الدولة الحمدانية

(317-399 هـ/ 929-1009م)

ينتسب الحمدانيون إلى قبيلة تغلب، وكان بنو تغلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، وكانوا من نصارى العرب الجاهلية الذين لهم محل في الكثرة والعدد.

وكانت مواطنهم في الجزيرة وديار ربيعة، ثم ارتحلوا مع هرقل إلى بلاد الروم، ثم رجعوا إلى بلادهم، وفرض عليهم عمر بن الخطاب الجزية، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لا تذلنا بين العرب باسم الجزية، واجعلها صدقة مضاعفة ففعل.

وعلى هذا فالحمدانيون من بني تغلب ينحدرون من أصل عربي أصيل من العدنانية التي ولدت العربية في كنفها.

وما زالوا يتنقلون بماشيتهم وأموالهم وخيامهم على مثل حالة القبائل العربية من تهامة إلى نجد إلى الحجاز إلى أرض ربيعة إلى ضفاف الفرات حيث نزلوا ساحل "الرقَّة" الفسيح، ومنها انتقل حمدان بن حمدون إلى "الموصل".

وكان حمدان جد الأمراء الحمدانيين رئيس قبيلة أنجبت عدة أولاد اعتمدوا على أنفسهم، وألقوا بأنفسهم في ميادين المغامرة والحرب، فانتصروا وخذلوا، وكانت حياتهم تتصف بالعنف والقوة، ولا تعرف الهدوء والسلم إلا قليلا.

وقد رافقت نشأة الحمدانيين ضعف الدولة العباسية، وغروب شمسها .

شهد الحمدانيون الأحداث التي هزت الإمبراطورية الإسلامية هِزَّة انتهت إلى فرط عقدها وظهور دويلات وإمارات مستقلة على يد الأتراك، والفرس، والكرد، وبعض القبائل العربية، وشهدوا تقلص نفوذ العرب وذوبانه تحت سيطرة الدخلاء بشكل يدعو للأسف، فرأوا أن يقوموا بنصيبهم من حمل هذا العبء، وأن يصونوا التراث العربي، وأن يردوا ما استطاعوا هجمات الروم عن الثغور الإسلامية.

يرافق ظهور الأسرة الحمدانية ارتقاء "المتقي"عرش الخلافة، وقد تسلمها وهي على ما هي عليه من التفكك والانحلال، على يد الأتراك أصحاب وظيفة "أمير الأمراء" في بغداد ؛ حيث استبد أولئك الأمراء بالسلطة دون الخليفة العباسي، وراحت بعض القبائل العربية التي سكنت بادية الشام ووادي الفرات تستغل ضعف الخلافة العباسية، وتستقل بالمدن والقلاع الواقعة في أرضها.

الدولة الحمدانية في الموصل:

لقد استطاعت "قبيلة تغلب" بفضل أبناء زعيمها "حمدان بن حمدون" أن تؤسس دولة في شمال العراق، وأن تتخذ من مدينة "الموصل" عاصمة لها (317-358هـ/ 929-969م).

وتعصبت هذه الدولة للعروبة، وساءها استبداد الأتراك بالخلافة العباسية، فجاء زعيمها "الحسن بن عبد الله الحمداني" إلى بغداد، ومعه أخوه لمناصرة الخليفة المتقي بالله سنة 330هـ/ 942م.

وكافأ الخليفة هذا الزعيم الحمداني بأن عينه في وظيفة "أمير الأمراء"، ومنحه لقب "ناصر الدولة"، ثم منح الخليفة المتقي أخاه لقب "سيف الدولة الحمداني".

موقف توزون:

وعاش الأخوان: "ناصر الدولة" و"سيف الدولة" ببغداد إلى جانب الخليفة الذي عرف لهما قدرهما، ولكن ذلك لم يعجب الأتراك، فاستطاعوا بزعامة قائدهم "توزون" أن يطردوا الحمدانيين، وأن يحملوهم على العودة إلى الموصل سنة 321هـ/ 933م.

الدولة الحمدانية في حلب:

وتطلع سيف الدولة بعد خروج الحمدانيين من بغداد إلى القيام بمغامرة حربية تعلي من شأن دولته بالموصل فسار سنة 323هـ/ 935م إلى شمال الشام واستولى على "حلب" وأخرج منها حاكمها التابع للدولة الإخشيدية، صاحبة السيادة حين ذاك على مصر والشام.

وكانت هذه النزاعات بين أقاليم الأمة المسلمة الواحدة وراء التعجيل بنهاية هذه الدولة، وأصبح سيف الدولة بذلك صاحب الدولة الحمدانية وعاصمتها حلب التي استمرت في شمال الشام حتى سنة 399هـ/ 1009م.

قتال البيزنطيين:

وكان قيام الدولة الحمدانية على طول منطقة الأطراف الإسلامية المتاخمة لأراضي الدولة البيزنطية في جنوب آسيا الصغرى وفي شمال العراق حاجزًا ضد هجمات البيزنطيين في وقت أضحت الدولة الإسلامية نهبًا للفوضى والقلاقل الداخلية، وليس لديها قوة حربية كافية!

ولقد خلد التاريخ اسم "سيف الدولة" من خلال حروبه المتكررة ضد البيزنطيين، والتصدي لأعمالهم العدائية على أرض المسلمين.

لقد بدأ إغارته على آسيا الصغرى سنة 337هـ/ 949 م دون أن تمر سنة واحدة بغير تجهيز حملة حربية لهذا الغرض النبيل، ولقد تسنى له أن يستولي على كثير من الحصون البيزنطية مثل "مرعش" وغيرها من مدن الحدود.

ومن بطولات سيف الدولة: استيلاؤه على قلعة الحدث (وهي قلعة متاخمة لحدود الدولة البيزنطية) كان سيف الدولة قد بناها، وهجم عليها الرومان فخربوها، وهدموها فأعد سيف الدولة جيشًا قويا، وهزم الروم هزيمة ساحقة، واستولى على قلعة الحدث، وقد قال المتنبي في ذلك قصيدة طويلة في مدح سيف الدولة وبطولته في هذه المعركة، منها:

يكلف سيف الدولة الجيش همـــه    وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم

سقوط حلب في أيدي البيزنطيين:

ولقد عاصرت حركات سيف الدولة قيام أعظم إمبراطوريين عسكريين عرفتهما الدولة البيزنطية في هذه الآونة، فقد استطاع نقفور فوقاس أن يستولي على "حلب" نفسها عاصمة سيف الدولة سنة 351هـ/ 962م ودخل أنطاكية بجنوده، وقتل فيها ما يقرب من عشرين ألفًا، غير أن الدولة البيزنطية انسحبت منها بعد ثمانية أيام بسبب المقاومة الحمدانية. وقد اتجه الإمبراطور الروماني "حنا شمشيق" إلى الاستيلاء على "بيت المقدس"، وتوغل كثيرًا في أراضي الشام، ولكنه عاد سريعًا من غارته الخاطفة بفضل مقاومة الحمدانيين في حلب، ومقاومة الفاطميين في سائر الشام.

ولقد تولى "سعد الدولة" ابن سيف الدولة بعد أبيه سنة (357- 381هـ/ 967 - 991م)، لكن الدولة دخلت في مرحلة الضعف والنزاع الداخلي، وذلك بعد أن اعترف منصور بن لؤلؤة والي الحمدانيين على حلب بسلطان الفاطميين على حلب عام 383هـ وأصبحت إمارة فاطمية بعد أن كانت حارسة على أطراف الدولة الإسلامية في وقت لم يدرك الخلفاء العباسيون في بغداد قيمة الدفاع عنها.

