفرى ويصفر، وينظر إلى عين الشمس حتى غاب عن أعينهم فطلبوه فلم يجدوه، فقالوا: هذا والله أعجب!وصلى بعضهم مع قوم فلما سجدوا تناول نعلاً كأنه يريد أن يقتل عقرباً، فضرب بهائم الآخر ليساره كأنه يريد أن يتناولها فيرمي بها ويعود إلى الصلاة، فمر بالنعل. واكترت امرأة داراً ثم أظهرت أنها تريد تجصيصها لأنها تريد أن تزوج فيها ابنها، فاكترت أجراء وأخذت من الجيران آلات، وجمعت متاع الأجراء والآلات في بيت ثم ذهبت. وقال بعضهم: دخلت مسجداً مع صاحب لي، فنام ووضع عنده عمامته، فإذا أنا برجل قد دخل فأخذ العمامة وجعل يضحك في وجهي، وهو واضع سبابته على فمه، كأنه يقول: اسكت وجعل يتراجع القهقرى، وأرى أنه يلاعبنا فمر فانتبه صاحبي فقلت كان كذا فطلبناه فلم نجده. 

المفتخر بصعود المراقب:

ربيعة بن مقروم:

ومربأة أوفيت جنح أصيله ... عليها كما أومى القطامي مرقبا

ربيبة جيشٍ أو ربيبة مقنب ... إذا لم يقد وغد من القوم مقنبا

أبو نواس:

رب فتيان ربأتهم ... مسقط العيوق من سحره

فأتقوا بي ما يريبهم ... إن تقوى الشر من حذره

نوادر لمن سرق له شيء:

سرق لرجل درهم فقيل له: إنه في ميزانك. فقال: قد سرق مع الميزان. وسرق لآخر خرج فقيل له: لو قرأت عليه آية الكرسي لم يسرق. فقال: إنه كان فيه مصحف تام. وسرق لبعضهم بغل فقال أحد اصحابه: الذنب لك في إهماله، وقال بعضهم: الذنب للسايس، فقال هو: يا قوم واللص ما له ذنب؟وسئل بعضهم: إلى أين ؟فقال: إلى الكناسة لأشتري حماراً؛فقال له رجل: قل إن شاء الله. فقال: وما وجه الإستثناء؟الدراهم في كمي والحمير في الكناسة؛فلما ذهب سرقت منه الدراهم فعاد فقيل له: ما الذي فعلت؟قال: سرقت الدراهم إن شاء الله!وطرق لص عجوزاً فلما دخل خباءها وأحست به قالت رافعة صوتها: يا نفس لو تزوجت زوجاً ، فأولدك ثلاث بنين، فسميت أحدهم عمرا، والآخر بكرا، والآخر صقرا، يا نفس ما أصنع بهم وأخشى أن يموتوا فأندبهم فأقول: واعمراه وابكراه واصقراه!ورفعت صوتها، وكان لها جيران يسمون بهذه الأسماء فجاؤوها فقالت: دونكم اللص. وسرق بعضهم حماراً وذهب ليبيعه فسرق منه؛فقيل: بكم بعته؟فقال: برأس المال!ودفع بعضهم وكان قفافاً دراهم إلى بعض الصيارف فقف منه الصيرفي شيئاً فقال:

عجبت عجيبةً من ذئب سوءٍ ... أصاب فريسةً من ليث غاب

وإن أخدع فقد يخدع ويؤخذ ... عناق الطير من جو السحاب

فقف بكفه سبعين منها ... من البيض المنقشة الصلاب

حد السرقة:

قال الله تبارك وتعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يقطع السارق في ربع دينار " . وروي: لا قطع إلا في عشرة. وقال أيضاً: لا قطع في ثمر ولا كثر. وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ليس على المختلس والمنتهب والخائن. وأتى صفوان حضرة النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد سرق رداءه، فأمر بقطعه؛قال صفوان: أتقطعه في ردائي؟قال: نعم. قال: قد تصدقت به عليه. قال: هلا قبل أن تأتيني به؟وأتى معاوية بسارق فأمر بقطعه، فجاءته أمه وسألته أن يعفو عنه، فقالت: هو واحدي وكاسبي. فقال: إنه حد من حدود الله تعالى لا نقدر على إبطاله!فقالت: اجعله بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها؛فأمر بتخليته. 

