ما ان استتب الحكم لعبد الرحمن الناصر في الاندلس وأقام لدولته قواعد مهمة في مناطق عديدة من المغرب الاقصى وأضعف النفوذ الفاطمي هناك حتى بدأ يعمل على تثبيت حكمه داخلياً وخارجياً . فأقام على الصعيد الخارجي شبكة من الاتصالات الواسعة مع الممالك الاوروبية والشرقية ، واكثرها ممالك مسيحية . فجاءته الوفود، بعضها بقيادة الملوك انفسهم ، من الدول الاوروبية ، كبيرها وصغيرها . من كبيرها دول عظمى مثل الامبراطورية البيزنطية والامبراطورية الرومانية المقدسة . وتبادل السفراء مع أكثر هذه الدول وبنوع خاص مع الامبراطورية البيزنطية . فقد أشارت المصادر البيزنطية الى وجود بعثة دبلوماسية للخليفة في القسطنطينية سنة 949 م . كما جاءت بعثة بيزنطية في آب / اغسطس من ذلك العام مبعوثة من قبل الامبراطور قسطنطين السابع حاملة هدايا نفيسة لخليفة قرطبة . حلّت البعثة في مرفأ بجاية حيث استقبلت استقبالاً حافلاً ، انتقلت بعدها الى قرطبة فاستقبلها الناصر بمراسم غاية في العظمة والاسراف . ولما رجعت البعثة الى القسطنطينية كان يرافقها المستعرب هشام بن هذيل ، رسولاً من قبل الخليفة ، محملاً بالهدايا الثمينة للامبراطور تعبيراً عن المودة والصداقة .
أهدى امبراطور بيزنطية الخليفة الاندلسي نسخة أصلية من كتاب ديسقوريدس "مصدر الحشائش بالتصوير الرومي " ، وكان الكتاب مكتوباً باليونانية . وكذلك أهداه كتاب بولوس هروسيوس عن تاريخ الروم وفيه اخبار الدهور وقصص الملوك الاول . وكان الكتاب مكتوباً باللاتينية . ووصل راهب بيزنطي يدعى نيقولا ليتعاون مع مجموعة من الاطباء والباحثين ، في مقدمتهم طبيب الخليفة حسداي بن شبروط لنقل كتاب ديسقوريدس الى العربية ولاستخراج عقاقير كثيرة منه . وكان هذا الكتاب قد ترجمه حنين بن اسحق في بغداد لكن اسماء النباتات ظلت باليونانية مما صعب على العرب والمسلمين فهمها والاستفادة من المعلومات التي تضمنها الكتاب .
ذكر مؤرخون مسلمون عديدون بينهم ابن ابي اصيبعة في كتابه " عيون الانباء" اخبار هذه السفارة البيزنطية التي حلّت في قرطبة . وكذلك اشار ابن خلدون عن سفارة ثانية لبيزنطية جاءت الى قرطبة . وتتكلم المصادر التاريخية الاخرى عن سفارات من دول اخرى بينها سفارة لصاحب سردينيا حلًت سنة 942 م . كما ان الامبراطور أتون الأول الكبير ، امبراطور الامبراطرية الرومانية المقدسة ارسل بعثة الى قرطبة سنة 956 م برئاسة الراهب حنا الجورزيني الذي عرف عنه اهتمامه بالحوار المسيحي الاسلامي . وكانت بعثة قد وفدت من مملكة ليون سنة955 م للعمل على اقامة علاقة ود وصداقة مع الناصر . وكانت هذه المملكة تتزعم المعارضة العسكرية لدولة الاسلام في الاندلس . وفي سنة 958 م حلّت في قرطبة طوطة ملكة مملكة نبرة ومعها ولي عهدها غرسيه ورهط من وجهاء البشكنس واحبارها وحلوا ضيوفاً في قصور مدينة الزهراء .