ولجأ بعض المتنازعين على السلطة من الحمدانيين إلى الخلافة القائمة في مصر والشام وقت ذاك على حين ظلت الخلافة العباسية غارقة في الضعف والفوضي.

ورغم كل ذلك سقطت الدولة الحمدانية التي تمثلت كل عظمتها في شخص "سيف الدولة".

ورد في "تاريخ ابن خلدون" المجلد الثالث:

" وفي سنة إثنتين وتسعين عقد المكتفي على الموصل وأعمالها لأبي الهيجاء عَبْد الله بن حمدان بن حمدون العدوي الثعلبي، فقدمها أول المحرم، وجاء الصريخ من نينوى بأن الأكراد الهدبانية ومقدمهم محمد بن سلاّل قد أغاروا على البلاد وعانوا، فخرج في العساكر وعبر الجسر إلى الجانب الشرقي. ولقيهم على الحارد فقاتلهم وقتل من قواد سليمان الحمداني ورجع عنهم، وبعث إلى الخليفة يستمده فأبطأ عليه المدد إلى ربيع من سنة أربع؛ فلما جاءه المدد سار إلى الهدبانية وهم مجتمعون في خمسة آلاف بيت فارتحلوا أمامه واعتصموا بجبل السَّلق المشرف على الزاب، فحاصرهم وعرفوا حقه فخذله أميرهم محمد بن سلال بالمراسلة في الطاعة والرهن وحث أصحابه خلال ذلك في المسير إلى أذربيجان، وأتبعهم أبو الهيجاء فلحقهم صاعداً إلى جبل القنديل، فنال منهم، وامتنعوا بذروته.

ورجع أبو الهيجاء عنهم فلحقوا بأذربيجان، ووفد أبو الهيجاء على المكتفي فأنجده بالعسكر وعاد إلى الموصل. ثم سار إلى الأكراد بجبل السلف فدخله وحاصرهم بقنته، وطال حصارهم واشتد البرد وعدمت الأقوات، وطلب محمد بن سلال النجاة بأهله وولده، فنجا واستولى ابن حمدان على أموالهم وأهليهم وأمنهم. ثم استأمن محمد بن سلال فأمنه وحضر عنده وأقام بالموصل وتتابع الأكراد الحميدية مستأمنين، واستقام أمر أبي الهيجاء بالموصل. ثم انتقض سنة إحدى وثلثمائة، فبعث إليه المُقْتَدِر مؤنساً الخادم، فجاء بنفسه مستأمناً، ورجع به إلى بغداد، فقبله المُقْتَدِر وأكرمه. وبقي ببغداد إلى أن انتقض أخوه الحسين بديار ربيعة سنة ثلاث وثلثمائة، وسارت العساكر فجاؤوا به أسيراً. فحبس المُقْتَدِر عند دلك أبا الهيجاء وأولاده، وجمع اخوته بداره ثم أطلقهم سنة خمس وثلثمائة".

وورد في "تاريخ ابن خلدون" أيضاً المجلد الرابع حول دولة بني حمدان:

" كان بنو ثعلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، ولهم محل في الكثرة والعدد، وكانت مواطنهم بالجزيرة في ديار ربيعة، وكانوا على دين النصرانية في الجاهلية، وصاغيتهم مع قيصر. وحاربوا المسلمين مع غسّان وهرَقْل أيام الفتوحات في نصارى العرب يومئذ من غسّان وإيّاد وقُضاعة وزَابِلة وسائر نصارى العرب. ثم ارتحلوا مع هرقْل إلى بلاد الروم، ثم رجعوا إلى بلادهم. وفرض عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزية. فقالوا: يا أمير المؤمنين لا تذلنا بين العرب باسم الجزية، واجعلها صدقة مضاعفة ففعل. وكان قائدهم يومئذ حنظَلَة بن قَيس بن هرير من بني مالك بن بكربن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب وكان من رهطه عمرو بن بسطام صاحب السند أيام بني أمية. ثم كان منهم بعد ذلك في الإسلام ثلاثة بيوت:آل عمر بن الخطّاب العدويّ، وآل هارون المغمر، وآل حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن أسد. ولم يذكر ابن حزم هؤلاء البيوت الثلاثة في بطون بني ثعلب في كتاب الجمهَرَة. ووقفت على حاشية في هذا الموضع من كتابه فيها ذكر هؤلاء الثلاثة كالاستلحاق عليه. وقال في بني حمدان: وقيل إنهم موالي بني أسد. ثم قال آخر الحاشية إنه من خط المصنّف يعني ابن حزم. ولما فشا دين الخارجيّة بالجزيرة أيام مروان بن الحكم و فرّق جموعه، ومحا آثار تلك الدعوة. ثم ظهر في الجزيرة بعد حين أثر من تلك الدعوة. وخرج مساور بن عبد الله بن مساور البجليّ من السرات أيام الفتنة بعد مقتل المتوكّل، واستولى على أكثر أعمال الموصل، وجعل دار هجرته الحديثة. وكان على الموصل يومئذ عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي الذي ولّى المنصور جدّه محمداً على إفريقية، وعليه خرج مساور. ثم وليَ على الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب الثعلبي سنة أربع وخمسين، واستخلف عليه ابنه الحسن فسار إلى مساور في جموع قومه، وفيهم حمدون بن الحرث فهزموا الخوارج وفرّقوا جمعهم. ثم وليَ أيام المهتدي عبد الله بن سليمان بن عمران الأزدي فغلبه الخوارج، وملك مساور الموصل، ورجع إلى الحُديثَة. ثم انتقض أهل الموصل أيام المُعتمِد سنة تسع وخمسين، وأخرجو العامل وهو ابن أساتكين آلهيثم بن عبد الله بن المعتمد العدويّ  من بني ثعلب، فامتنعوا عليه، وولّوا مكانه إسحق بن أيوب من آل الخطّاب، فزحف، ومعه حمدان بن حمدون وحاصرها مدّة. ثم كانت فتنة إسحق بن كنداجُق وانتقاضه على المعتمد، واجتمع لمدافعته عليّ بن داود صاحب الموصل، وحمدان بن حمدون، وإسحق بن أيوب فهزمهم إسحق بن كنداجق، وافترقوا فاتبع إسحق بن ايوب إلى نصيبين ثم إلى آمد. واستجار فيها بعيسى بن الشيخ الشيبانيّ وبعث إلى المُعزّ موسى بن زرارة صاحب أرزن فامتنع بأنجادهما. ثم ولي المعتمد ابن كنداجق على الموصل سنة سبع وستين فاجتمع لحربه إسحق بن ايوب، وعيسى بن الشيخ، وابو العزّ بن زرارة وحمدان بن حمدون في ربيعة و ثعلب فهزمهم ابن كنداجق، وحاصره هو ولجأوا إلى آمد عند عيسى بن الشيخ الشيباني، وحاصرهم بها، وتوالت عليهم الحروب. وهلك مساور الخارجيّ أثناء هذه الفتن في حربه مع العساكر سنة ثلاث وستين. واجتمع الخوارج بعده على هارون بن عبد الله البجليّ، واستولى على الموصل وكثر تابعه. وخرج عليه محمد بن خردان من أصحابه فغلبه على الموصل، فقصد حمدان بن حمدون مستنجداً به فسار معه وردّه إلى الموصل ولحق محمد بالحديثة، ورجع أصحابه إلى هارون. ثم سار هارون من الموصل إلى محمد فأوقع به وقتله، وعاث في الأكراد الجلاليّة أصحابه، وغلب على القرى والرساتيق، وجعل يأخذ الزكاة والعشر. ثم زحف بنو شيبان لقتاله سنة إثنتين وسبعين، فاستنجد بحمدان بن حمدون، وانهزم قبل وصوله إليه. ثم كانت الفتنة بين اسحق بن كنداجق ويوسف بن أبي الساج، وأخذ ابن أبي الساج بدعوة ابن طولون وكلب على الجزيرة والموصل، ثم عاد وملكها لابن كنداجق، وولّى عليها هارون بن سيما سنة تسع وسبعين ومائتين. فطرده أهلها، واستنجد ببني شيبان فساروا معه إلى الموصل، واستمدّ أهلها الخوارج وبنتي ثعلب فسار لامدادهم هارون الساري وحمدان فهزمهم بنو شيبان، وخاف أهل الموصل من ابن سيما. فبعثوا إلى بغداد، وولّى عليهم المعتمد علي بن داود الأزديّ. ولما بلغ المعتضد ممالأة حمدان بن حمدون لهارون الساري، وما فعله بنو شيبان، وقد كان خرج لإصلاح الجزيرة، وأعطاه بنو شيبان رهنهم على الطاعة زحف إلى حمدان وهزمه فلحق بماردين، وترك بها ابنه الحسين. وهرب فسار مع وصيف ونصر القسوري، ومروا بدير الزعفران وبه الحسين بن حمدان فاستأمن لهم، وبعثوا به إلى المعتضد. وأمر بهدم القلعة، ولقي وصيف حمدان فهزمه، وعبر إلى الجانب الغربي. ثم سار إلى معسكر، المعتضد، وكان إسحق بن أيوب الثعلبيّ قد سبق إلى طاعة السلطان، وهو في معسكره، فقصد خيمته ملقيا بنفسه عليه فأحصره عند المعتضد فحبسه. ثم سار نصر القسوري في اتباع هارون فهزم الخوارج، ولحق بأذربيجان. واستأمن آخرون إلى المعتضد، ودخل هارون البريّة. ثم سار المعتضد سنة ثلاث وثمانين في طلب هارون، وبعث في مقدمته وصيفا وسرّح معه الحسين بن حمدان بن يكرين، واشترط له إطلاق ابنه إن جاء بهارون فاتبعه وأسره وجاء به إلى المعتضد فخلع عليه وعلى إخوته وطوّقه، وفك القيود عن حمدان ووعده بإطلاقه. ومات إسحق بن أيوب العدويّ وكان على ديار ربيعة فولّى المعتضد مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمد.