رد ذاعر بحيلة:

أقبل واصل في رفقة فأحسوا بخوارج فقال لأصحابه: دعوهم لي. فخرج إليهم فقالوا له: ما أنتم؟قال: مشركون مستجيرون بكم يا قوم. قالوا: قد أجرناكم. فقالوا: علمونا. فعلموهم الأحكام، فقال إن الله تعالى يقول: " وإن أحداً من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " ، فأبلغونا مأمننا فقالوا: هذا لكم فساروا معهم حتى أبلغوهم. وكان الخوارج حين دخلوا الكوفة فانتهوا إلى أبي حنيفة رضي الله عنه فانتضوا سيوفهم فقالوا: يا عدو الله ما أحد منا إلا وقتلك عنده أحب إليه من عبادة سبعين سنة، وقد جئناك بمسألتين فإن أجبت عنهما وإلا أرقنا دمك!فقال: أنصفوني اغمدوا السيوف فإن بريقها يهولني، فأبوا فقال: تكلموا، فقالوا: جنازتان على باب المسجد: أحدهما جنازة شارب خمر شربها فمات فيها غرقاً، والأخرى جنازة زانية حبلت وشربت دواء فقتلت جنينها وماتت. فقال: أمن النصارى كانا أم من اليهود؟قالوا: لا. قال: فمن أي الملل كانا؟قالوا: ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؛قال: فما يشهدان به من الكفر أم من الإيمان؟قالوا: من الإيمان. قال: أقول كما قال نوح عليه السلام في قوم كانوا أعظم جرماً منهم: " وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي " أو ما قال إبراهيم " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " أو ما قال عيسى " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وأقول ما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " ولا أعلم الغيب ولا أقول أني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً، الله أعلم بما في أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين " . فألقى القوم أسلحتهم وقالوا: تبرأنا مما كنا عليه. ولقي خارجي شيطان الطاق فقال له: ما تقول في علي وعثمان؟فقال: أنا من علي ومن عثمان بريء. يعني أن علياً بريء من عثمان، وكان شيعياً.

من تخلص بسخف أو رقاعة:

خرج داود المصاب وكان معه دراهم، فتبعه قوم فصاحوا به: ألق ما معك يا مجنون!فقال: نعم. فجلس وخرئ وقال: ما معي وحياتكم غير هذا. وأخذ لصوص قوماً في طريق وقالوا: أنتم بلعتم الدنانير فاجلسوا واخرأوا، فأعجز أحدهم الخراء فرأى سرقيناً يابساً فجلس عليه فقالوا له: أنت تخرأ سرقينا. فقال: الغريب مسكين أيش يمكنه يخرأ إلا مثل هذا؟فضحكوا وخلوا سبيله. ومما يدخل في الفصل قول جرير بن عبد الحميد: سرقت من شيخ إوزة، فشكا ذلك إلى سليمان بن داوود عليهما السلام، فخطب الناس فقال: ما بال أحدكم يسرق إوزة جاره وريشها على رأسه؟فمد رجل يده إلى رأسه كأنه يمسحه، فدعاه وقال له: أد إوزة صاحبك!

