إعمار العراق تعتريه عاهات السياسة
الوضع الذي أثرناه في المقال السابق وعلاقته بالإعمار في العراق نقطة إنطلاق في محاولة فهمنا للتعقيدات السياسية والمذهبية والإثنية، كما محاولة تلخيص ما حدث وغيّر في نسيج العراق الإنساني وما دخَل عليه من الخارج طوعاً أو عُنوَة وغيّر في مفاهيم الناس وعلاقة كل شريحة منها بكل شريحة أخرى.
 
كان لبنيته التحتية بكليتها، العامة منها والخاصة ، النصيب الأكبر من التغيير والذي كان لسوء الحظ سلبيا هدّاما ، القصد منه إفقاد السكان ثقتهم بوطنهم كي يسرَحَ من يسرَح ويَمرحَ من يمرح دون حسيبٍ أو رقيب، لأن الحسيب والرقيب كانا مختبئان خائفان لا حول لهما ولا طول وهَمُّهما إنحصَر في سعيهما المتواصل للبقاء على وجهها أحياء ييُرزقون وإعالة من يعيلون، ولا يترك لهم السارح والمارح وقتا يصرفونه في مراقبتهما على ما يفعلون، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال.
 
هذا من ناحية، ولكن يهُمّنا أن نذكر،أن معرفة كل الأمور بِحَذافيرها ضرورة للتخطيط لإعادة إعمار البلاد لأن الإعمار لا يقتصر على البناء بأشكاله وأنواعه، بل هو في الأساس تلبية لحاجات إفتقدها الناس وتلبية أيضا لمن تجاوزت محنته نقصا أو حاجة بعينها ، إذ أن بعض شرائح المجتمع وعلى مدار السنوات العجاف التي مرّ البلد فيها وتجاوزت مدتها النصف قرن، إفتقدناه ولم يعد موجودا أو تقلصت أعداده إلى أرقام لم يكن من الممكن التنبؤ بها قبل دخول العراق بمرحلة السنوات العجاف.
 
هؤلاء الناس، الذين إفتقدوا حاجاتاً والذين إفتقدوا وطنا هم أساس وهدف لكل إعمار. لم يفتقدوا شيئا عن رغبة أو تخطيط أو حتى موافقة بل أتى من أفقدهم حتى كرامتهم وهذا أيضا من أهم حقول إعادة الإعمار. وسنُفصل كل ما يتعلق بالإنسان في مقال آخر.
 
السؤال يتعلق بكيفية التعويض عن الناس بكل ما ومن إفتقدوا وأيضا بكيفية إرساءثقتهم ببلدهم ومن يسوسه وبمستقبلهم ومن يقوم بتأمينه ومحاسبة من أسهم في إيصال البلد إلى ما وصل إليه ووضع أسس محاسبة كل من يحكم أو يقوم بوظيفة عامة، أكان رئيسا للبلاد أو موظفا عاديا واجبه أن يخدم، وبكل معنى الكلمة، ويعاملهم ويرعاهم كأب صالح عليه مسؤولية الأبوة الصالحة ، كما تنص كل قوانين الدنيا. الكرامة ليست كلمة تقال أو تُلفظ بل هي الفارق بين أن يكون الفرد مؤمنا ببلده وبمن إختاره حاكما ويعرف ماهية حقوقه وواجباته ويمارسهما بحرية ويعيش جوّهما أو لا يكون وبهذه البساطة،والكرامة لا تتجزأ.
 
ولا يجوز التمييز بين من هو في السلطة ومن هو خارجها إذ أن لكل إنسان وظيفة واجبُه أن يقوم بها ويمارسها بأمانة وصدق ويفخَر بإنجازهانوعا وكمّاً .
 
الإنسان إذن هو مِحور وهدف الإعمار. يقول مجنون ليلى قيس بن الملوحشعرا ما نقوله نثرا في هذا المقال ويؤكد أن المهم هو " من سكن الديار" وليست الديار بحدِّ ذاتها:
 
أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى.. أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا
 
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي.. وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيار.
 
بعد أن توسّعنا في معنى كلمة "إعمار" وما تتضمن من معاني إنسانية نأمل أن تكون لها الأولوية في التخطيط والتنفيذ، نعود وننتقل إلى عملانية التخطيط والتي لا تستند إلاّ لمعايير هندسية وجغرافية والكثافة السكانية في أنحائها وتُمسح وتُدرس الحاجات وتُجَزّأ ويدخل عندها باب تخطيط المدن بطرقها الداخلية وشبكاتها من ماء وكهرباء وغاز وصرف صحي وتجميع نفايات ونقلها إلى محطّات معالجتها وما إلى ذلك من أعمال وتقنيات تتلازم وحاجات كل مدينة وقرية وأي تجمُّعٍ بشري آخر.
 
العراق، لو كان البلد مستقرا موحّداً ، لكان التخطيط لإعادة الإعمار يتبع النمط المعتاد وتكون المشاكل فيه لا تتعدى حسم أولويات التخطيط وهو موضوع سياسي لا هندسي وتأمين كلفته المالية. ولكن العراقاليوم تعتريه عاهات سياسية قد تُدخِل البلد في تغييرات وتعديلات على نوع الحكم ومكوِناته وهذا يؤسس لتقسيمه بشكل أو بآخر إلى وِحدات ثلاثة واضحة المعالم ، إثنية ومذهبية، تأخذ شكل دولٍ مستقلة أو كانتونات فدرالية أو حتى بقاء الوحدة مع لامركزية إدارية واسعة للمناطق الثلاثة.
 
يعني ما نقول أن البلد قد تكون له خطة موحدة أو خطط مستقلة يربطها ببعضها ما يربط البلاد المجاورة الصديقة ويكون التخطيط المُشترك بحده الأدنى وكافيا فقط لتأمين المصالح المشتركة بين أقسامه.
 
لا نجِد فائدة الآن من تقديم نماذج للتخطيط لإعادة الإعمار قبل أن نعرف لمن التخطيط وكيف ستكون العلاقةبين من كانوا جزءا من بلد واحد وتفرّقوا.