مبدأ الدولة وولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل

ولما وليّ المكتفي عقد لأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل وأعمالها، وكان الأكراد الهدبانيّة قد عاثوا في نواحيها ومقدمهم محمد بن سلاّل فقاتلهم وعبر وراءهم إلى الجانب الشرقي، وقاتلهم على الخازر، وقتل مولاه سيما ورجع. ثم أمدّه الخليفة فسار في أثرهم سنة أربع وتسعين، وقاتلهم على أذربيجان، وهزم محمد بن سلال بأهله وولده، واستباحهم ابن حمدان. ثم استأمن صمد وجاءه إلى الموصل، واستأمن سائر الأكراد الحميدية، واستقام أمر أبي الهيجاء. ثم كانت فتنة الخلع ببغداد سنة ست وتسعين، وقتل الوزير العباس بن الحسن، وخلع المقتدر، وبويع عبد الله بن المعتز يوماً أو بعض يوم، وعاد المقتدر كما مرّ ذلك كله في أخبار الدولة العبّاسية. وكان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة، وكان ممن تولّى كبر هذه الفتنة مع القوّاد، وباشر قتل الوزير مع من قتله فهرب. وطلبه المقتدر وبعث في طلبه القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد فلم يظفروا به، فكتب إلى أبي الهيجاء وهو على الموصل فسار مع القاسم.

ولقيهم الحسين عند تكريت فانهزم واستأمن فأمّنه المقتدر، وخلع عليه، وولاّه أعمال قُمّ وقاشان. ثم ردّه بعد ذلك إلى ديار ربيعة.

انتقاض أبي الهيجاء ثم الحسين بن حمدان:

ولما كانت سنة تسع وتسعين خالف أبو الهيجاء بالموصل إلى سنة إثنتين وثلاثمائة، وكان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة كما قدّمناه، فطالبه الوزير عيسى بن عيسى بحمل المال فدافعه فأمره بتسليم البلاد إلى العمّال فامتنع، فجهّز إليه الجيش فهزمهم. فكتب إلى مؤنس العجليّ، وهو بمصر يقاتل عساكر العلويّة، بأن يسير إلى قتال الحسين بعد فراغه من أمره، فسار إليه سنة ثلاث وثلاثمائة، فارتحل بأهله إلى أرمينية، وترك البلاد. وبعث مؤنس العساكر في أثره فأدركوه، وقاتلوه فهزموه، وأُسر هو وابنه عبد الوهاب وأهله وأصحابه، وعاد به إلى بغداد فأدخل على جمل وقبض المقتدر يومئذ على أبي الهيجاء وجميع بني حمدان فحبسهم جميعاً. ثم أطلق أبا الهيجاء سنة خمس وثلاثمائة بعدها، وقتل الحسين سنة ست، وولّى إبراهيم بن حمدان سنة وسبع على ديار ربيعة، وولّى مكانه داود بن حمدان.

ولاية أبي الهيجاء ثانية على الموصل ثم مقتله:

ثم ولّى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل سنة أربع عشرة وثلاثمائة، فبعث ابنه ناصر الدولة الحسين عليها، وأقام هو ببغداد. ثم بلغه إفساد العرب والأكراد في نواحيها، وفي نواحي عمله الاخر بخراسان. فبعث إلى أبيه ناصر الدولة فأوقع بالعرب في الجزيرة، ونكّل بهم. وجاءه في العساكر إلى تكريت فخرج ورحل بهم إلى شهرزور، وأوقع بالأكراد الجلاليّة حتى استقاموا على الطاعة. ثم كان خلع المقتدر سنة سبع عشرة وثلاثمائة بأخيه القاهر. ثم عاد ثاني يوم وأحيط بالقاهرة في قصره فتذمّم بأبي الهيجاء، وكان عنده يومئذ، وأطال المقام يحاول على النجاة به فلم يتمكن من ذلك. وانقض الناس على القاهر، ومضى أبو الهيجاء يفتّش عن بعض المنافق في القصر يتخلّص منه فاتبعه جماعة وفتكوا به، وقتلوه منتصف المحرّم من السنة، وولّى المقتدر مولاه تحريراً على الموصل.