مما جاء في الحبس والقيد والضرب

وغيرها

السجن وضيقه والتشديد فيه:

كتب بعضهم على باب السجن: هذه قبور الأحياء وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء. وكتب تحته: ما يدخل أحدهم السجن إلا إذا قيل لهم فيم حبستم لقالوا مظلومين. وأمر بحبس ابن أبي علقمة في دعوى فقال: دعني آتي البيت لحاجة، فلم يترك فتمثل بقول الله تعالى " فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون " فدخل السجن فقال: ما سلككم في سقر؟قالوا: لم نك من المصلين، فالتفت فرأى المهلب فقال: من فعل هذا بآلهتنا؟ودخل أعرابي إلى السجن فوجد على بابه تنزو وتلين؛فقال:

ولما دخلت السجن كبر أهله ... وقالوا: أبو ليلى الغداة حزين!

وفي الباب مكتوبٌ على صفحاته ... بأنك تنزو ثم سوف تلين

شاعر:

وبت بأحصنها منزلاً ... ثقيلاً على عنق السالك

ولست بضيفٍ ولا في كراء ... ولا مستعيرٍ ولا مالك

وقال في السجن:

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... ولسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

إذا طلع السجان وقتاً لحاجة ... عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا

وسمع الجماز محبوساً يقول: اللهم احفظني. فقال: قل اللهم ضيعني فإن حفظه لك أن يبقيك فيه.

من شدد عليه من المحبسين:

خرج الحجاج يوماً إلى الجامع فسمع ضجة عظيمة فقال: ما هذا؟قالوا: أهل السجن يضجون من الحر. فقال: قولوا لهم اخسأوا فيها ولا تكلمون. وأحصي من قتلهم الحجاج سوى من قتل في بعوثه وعساكره فوجد مائة وعشرين ألفاً، ووجد في حبسه مائة ألف وأربعة عشر ألف رجل، وعشرون ألف امرأة، منهن عشرة آلاف امرأة مخدرة وكان حبس الرجال والنساء في مكان واحد، ولم يكن في حبسه سقف ولا ظل، وربما كان الرجل يستتر بيده من الشمس فيرميه الحرس بالحجر، وكان أكثرهم مقرنين بالسلاسل وكانوا يسقون الزعاف ويطعمون الشعير المخلوط بالرماد ولبى رجل في الحبس في زمن المأمون فرفع إليه خبره فوقع، أظن هذا قصد خلاف نيته وأظهر ضد عزيمته، وقد أخطأت استه الحفرة، وإذا حرم الحج بسوء تدبيره فلن يقدم فتوى صادقة من فريضة محكمة وهو محصر وعليه الهدى، فليؤخذ بتعجيله ولا يرخص له في تأخيره. قال يعقوب بن داود: حبسني المهدي في مكان لا أعرف فيه الليل من النهار في بئر واسعة، وفيها بئر أخرى أتغوط فيها، وأعطى في كل يوم ماء وخبزاً حتى عفا شعري وصار أطول من شعر البهائم، حتى مضت إحدى عشرة سنة فأتاني آت في منامي فقال: حنى على يوسف رب فأخرجه من قعر جب فحمدت الله، فإتى على ذلك سنة ثم أتاني ذلك الآتي فقال:

عسى فرجٌ يأتي به الله إنه ... له كل يومٍ في خليقته أمر

ثم مكثت حولاً آخر فأتاني ذلك الآتي فأنشدني:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب

فيأمن خائفٌ ويفك عانٍ ... ويأتي أهله النائي الغريب

فلما أصبحت دلي لي مرس فشددت به وسطي فخرجت ما أبصر أحداً فقلت: السلام على أمير المؤمنين. قيل: ومن أمير المؤنين؟قلت: المهدي. قالوا: رحم الله المهدي. قلت: الهادي. قالوا: رحم الله الهادي. قلت: فمن؟قالوا: الرشيد. قلت: السلام على أمير المؤمنين الرشيد. فقال: وعليك السلام بخمسمائة ألف ورد علي ضياعي فعولجت حتى عاد ضوء عيني، فاستأذنته في الحج فأذن لي. فمضى إلى الحج ومكث حتى توفي. 