شهدت الاندلس في أيام حكم عبد الرحمن الناصر نهضة عمرانية واقتصادية ما عرفت لها البلاد مثيلاً من قبل . فعمرت خزانة الدولة في قرطبة بالاموال . وذكر ابن خلدون انه تجمع في خزانة الدولة من مال الاحتياط عند وفاة الخليفة الناصر ما لا حصر له . وقد أفادت العاصمة قرطبة بصورة خاصة من هذا الرفاه فنمت بشكل مدهش وسريع، فعمرت البيوت والدور العامة وصار عدد مساجدها ثلاثة الاف مسجد وحماماتها ثلاثمئة . كما ان الخليفة اراد ان يقيم في قرطبة مدينة خلافية جديدة . وفي سنة 936 م بُدء العمل على اقامة المدينة الجديدة في مكان يقع الى الجنوب الغربي من قرطبة وأشرف ولي العهد ، وهو الامير الحكم ابن الخليفة الناصر ، على الاعمال . وقام باعداد التصاميم المهندس مسلمة بن عبد الله الذي حشد،لأعمال التنفيذ والبناء ، العمال والصناع المهرة من كل انحاء اسبانيا . سميت هذه المدينة الزهراء واستمر بناءها الى حكم الحكم المستنصر .
وصف ابن حيان الزهراء بقوله : "جُلب اليها الرخام الابيض من المرية والمجزع من رية والوردي والاخضر من اسفافس وقرطاجنة ، والحوض المنقوش المذهب من الشام ... وبني في قصرها المجلس المسمى بقصر الخلافة . وكان سمكه من الذهب والرخام الغليظ ... وكانت حيطان هذا المجلس مثل ذلك ... وكانت قراميد القصر من الذهب والفضة . وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية ابواب قد انعقدت في حنايا من العاج والآبنوس المرصع بالذهب واصناف الجواهر ، قامت على سواري من الرخام الملون والبلور الصافي ".
أقيمت مدينة الزهراء ، كما يبدو من بقاياها اليوم ، على امتداد الف وخمسمئة متر طولاً وسبعمئة وخمسين متر عرضاً . ونقلت اليها المياه في قناة امتدت على بعد ثمانين كيلومتراً ، حفرت في عمق الجبل المطل على الزهراء . كانت المدينة على شكل مدرج من ثلاث طبقات وكأنها مدينة فوق مدينة . وأمر الناصر ببناء مسجد الزهراء فجاء غاية في الاتقان والبهاء . وكانت له صومعة ارتفاعها 40 ذراعاً ومنبر هو نهاية من الحسن . ويقول المقري في كتاب "نفح الطيب" ان تكاليف بناء هذه المدينة قد اتت على جزء كبير من واردات الدولة على امتداد ربع القرن الاخير من حكم الخليفة الناصر ، إذ كانت تبلغ سنوياً حوالى 300 الف دينار.
إهتم الناصر بمسجد قرطبة ، فهدم منارته القديمة واقام مكانها سنة 951 م منارة اخرى أكثر إرتفاعاً ، حيث ارتفعت حوالى 73 ذراعاً ، وبلغ عرض قاعدتها في كل تربيع 18 ذراعاً . وفي " اعلى ذروتها " ، كما كتب المقري ، " ثلاث شمسات يسمونها رمانات ملصقة في السفود البارز في اعلاها من النحاس : اثنتان منها ذهب ابريز ، والثالثة منها وسطى بينهما من فضة أكسير ... وفوقها سوسنة من ذهب مسدس فوقها رمانة ذهب صغيرة " . وجدد الناصر واجهة المسجد وزاد في مساحته .
يعود الى الناصر ، الذي حكم حوالى نصف قرن ، الفضل في اعادة بناء وتحصين مدينة سالم بعد ان تخربت في ايام الفتنة. وقصد من ذلك ان يجعلها موقعاً متقدماً لرد هجمات الاسبان المفاجئة . فأقام لها الابراج المرتفعة واسكن فيها اناساً كثيرين.