ولاية سعيد ونصر ابني حمدان على الموصل:

ثم إن أبا العلاء سعيد بن حمدان ضمن الموصل وديار ربيعة، وما بيد ناصر الدولة فولاه الراضي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وسار إلى الموصل فخرج ناصر الدولة لتلقيه، وخالفه أبو العلاء إلى بيته، وفعد ينتظره، فأنفذ ناصر الدولة جماعة من غلمانه فقتلوه. وبلغ الخبر إلى الراضي فأعظم ذلك، وأمر الوزير ابن مقلة بالمسير إلى الموصل فسار إليها. وارتحل ناصر الدولة، واتبعه الوزير إلى جبل السن، ورجع عنه، وأقام بالموصل. واحتال بعض أصحاب ابن حمدان ببغداد على ابن الوزير، وبذل له عشرة آلاف دينار على أن يستحث أباه ففعل، وكتب إليه بأمور أزعجته فاستعمل على الموصل من وثق به من أهل الدولة. ورجع إلى بغداد في منتصف شوّال. ورجع ناصر الدولة إلى الموصل فاستولى عليها، وكتب إلى الراضي في الصفح، وأن يضمن البلاد فأجيب إلى ذلك واستقر في ولايته.

مسير الراضي إلى الموصل:

وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة تأخر ضمان البلاد من ناصر الدولة فغضب الراضي،  وسار  ومدير دولته تحكم. وسار إلى الموصل، وتقدم تحكم إلى تكريت فخرج إليه ناصر الدولة فانهزم أصحابه، وسار إلى نصيبين، وأتبعه تحكم فلحق به. وكتب تحكم إلى الراضي بالفتح فسار في السفن يريد الموصل. وكان ابن رائق مختفياً ببغداد منذ غلبه ابن البريدي على الدولة، فظهر عند ذلك، واستولى على بغداد. وبلغ الخبر إلى الراضي فأصعد من الماء إلى البرّ، واستقدم تحكم من نصيبين، واستعاد ناصر الدولة ديار ربيعة وهو يعلم بخبر ابن رائق. وبعث في الصلح على تعجيل خمسمائة ألف فأجابه إلى ذلك. وسار الراضي وتحكم إلى بغداد، ولقيهم ابو جعفر محمد بن يحيى بن سريق رسولاً من ابن رائق في الصلح، وعلى أن يولى ديار مضر، وهي حران والرها والرقة. وتضاف إليها قنسرين والعواصم فأجيب إلى ذلك. وسار عن بغداد إلى ولايته ودخل الراضي وتحكم بغداد ورجع ناصر الدولة بن حمدان إلى الموصل.

مسير المتقي إلى الموصل وولاية ناصر الدولة إمارة الأمراء:

كان ابن رائق بعد مسيره إلى ديار مضر والعواصم سار إلى الشام وملك دمشق من يد الأخشيد، ثم الرملة. ثم لقيه الأخشيد على عريش مصر وهزمه، ورجع إلى دمشق ثم اصطلحا على أن يجعلا الرملة تخماً بين الشام ومصر، وذلك سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ثم توفي الراضي سنة تسع وعشرين، وولي المتقى وقتل تحكم، وجاء البريدي إلى بغداد، وهرب الأتراك التحكمية إلى الموصل، وفيهم توزون وجحجح. ثم لحقوا بأبي بكر محمد بن رائق واستحثوه إلى العراق. وغلب بعدهم على الخلافة الأتراك الديلمية، وجاء أبو الحسن البريدي من واسط فأقام ببغداد أربعة وعشرين يوماً أمير الأمراء .ثم شغب عليه الجند فرجع إلى واسط، وغلب كورتكين. ثم حجر المتقي، وكتب إلى ابن رائق يستدعيه فسار من دمشق في رمضان سنة تسع وعشرين، واستخلف عليها أبا الحسن أحمد بن علي بن حمدان، على أن يحمل إليه مائة ألف دينار، وسار ابن رائق إلى بغداد، وغلب كورتكين والديلمية، حبس كورتكين بدار الخلافة. ثم شغب عليه الجند، وبعث أبو عبد الله البريدي أخاه أبا الحسن إلى بغداد في العساكر فغلبوا عليها، وهرب المتقي وابنه أبو منصور، وزاد في المبرة فنثر الدراهم على ابن الخليفة، وبالغ في مبرته حتى ركب للإنصراف. وأمسك ابن رائق للحديث معه فأستدعاه المتقي، وخلع عليه، ولقبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء. وخلع على أخيه أبي الحسن، ولقبه سيف الدولة. وكان قتل ابن رائق، لتسع بقين من رجب ،وولاية ناصر الدولة مستهل شعبان من سنة ثمانين. ثم سار الأخشيدي من مصر إلى دمشق فملكها من يد عامل ابن رائق، وسار ناصر الدولة مع المتقي إلى بغداد.

أخبار بني حمدان ببغداد

ولما قتل ابن رائق، وأبو الحسن البريدي على بغداد، وقد سخطه العامة والخاصة فهرب جحجح إلى المتقي، وأجمع توزون وأصحابه إلى الموصل، واستحثوا المتقي وناصر الدولة فانجدوهم إلى بغداد. وولى على الخراج والضياع بديار مضر وهي الرها وحران والرقة أبا الحسن علي بن خلف بن طياب، وكان عليها أبو الحسن علي أحمد بن مقاتل من قبل ابن رائق، فقاتله ابن طياب وقتله. ولما قرب المتقي وناصر الدولة من بغداد هرب أبو الحسن بن البريدي إلى واسط بعد مقامه مائة يوم وعشرة أيام، ودخل المتقي بغداد ومعه بنو حمدان، وقلد توزون شرطة جانبي بغداد وذلك في شوال من السنة. ثم سار بنو حمدان إلى واسط فنزل ناصر الدولة بالمدائن، وبعث أخاه سيف الدولة إلى قتال البريدي وقد سار من واسط إليهم فقاتلوه تحت المدائن، ومعهم توزون وجحجح والأتراك فانهزموا أولاً. ثم أمدهم ناصر الدولة بمن كان معه من المدائن فانهزم البريدي إلى واسط، وعاد ناصر الدولة إلى بغداد منتصف ذي الحجة وبين يديه الاسرى من أصحاب البريدي.

واقام سيف الدولة بموضع المعركة حتى اندملت جراحه، وذهب وهنه. ثم سار إلى واسط فلحق البريدي بالبصرة، واستولى على واسط فأقام بها معتزماً على اتباع البريدي إلى البصرة، واستمد أخاه ناصر الدولة في المال فلم يمده، وكان للأتراك عليه استطالة وخصوصاً توزون وجحجح. ثم جاء ابو عبد الله الكوفي بالمال من قبل ناصر الدولة ليفرقه في الأتراك فاعترضه توزون وجحجح، وأراد البطش به فأخفاه سيف الدولة عنهما، وردّه إلى أخيه. ثم ثار الأتراك بسيف الدولة سلخ شعبان فهرب من معسكره إلى بغداد ، ونهب سواده، وقتل جماعة من أصحابه. وكان أبو عبد الله الكوفي لما وصل إلى ناصر الدولة، وأخبره خبر اخيه اراد أن يسير إلى الموصل فركب المتقي إليه واستمهله، وعاد إلى قصره فأغذ السير إلى الموصل بعد ثلاثة عشر شهراً من إمارته. وثار الديلم والأتراك ونهبوا داره. ولما هرب سيف الدولة من معسكره بواسط عاد الأتراك إلى معسكرهم، وولوا تورون أميراً وجحجح صاحب جيش، ولحق سيف الدولة ببغداد منتصف رمضان بعد مسير أخيه، وبلغه خبر تورون. ثم اختلف الأتراك وقبض توزون على جحجح، وسمله وسار سيف الدولة، ولحق بأخيه بالموصل وولى إمارة الأمراء ببغداد.