تصبر المحبوس وانتظاره الفرج:

لما حبس يحيى وقيد قال:

وإني من القوم الذين يزيدهم ... علواً وفخراً شدة الحدثان

فقيل: في هذا الوقت تقول هذا؟فقال: من مات قبل أجله حتى أكونه؟كتب رجل في السجن إلى الرشيد: ما مر يوم من نعيمك إلا ومر معي يوم من بؤسي والأمر قريب والسلام.

وإن خلاخيل الرجال قيودها

قال العوام بن حوشب: صبحنا إبراهيم التميمي إلى سجن الحجاج فقلنا ما حاجتك؟فقال: حاجتي أن تذكرني إلى الرب الذي فوق الرب الذي أمر يوسف أن يذكر عنده. ولما حبس المأمون إبراهيم بن المهدي في يد أحمد بن أبي خالد أخذ في الصلاة والعبادة، فدخل عليه أحمد فقال: أمجنون تريد أن يقول المأمون هو يتصنع للناس فيقتلك؟قال: فما الرأي؟قال: أن تشرب وتطرب وتحضر القيان. فأخذ في ذلك ثم دخل أحمد على المأمون فقيل له: ما خبر النادر؟قال: أصون سمع أمير المؤمنين أن أخبره بما هو فيه. فقال: ما هو؟قال: مكب على الشرب والجواري وتعاطي الجسارة!فقال: والله لقد شوقتني إليه؛فكان ذلك سبباً لرضاه عنه.

وقال علي بن الجهم:

قالوا: حبست؟فقلت: ليس بضائري ... حبسي وأي مهندٍ لا يغمد؟

أو ما رأيت الليث يألف غيله ... كبراً وأوباش السباع تردد؟

والبدر يدركه السرار فينجلي ... أيامه وكأنه متجدد

ولكل حالٍ معقبٌ ولربما ... أجلى لك المكروه عما يحمد

والحبس ما لم تغشه لدنيئةٍ ... شنعاء نعم المنزل المتودد!

بيتٌ يجدد للكريم كرامةً ... ويزار فيه ولا يزور ويحمد

أبو فراس:

ولله عندي في الأسار وغيره ... مواهب لم يخصص بها أحدٌ قبلي

فقل لبني عمي وأبلغ بني أبي ... بأني في نعماء يشكرها مثلي

وما شاء ربي غير نشر محاسني ... وأن يعرفوا ما قد عرفت من الفضل

أعرابي حبس:

ولا تحبسا حبس اليمامة دائماً ... كما لم يدم عيشٌ بحزن أبان

المكبل الهزلي:

ويمر في العرقات من لم يقتل

أبو تمام:

وللحديد سخابٌ في مقلده ... وفي مخلد ساقيه خلاخيل

وقيل: فلان راكب أدهم يوسف فيه إذا قيد.

المعدل:

وقد سرني أن بات في الكبل راسفاً ... تغنيه في داجي الظلام صلاصله

فإن يظفر الإسلام منه بثأره ... فقدماً إلى الإسلام دبت غوائله

معرفة أهل السجون بالأخبار:

حكي أن يوسف عليه السلام دعا لأهل السجون فقال: اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تخف عليهم الأخبار؛فببركته عليه السلام هم أعلم الناس بكل خبر في كل بلد.

الهارب من السجن:

كان الكميت في سجن بني أمية، فلما هرب قال:

خرجت خروج القدح قدح ابن مقبلٍ ... على الرغم من تلك النوائج والمسلي

علي ثياب الغانيات وتحتها ... عزيمة رأي أشبهت سكة النصل

الفرزدق في ابن هبيرة حين نقب سجن خالد بن عبد الله:

ولما رأيت الأرض قد سد ظهرها ... ولم تر إلا بطنها لك مخرجا

دعوت الذي ناداه يونس بعدما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا

خرجت ولم تمنن عليك شفاعةٌ ... سوى ربد التقريب من آل أعوجا

استطلاق أسير أو محبوس والرغبة في الحبس:

الحطيئة لما حبسه عمر رضي الله عنه في سبب الزبرقان وهجائه إياه:

ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر

حبست كاسبهم في قعر مظلمةٍ ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر

الحارثي:

أفكك أسيرك والتمس فكاكه ... حسن الجزاء بصالح الأعمال

الصابي في المطهر لما قيد وحبس:

لساني في نشر المدائح مطلقٌ ... وساقي في قبر المحابس موثق

وحلمك يأبى الجمع ما بين ذا وذا ... فحتى متى بين الفريقين أفرق؟

وأتى المنصور برجل جانٍ فأمر بقتله فقال: إن الله أعظم سلطاناً منك وعاقب بالخلود لا بالفناء؛فأمر بحبسه. كتب أبو ثوابة إلى قوقارة يقول: ما رأيك أبقاك الله في المصير إلى الحبس موفق إن شاء الله! فكتب قوقارة تحته: لا رأي لي في ذلك.

تهنئة مطلق من الحبس:

البحتري:

وما هذه الأيام إلا مراحلٌ ... فمن منزلٍ رحبٍ إلى منزلٍ ضنك

وقد هذبتك النائبات وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك

أما لك في الصديق يوسف أسوةٌ ... لمثلك محبوس على الظلم والإفك

أقام جميل الصبر في السجن برهةً ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك

المصلوب:

مرت امرأة بجعفر بن يحيى وقد صلب فقالت: لئن صرت اليوم راية لقد كنت بالأمس غاية. وقيل لأعرابي: إن الخليفة صلب فلاناً. فقال: من طلق الدنيا فالآخرة صاحبته، ومن فارق الخز فالجذع راحلته.

أبو تمام:

بكروا وأسروا في متون ضوامرٍ ... قيدت لهم من مربط النجار

سود الثياب كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعاً من قار

لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفرٍ من الأسفار

ابن سلكة:

كأنه شلو شاةٍ والهواء له ... تنور شاويةٍ والجزع سفود

آخر:

يظل في منزل أناف به ... مستضحكاً لا يطيق ضم فمه

تنتابه الطير والنسور وما ... يبخل عنها بلحمه ودمه

عوفي من ضمة الضريح ومن ... نقل الثرى والثواء في رحمه

وقال أعرابي وقد صلب صاحب له:

من مبلغ الحسناء أن خليلها ... بأرض الأعادي فوق إحدى الرواحل

على ناقةٍ لم يضرب الفحل أمها ... مشذبةٍ أطرافها بالمناجل

الأخطل:

كأنه عاشقٌ قد مد بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل

أو قائم من نعاسٍ فيه لوثته ... مداومٌ لتمطيه من الكسل

أبو تمام:

سامٍ كأن العز يجذب ضبعه ... وسموه من ذلةٍ وسفال

مسلم:

جعلته حيث ترتاب الظنون به ... وتحسد الطير فيه أضبع البيد

تعدو السباع فترميه بأعينها ... يستنشق الجو أنفاساً بتصعيد

جارية محمود الوراق وقد أكثرت في وصف ذلك في بابك:

على مركبٍ خشن ظهره ... طويل الوقوف بطيء المسير

تظل الذئاب وعرج الضباب ... بعقوته حسداً للطيور

فأسفله مأتمٌ للسباع ... وذروته عرسٌ للنسور

المضروب بالسياط:

الفرزدق:

لعمري لقد صبت على ظهر خالدٍ ... شآبيب ما استهللن من سبل القطر

آخر:

كأنما جلده والسوط يأخذه ... قطنٌ تطاير عن قضبان نداف

الببغا في لص جعل على رأسه برنس فطوق به:

وبدل من تاج العمامة برنساً ... يبالغ في تقويمه وهو مائل

أمال به طولاً سوى الجسم وهو من ... زيادته في طوله متضائل