جاء في "مصارع العشاق"

جاء في "مصارع العُشاق" للسراج القاري البغدادي والمتوفي عام 1106 م، بعضا من قصص مشهورة في العشق نقتبس منها أربعة:

1. المأمون يسأل ما هو العشق

حدثنا أبو العالية الشامي قال: سأل أمير المؤمنين المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانح تسنح للمرء، فيهتم بها قلبه، وتؤثرها نفسه.

قال: فقال له ثمامة من جُلاس الأمير : اسكت يا يحيى! إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد ظبيا أو قتل نملة، فأما هذه فمسائلنا نحن.

فقال له المأمون: قل يا ثمامة، ما العشق؟ فقال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب ملك مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائزة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها، وقود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله وعمي في القلوب مسلكه.
فقال له المأمون: أحسنت والله يا ثمامة! وأمر له بألف دينار.

2. سقراط والعشق

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: وأخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان قال: قال سقراط الحكيم: العشق جنون، وهو ألوان كما أن الجنون ألوان.

3. مجنون دير هرقل وهو دير مستشفى للمجانين.

حدثنا عبد الله بن عبد العزيز السامري قال: مررت بدير هرقل أنا وصديق لي، فقال لي: هل لك أن تدخل فترى من فيه من ملاح المجانين؟ قلت: ذاك إليك. فدخلنا فإذا بشاب حسن الوجه، مرجل الشعر، مكحول العين، أزج الحواجب، كأن شعر أجفانه قوادم النسور، وعليه طلاوة تعلوها حلاوة، مشدود بسلسلة إلى جدار، فلما بصر بنا قال: مرحبا بالوفد، قرب الله ما نأى منكما، بأبي أنتما. قلنا: وأنت، فأمتع الله الخاصة والعامة بقربك، وآنس جماعة ذوي المروءة بشخصك، وجعلنا وسائر من يحبك فداءك.

فقال: أحسن الله عن جميل القول جزاءكما، وتولى عني مكافأتكما.

قلنا: وما تصنع في هذا المكان الذي أنت لغيره أهل؟ فقال:

الله يعلم أنني كمد، ... لا أستطيع أبث ما أجد.

نفسان لي: نفس تضمنها ... بلد، وأخرى حازها بلد.

أما المقيمة ليس ينفعها ... صبر، وليس بقربها جلد.

وأظن غائبتي كشاهدتي، ... بمكانها تجد الذي أجد.

ثم التفت إلينا فقال: أحسنت؟ قلنا: نعم!، ثم ولينا فقال: بأبي أنتم ما أسرع مللكم، بالله أعيروني أفهامكم وأذهانكم. قلنا: هات! فقال:

لما أناخوا، قبيل الصبح، عيسهم، ... ورحلوها، فسارت بالهوى الإبل.

وقلبت، من خلال السجف، ناظرها، ... ترنو إلي ودمع العين منهمل.

فودعت ببنان عقدها عنم، ... ناديت لا حملت رجلاك يا جمل.

ويلي من البين! ماذا حل بي وبها؟ ... يا نازح الدار حل البين وارتحلوا.

يا راحل العيس عرج كي أودعها، ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل.

إني على العهد لم أنقض مودتكم، ... فليت شعري، وطال العهد، ما فعلوا؟

فقلنا، ولم نعلم بحقيقة ما وصف، مجونا منا: ماتوا! فقال: أقسمت عليكم! ماتوا؟ فقلنا، لننظر ما يصنع: نعم! ماتوا. قال: إني والله ميت في أثرهم، ثم جذب نفسه في السلسلة جذبة دلع منها لسانه، وندرت لها عيناه، وانبعثت شفتاه بالدماء، فتلبط ساعة، ثم مات. فلا أنسى ندامتنا على ما صنعنا.

4. فراقية ابن زريق

أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن محمد بن الجاز القرشي الأديب بالكوفة، وأنا متوجه إلى مكة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة بقراءتي عليه، قال: حدثني بعض أصدقائي أن رجلا من أهل بغداد قصد الأمير أبا عبد الرحمن الأندلسي وتقرب إليه بنسبه، فأراد أبو عبد الرحمن أن يبلوه ويختبره، فأعطاه شيئا نزرا، فقال البغدادي: إنا لله وإنا إليه راجعون! سلكت البراري والبحار والمهامه والقفار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر؟ فانكسرت إليه نفسه واعتل فمات.

وشغل عنه الأندلسي أياما، ثم سأل عنه فخرجوا يطلبونه ، فانتهوا إلى الخان الذي كان فيه وسألوا الخانية عنه، فقالت: إنه كان في هذا البيت، ومذ أمس لم أره، فصعدوا فدفعوا الباب، فإذا بالرجل ميتا، وعند رأسه رقعة فيها مكتوب:

لا تعذليه، فإن العذل يولعه ... قد قلت حقا، ولكن ليس يسمعه.

جاوزت في نصحه حدا أضر به ... من حيث قدرت أن النصح ينفعه.

قد كان مضطلعا بالحطب يحمله، ... فضلعت بخطوب البين أضلعه.

ما آب من سفر إلا وأزعجه ... عزم إلى سفر بالرغم يزمعه.

كأنما هو في حل ومرتحل ... موكل بقضاء الله يذرعه.

أستودع الله، في بغداد، لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه.

وكم تشفع بي أن لا أفارقه، ... وللضرورات حال لا تشفعه.

وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى، ... وأدمعي مستهلات وأدمعه.

أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته، ... وكل من لا يسوس الملك يخلعه.

ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا ... شكر عليه، فعنه الله ينزعه.

فلما وقف أبو عبد الرحمن على هذه الأبيات بكى حتى اخضلت لحيته، وقال: وددت أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي. وكان في رقعة الرجل: منزلي ببغداد في الموضع المعروف بكذا، والقوم يعرفون بكذا، فحمل إليهم خمسة آلاف دينار وسفتجة، وحصلت في يد القوم وعرفهم موت الرجل.