خبر عدل التحكمي بالرحبة

كان عدل هذا مولى تحكم، ثم صار مع ابن رائق واصعد معه إلى الموصل. ولما قتل ابن رائق صار في جملة ناصر الدولة بن حمدان فبعثه مع علي بن طياب إلى ديار مضر، فاستولى ابن طياب عليها، وقتل نائب ابن رائق. وكان بالرحبة من ديار مضر رجل من قبل ابن رائق يقال مسافر بن الحسين فامتنع بها، وجبى خراجها، واستولى على تلك الناحية فأرسل إليه ابن طياب عدلاً التحكمي فاستولى عليها، وفر مسافر  عنها. واجتمع التحكمية إلى عدل  واستولى على طريق الفرات وبعض الخابور. ثم استنصر مسافر بجمع من بني نمير، وسار إلى قرقيسيا وملكها وارتجعها عدل من يده. ثم اعتزم عدل على ملك الخابور، وانتصر أهله ببني نمير فأعرض عدل عن ذلك حيناً حتى أمنوا. ثم أسرى إلى فسيح سمصاب وهي من أعظم قرى خابور فقاتلها، ونقب السور وملكها، ثم ملك غيرها. وأقام في الخابور ستة اشهر، وجبى الأموال، وقوي جمعه واتسعت حاله. ثم طمع في ملك بني حمدان فسار يريد نصيبين لغيبة سيف الدولة عن الموصل وبلاد الجزيرة، ونكب عن الرحبة وحران لأن يأنس المؤنسي كان بها في عسكر، ومعه جمع من بني نمير فحاد عنها إلى رأس عين، ومنها إلى نصيبين، وبلغ الخبر إلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فجمع وسار إليه، فلما التقى الجمعان استأمن من أصحاب عدل إلى ابن حمدان، ولم يبق معه إلا القليل فقبض عليه وسمله، وبعث به مع ابنه إلى بغداد في آخر شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين.

مسير المتقي إلى الموصل وعوده:

ولما انصرف ناصر الدولة وسيف الدولة عن المتقي من بغداد جاء توزون من واسط واستولى على الدولة، ثم رجع إلى واسط ووقعت بينه وبين ابن البريدي بالبصرة مواصلة وصهر استوحش لها المتقي. وكان بعض أصحاب توزون منافراً له، فأكثر فيه السعاية عند المتقي والوزير ابن مقلة، وخوفهما اتصال يده بابن البريدي. وقارن ذلك اتصال ابن شيرزاده  بتوزون ومسيره إليه بواسط، فذكروا الخليفة بما فعل ابن البريدي معه في الّمرة الأخرى وخوّفوه عاقبة أمرهم، فكتب إلى ابن حمدان أن ينفذ إليه عسكراً يسير صحبته إليهم فأنفذه مع ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان، ووصلوا إلى بغداد سنة إثنتين وثلاثين وخرج المتقي معهم بأهله وأعيان دولته، ومعه الوزير ابن مقلة، وانتهى إلى تكريت فلقيه سيف الدولة هنالك.

وجاء ناصر الدولة فأصعد المتقي إلى الموصل. ولما بلغ الخبر إلى توزون سار نحو تكريت فلقيه سيف الدولة عندها فقاتله ثلاثة أيام. ثم هزمه تورون ونهب سواده وسواد اخيه. وسار سيف الدولة إلى الموصل وتوزون في اتباعه فخرج ناصر الدولة والمتقي وجملته إلى نصيبين، ثم إلى الرقة، ولحقهم سيف الدولة إليها. وملك توزون الموصل، وبعث إليه المتقي يعاتبه على اتصاله بابن البريدي، وأنه إنما استوحش من ذلك فإن آثر رضاه واصل ابن حمدان فأجاب توزون إلى ذلك، وعقد الضمان لناصر الدولة على ما بيده من البلاد لثلاث سنين، كل سنة بثلاثة آلاف وستمائة الف. وعاد توزون إلى بغداد وأقام المتقي بالرقة. ثم أحس من ابن حمدان ضجراً به، وبلغ سيف الدولة ان محمد بن نيال الترجمان أغرى المتقي بسيف الدولة، وهو الذي كان أفسد بين المتقي وتوزون فقبض عليه سيف الدولة وقتله، وارتاب المتقي بذلك فكتب إلى توزون يستصلحه. وكتب إلى الأخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يستقدمه، فسار إليه الأخشيد. ولما وصل إلى حلب، وعليها من قبل سيف الدولة ابن عمهم أبو عبد الله سعيد بن حمدان فرحل عنها، وتخلف عنه ابن مقاتل الذي كان بدمشق مع ابن رائق. ولم وصل الأخشيد إلى حلب لقيه ابن مقاتل فأكرمه واستعمله على خراج مصر. ثم سار إلى المتقي بالرقة فلقيه منتصف ثلاث وثلاثين فبالغ المتقي في إكرامه، وبالغ هو في الأدب معه، وحمل إليه الهدايا والى وزيره وحاشيته، وسأله المسير إلى مصر أو الشام فأبى فأشار عليه أن لا يرجع إلى توزون فأبى. وأشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر ليحكمه في دولته، وخوفه من توزون فلم يعمل، وجاءهم رسل توزون في الصلح وأنهم استحلفوه للخليفة والوزير، فانحدر المتقي إلى بغداد آخر المحرم، وعاد الأخشيد إلى مصر. ولما وصل المتقي إلى هيت لقيه توزون فقبل الأرض، ورأى أنه تحلل عن يمينه بتلك الطاعة. ثم وكل به وسمل المتقي ورجع، إلى بغداد فبايع للمستكفي. ولما ارتحل المتقي عن الرقة ولى عليها ناصر الدولة ابن عمه أبا عبد الله بن سعيد بن حمدان، وعلى طريق الفرات وديار مضر وقنسرين وجند والعواصم وحمص. فلما وصل إلى الرقة طمع أهلها فيه فقاتلهم، وظفر بهم ورجع إلى حلب، وقد كان ولى على هذه البلاد قبله أبا بكر محمد بن عليّ بن مقاتل.

استيلاء سيف الدولة على حلب وحمص

ولما ارتحل المتقي من الرقة، وانصرف الأخشيد إلى الشام بقي يأنس المؤنسي بحلب فقصده سيف الدولة، وملكها من يده. ثم سار إلى حمص فلقيه بها كافور مولى الأخشيد فهزمه سيف الدولة، وسار إلى دمشق فامتنعوا عليه فرجع. وجاء الأخشيد من مصر إلى الشام وسار في اتباع سيف الدولة فاصطفا بقنسرين، ثم تحاجزوا، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، والأخشيد إلى دمشق. ثم سار سيف الدولة إلى حلب فملكهما وسارت عساكر الروم إليها فقاتلهم وظفر بهم. ثم بلغ ناصر الدولة بن حمدان ما فعله توزون من سمل المتقي وبيعة المستكفي، فامتنع من حمل المال، وهرب إليه غلمان توزون فاستخدمهم، ونقض الشرط في ذلك. وخرج توزون والمستكفي قاصدين الموصل، وترددت الرسل بينهما في الصلح فتم ذلك آخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وعاد المستكفي وتوزون إلى بغداد، فتوفي توزون إثر عوده، وولى الأمور بعده ابنه شيرزاده، واستعمل على واسط قائدأ، وعلى تكريت آخر، فأمّا الذي على واسط فكاتب معز الدولة ابن بويه، واستقدمه فقدم بغداد، واستولى على الدولة فخلع المستكفي، وبايع للمطيع. وأما الذي على تكريت فسار إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، وسار معه وولاه عليها من قبله.

الفتنة بين ابن حمدان وابن بويه

ولما خلع معز الدولة بن بويه المستكفي عند استيلائه على بغداد امتعض ناصر الدولة بن حمدان لذلك، وسار من الموصل إلى العراق. وبعث معز الدولة بن بويه قواده فالتقى الجمعان بعكبرا، واقتتلوا، وخرج معز الدولة مع المطيع إلى عكبرا، وكان ابن شبرزاده ببغداد وأقام بها، ولحق بناصر الدولة بن حمدان. وجاء بعساكره إلى بغداد فنزلوا بالجانب الغربي، وناصر الدولة بالجانب الشرقي، ووقع الغلاء في معسكر معز الدولة، والخليفة لانقطاع الميرة. وبقي عسكر ابن حمدان في رخاء من العيش لاتصال الميرة من الموصل. واستعان ابن شيرزاده بالعامة والعمارين على حرب معز الدولة والديلم، وضاق الأمر بمعز الدولة حتى اعتزم على الرجوع إلى الأهواز. ثم أمر أصحابه بالعبور من قطربال بأعلى دجله، وتسابق أصحاب ناصر الدولة إلى مدافعتهم ومنعهم، وبقي في خف من الناس فأجاز إليه شجعان الديلم من أقرب الأماكن فهزموه، وملك معز الدولة الجانب الشرقي، وأعاد المطيع إلى داره في محرم سنة خمس  وثلاثين وثلاثمائة. ورجع ناصر الدولة إلى عكبرا. وأرسل في الصلح فوقف الأتراك التورونية الذين معه على خبر رسالته فهموا بقتله، فأغذ السير إلى الموصل ومعه ابن شيرزاده، وأحكم الصلح مع معز الدولة.

استيلاء سيف الدولة علي دمشق

وفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة توفي الأخشيد أبو بكر محمد بن طغج صاحب مصر والشام، فنصب للأمر بعده ابنه ابو القاسم أنوجور، واستولى عليه كافور الأسود وخادم أبيه، وسار بهما إلى مصر. وجاء سيف الدولة إلى دمشق فملكها وارتاب به أهلها فاستدعوا كافوراً فجاءهم، وخرج سيف الدولة إلى حلب، ثم أتبعوه فعبر إلى الجزيرة وأقام أنوجور على حلب. ثم اتفقوا واصطلحوا، وعاد أنوجور إلى مصر، وسيف الدولة إلى حلب، وأقام كافور بدمشق قليلاً. ثم عاد إلى مصر واستعمل على دمشق بدرا الأخشيد ويعرف ببدير. ثم عزله بعد سنة وولى أبا المظفر طغج.

الفتنة بين ناصر الدولة ابن حمدان وبين تكين والأتراك

كان مع ناصر الدولة جماعة من الأتراك أصحاب توزون فّروا إليه كما قدّمنا، فلما وقعت المراسلة بينه وبين معز الدولة في الصلح ثاروا به، وهرب منهم، وعبر إلى الجانب الغربي ونزل الموصل واستجار القرامطة فأجاروه، وبعثوا معه إلى مأمنه، وفي جملته ابن شيرزاده  فقبض ناصر الدولة عليه، واجتمع الأتراك بعده فقدموا عليهم تكين الشيرازي، وقبضوا على من تخلف من أصحاب ناصر الدولة، وأتبعوه إلى الموصل فسار عنها إلى نصيبين، ودخل الأتراك الموصل. وبعث ناصر الدولة إلى معز الدولة يستصرخه، فبعث إليه بالجيوش مع وزيره أبي جعفر الصيمري. وخرج الأتراك من الموصل في اتباع ناصر الدولة إلى نصيبين فمضى إلى سنجار، ثم إلى الحديثة، ثم إلى السن، وهم في اتباعه. وبقي هنالك العساكر فقاتلوا الأتراك وهزموهم، وسيق قائدهم تكين إلى ناصر الدولة فسلمه لوقته، ثم حبسه وسار مع الصيمري إلى الموصل فأعطاه ابن شيرزاده، وارتحل به إلى بغداد.

انتقاض جمان بالرحبة ومهلكه:

كان جمان هذا من أصحاب توزون، وسار إلى ناصر الدولة بن حمدان فلما كان في محاربة معز الدولة ببغداد، استراب بمن معه من الديلم، وجمعهم على جمان هذا، وأخرجه إلى الرحبة والياً فعظم أمره. وانتقض سنة ست وثلاثين وثلاثمائة على ناصر الدولة، وحدثته نفسه بالتغلب على ديار مضر فسار إلى الرقة وحاصرها سبعة عشر يوماً، وانهزم عنها. ووثب أهل الرحبة بأصحابه وعماله فقتلوهم لسوء سيرتهم. وجاء من الرقة فأثخن فيهم، وبعث ناصر الدولة بن حمدان حاجبه باروخ مع عسكر فاقتتلوا على الفرات، وانهزم جمان فغرق في الفرات واستأمن أصحابه إلى باروخ فأمنهم ورجع إلى ناصر الدولة.

فتنة ناصر الدولة مع معز الدولة

ثم وقعت الفتنة بين ناصر الدولة بن حمدان ومعز الدولة بن بويه، وسار إليه معز الدولة من بغداد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة فسار هو من الموصل إلى نصيبين، وملك معز الدولة الموصل فظلم الرعايا واخذ أموالهم، وأجمع الاستيلاء على بلاد ابن حمدان كلها، فجاءه  الخبر بأنّ عساكر خراسان قصدت جرجان والريّ. وبعث أخوه ركن الدولة يستمده فصالح ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة والشام على ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة، وعلى أن يخطب له ولأخويه عماد الدولة وركن الدولة، وعاد إلى بغداد في ذي الحجة آخر سبع وثلاثين وثلاثمائة.

غزوات سيف الدولة

كان أمر الثغور راجعاً إلى سيف الدولة بن حمدان، ووقع الفداء سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة في ألفين من الأسرى على يد نصر النملي، ودخل الروم سنة إثنتين وثلاثين مدينة واسرغين ونهبوها وسبوها وأقاموا بها ثلاثاً وهم في ثمانين آلفاً مع الدمشق. ثم سار سيف الدولة سنة سبع وثلاثين غازياً إلى بلاد الروم فقاتلوه وهزموه. ونزل الروم على مرعش فأخذوها وأوقعوا بأهل طرسوس. ثم دخل سنة ثمان وثلاثين، وتوغل في بلاد الروم، وفتح حصوناً كثيرة وغنم وسبا. ولما قفل أخذت الروم عليه المضايق وأثخنوا في المسلمين قتلاً وأسراً، واستردوا ما غنموه. ونجا سيف الدولة في فل قليل. ثم ملك الروم سنة إحدى وأربعين مدينة سروج واستباحوها. ثم دخل سيف الدولة سنة ثلاث واربعين إلى بلاد الروم فأثخن فيها وغنم وقتل قسطنطين بن الدمشق فيمن قتل، فجمع الدمشق عساكر الروم والروس وبلغار، وقصد الثغور فسار إليه سيف الدولة بن حمدان، والتقوا عند الحرث فانهزم الروم، واستباحهم المسلمون قتلاً وأسراً، وأسر صهر الدمشق، وبعض أسباطه وكثير من بطارقته، ورجع سيف الدولة بالظفر والغنيمة ثم دخل بلاد الروم النصرانية ثم رجع إلى أذنة، وأقام بها حتى جاءه نائبه على طرسوس فخلع عليه، وعاد إلى حلب. وامتعض الروم لذلك فرجعوا إلى بلادهم. ثم غزا الروم طرسوس والرها وعاثوا في نواحيها سبياً وأسراً ورجعوا. ثم غزا سيف الدولة بلاد الروم سنة ست وأربعين واثخن فيها، وفتح عدة حصون وامتلأت أيدي عسكره من الغنائم والسبي وانتهى إلى خرسنة  ورجع، وقد أخذت الروم عليه المضايق فقال له أهل طرسوس: إرجع معنا فإن الدروب التي دخلت منها قد ملكها الروم عليك فلم يرجع إليهم، وكان معجباً برأيه فظهر الروم عليه في الدرب، واستردوا ما أخذوا منهم، ونجا في فلّ قليل يناهزون الثلاثمائة. ثم دخل سنة خمسين قائد من موالي سيف الدولة إلى بلاد الروم، من ناحية ميافارقين فغنم وسبا، وخرج سالماً.

الفتنة بين ناصر الدولة ومعز الدولة بن بويه:

قد تقدم لنا ما وقع من الصلح بين ناصر الدولة وبين معز الدولة بن بويه، وطالبه في المال فانتقض. وسار إليه معز الدولة إلى الموصل منتصف السنة وملكها، وفارقها ناصر الدولة إلى نصيبين وحمل نوابه ومن يعرف وجوه المال وحمايته، وأنزلهم في قلاعه مثل الزعفراني وكواشي، ودس إلى العرب بقطع الميرة عن عسكر معز الدولة فضاقت عليهم الأقوات، فرحل معز الدولة إلى نصيبين لما بها من الغلات السلطانية، واستخلف سبكتكين الحاجب الكبير على الموصل. وبلغه في طريقه أن أبا الرجاء وعبد الله إبني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فقصدهما فهربا، وخلفا أثقالهما، وانتهب العسكر خيامهما. ثم عادا إلى معسكر معز الدولة وهم غازون فنالوا منهم، ورجعوا إلى سنجار. وسار معز الدولة إلى نصيبين ففارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين، واستأمن كثير من أصحابه إلى معز الدولة فسار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فقام بخدمته وباشرها بنفسه. وأرسل إلى معز الدولة في الصلح بينه وبين أخيه، فامتنع معز الدولة من قبول ناصر الدولة لانتقاضه وإخلافه، فضمن سيف الدولة البلاد بألفي ألف وتسعمائة ألف درهم، وأطلق معز الدولة أسرى أصحابهم. وتم ذلك في محرم سنة ثمان وأربعين، ورجع معز الدولة إلى العراق وناصر الدولة إلى الموصل.

استيلاء الروم على عين زربة ثم على مدينة حلب

وفي المحرم من سنة إحدى وخمسين نزل الدمستق في جموع الروم على عين زربة، وملك الجبل المطل عليها، وضيق عليها حصارها، ونصب عليها المنجنيقات. وشرع في النقب فاستأمنوا ودخل المدينة. ثم ندم على تأمينهم لما رأى من اختلال أحوالهم فنادى فيهم أن يخرجوا بجميع أهاليهم إلى المسجد فمات منهم في الأبواب بكض الزحام خلق، ومات آخرون في الطرقات، وقتل من وجدوا آخر النهار. واستولى الروم على أموالهم وأمتعتهم وهدموا سور المدينة، وفتحوا في نواحي عين زربة أربعة وخمسين حصناً. ورحل الدمستق بعد عشرين يوماً بنية العود، وخلف بجيشه بقيسارية. وكان ابن الزيات صاحب طرسوس قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان، واعترضه، الدمستق في بعض مذاهبه فأوقع به، وقتل أخاه وأعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة، وألقى ابن الزيات نفسه في النهر فغرق .ثم رجع الدمستق إلى بلاد الثغور، وأغذ السير إلى مدينة حلب، وأعجل سيف الدولة عن الاحتشاد فقاتله في خف من أصحابه فانهزم سيف الدولة، واستلحم آل حمدان، واستولى الدمستق على ما في داره خارج حلب من خزائن الأموال والسلاح. وخرب الدار وحصر المدينة، وأحس أهل حلب مدافعته فتأخر إلى جبل حيوش.ثم انطلقت أيدي الدعار بالبلد على النهب، وقاتلهم الناس على متاعهم، وخربت الأسوار لخلوها من الحامية فجاء الروم، ودخلوها عليهم. وبادر الأسرى الذين كانوا في حلب وأثخنوا في الناس، وسبي من البلد بضعة عشر ألفاً ما بين صبي وصبية. واحتمل الروم ما قدروا عليه، وأحرقوا الباقي. ولجأ المسلمون إلى قصبة البلد فامتنعوا بها، وتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة يحاصرها فرماه بحجر منجنيق فمات. وقتل الدمستق به من كان معه من أسرى المسلمين وكانوا ألفاً ومائتين. وارتحل الدمستق عنهم، ولم يعرض لسواد حلب. وأمرهم بالعمارة على أنه يعود ابن عمه عن قريب فخيب الله ظنه. وأعاد سيف الدولة عين زربة، وأصلح أسوارها وغزا حاجبه مع أهل طرسوس إلى بلاد الروم فاثخنوا فيها، ورجعوا فجاء الروم إلى حصن سبة فملكوه وملكوا أيضاً حصن دلوكة وثلاثة حصون مجاورة لهم. ثم سار نجا غلام سيف الدولة إلى حصن زياد فلقيهم جمع من الروم فانهزم الروم، وأسر منهم خمسمائة رجل. وفي السنة أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان، وكان عاملاً على منبج. وفيها سار جيش من الروم في البحر إلى جزيرة إقريطش، وبعث إليهم المعز بالمدد فأسر الروم وانهزم من بقي منهم. ثم ثار الروم في إثنتين وخمسين بعدها بملكهم فقتلوه، وملكوا غيره، وصار ابن السميسرة دمستقا.

انتقاض أهل حران:

كان سيف الدولة قد ولى هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة غيرها من ديار مضر فساء أثره فيهم، وطرح الأمتعة على التجار، وبالغ في الظلم فانتظروا به غيبته عند عمه سيف الدولة، وثاروا بعماله ونوابه فطردوهم فسار هبة الله إليهم، وحاصرهم شهرين، وأفحش في القتل فيهم. ثم سار سيف الدولة فراجعوا الطاعة، وداخلوا هبة الله، وأفحش في القتل واستقاموا.

انتقاض هبة الله:

وفي هذه السنة بعث سيف الدولة الصوائف إلى بلاد الروم فدخل أهل طرسوس من درب ومولاه نجا من درب، وأقام هو ببعض الدروب، لأنه كان أصابه الفالج قبل ذلك بسنتين فكان يعاني منه شدّة إذا عاوده وجعه، توغّل أهل طرسوس في غزوتهم وبلغوا قونية، وعادوا فعاد سيف الدولة إلى حلب، واشتدّ وجعه فأرجف الناس بموته فوثب عبد الله ابن أخيه، وقتل ابن نجا النصراني من غلمان سيف الدولة. ولما تيقن حياة عمه رحل إلى حران وامتنع بها، وبعث سيف الدولة غلامه فجاء إلى حران في طلبه، فلحق هبة الله بأبيه بالموصل ونزل نجا على حران آخر شوال من سنة إثنتين وخمسين، وصادر أهلها على ألف ألف درهم، وأخذها منهم في خمسة أيام بالضرب والنكال، وباعوا فيها ذخائرهم حتى أملقوا، وصاروا إلى ميافارقين ونزلها شاغرة فتسلط العيارون على أهلها.

انتقاض نجا بميافارقين وأرمينية واستيلاء سيف الدولة عليها:

ولما فعل نجا بأهل حران ما فعل، واستولى على أموالهم فقوي بها وبطر، وسار إلى  ميافارقين، وقصد بلاد أرمينية. وكان قد استولى على أكثرها رجل من العراق يعرف بأبي الورد فغلبه نجا على ما ملك منها، وأخذ قلاعه وبلاده فملك خلاط وملاذكرد وأخذ كثيراً من أموال أبي الورد وقتله، ثم انتقض على سيف الدولة. واتفق أن معز الدولة ابغ بويه استولى على الموصل ونصيبين فكاتبه نجا يعده المساعدة علي بني حمدان. ثم صالحه ناصر الدولة، ورجع إلى بغداد فسار سيف الدولة إلى نجا فهرب منه بين يديه، واستولى على جميع البلاد التي ملكها من أبي الورد، واستأمن إليه نجا وأخوه وأصحابه، فأمنهم وأعاد نجا إلى مرتبته. ثم وثب عليه غلمانه وقتلوه في داره بميافارقين في ربيع سنة ثلاث وخمسين.

مسير معز الدولة إلى الموصل وحروبه مع ناصر الدولة:

كان الصلح قد استقّر بين ناصر الدولة ومعز الدولة على ألف ألف درهم في كل سنة. ثم طلب ناصر الدولة دخول ولده أبي ثعلب المظفر في اليمن على زيادة بذلها، وامتنع سيف الدولة من ذلك، وسار إلى الموصل منتصف سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. ولحق ناصر الدولة بنصيبين وملك معز الدولة الموصل، وسار عنها في اتباع ناصر الدولة بعد أن استخلف على الموصل في الجباية والحرب فلم يثبت ناصر الدولة، وفارق نصيبين وملكها معز الدولة. وخالفه أبو ثعلب إلى الموصل، وعاث في نواحيها، وهزمه قواد معز الدولة بالموصل فسكنت نفس معز الدولة. واقام ببرقعيد يترقب أخباره، وخالف ناصر الدولة إلى الموصل فأوقع بأصحابه وقتلهم، وأسر قوّاده واستولى على مخلفه من المال والسلاح. وحمل ذلك كله إلى قلعة كواشي. وبلغ الخبر إلى معز الدولة فلحق بالنواب، وأعيا معز الدولة أمرهم. ثم ارسلوا إليه في الصلح فأجاب، وعقد لناصر الدولة على الموصل وديار ربيعة، وجميع أعماله بمقرها المعلوم، وعلى أن يطلق الأسرى الذين عنده من أصحاب معز الدولة إلى بغداد.

حصار المصيصة وطرسوس واستيلاء الروم عليها

وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة خرج الدمستق في جموع الروم فنازل المصيصة، وشدّ حصارها، وأحرق رساتيقها، وبلغ إلى نقب السور فدافعه أهلها أشد مدافعتهم. ثم رحل إلى أذنة وطرسوس، وطال عيثه في نواحيها، وأكثر القتل في المسلمين، وغلت الأسعار في البلاد، وقلت الأقوات. وعاود مرض سيف الدولة  فمنعه من النهوض إليهم، وجاء من خراسان خمسة آلاف رجل غزاة فبلغوا إلى سيف الدولة، فارتحل بسببهم للمدافعة فوجد الروم انصرفوا ففرّق هؤلاء الغزاة في الثغور من أجل الغلاء، وكان الروم قد انصرفوا بعد خمسة عشر يوماً. وبعث الدمستق إلى أهل المصيصة وأذنة وطرسوس يتهددهم بالعود، ويأمرهم بالرحيل من البلاد. ثم عاد إليهم وحاصر طرسوس فقاتلهم أشدّ قتال، وأسروا بطريقاً من بطارقته، وسقط الدمشق إلى أهل المصيصة، ورجعوا إلى بلادهم. ثم سار يعفور ملك الروم من القسطنطينية سنة أربع وخمسين إلى الثغور، وبنى بقيسارية مدينة ونزلها، وجهز عليها العساكر وبعث أهل المصيصة وطرسوس في الصلح فامتنع، وسار بنفسه إلى المصيصة فدخلها عنوة واستباحها، ونقل أهلها إلى بلاد الروم وكانوا نحواً من مائتي ألف. ثم سار إلى طرطوس واستنزل أهلها على الأمان، وعلى أن يحملوا من أموالهم وسلاحهم ما قدروا عليه، وبعث معهم حامية من الروم يبلغونهم أنْطاكِية، وأخذ في عمارة طرسوس وتحصينها وجلب الميرة إليها. ثم عاد إلى القسطنطينية، وأراد الدمشق بن شمسيق أن يقصد سيف الدولة في ميافارقين، ومنعه الملك من ذلك.

انتقاض أهل أنْطاكِية وحمص:

ولما استولى الروم على طرطوس لحق الرشيق النعيمي من قوادهم وأولي الرأي فيهم  بأنْطاكِية في عدد وقوة فاتصل به ابن أبي الأهوازي من الجباة بأنْطاكِية، وحسن له العصيان وأراه ان سيف الدولة بميافارقين عاجز عن العود إلى الشام بما هو فيه من الزمانة، وأعانه بما كان عنده من مال الجباة، فأجمع رشيق الانتقاض، وملك أنْطاكِية وسار إلى حلب وبها عرقوبة وجاء الخبر إلى سيف الدولة بأن رشيقاً أجمع الانتقاض، ونجا ابن الأهوازي إلى أنْطاكِية فأقام في إمارتها رجلاً من الديلم اسمه وزير ولقبه الأمير، وأوهم أنه علوي وتسمى هو بالأشاد وأساء السيرة في أهل أنْطاكِية، وقصدهم عرقوبة من حلب فهزموه. ثم جاء سيف الدولة من ميافارقين إلى حلب، وخرج إلى أنْطاكِية، وقاتل وزيرا وابن الأهوازي أياماً. وجيء بهما إليه أسيرين فقتل وزير وحبس ابن الأهوازي أياماً وقتله، وصلح أمر أنْطاكِية. ثم ثار بحمص مروان القرمطي كان من متابعة القرامطة، وكان يتقلد السواحل لسيف الدولة، فلما تمكن ثار بحمص فملكها وملك غيرها في غيبة سيف الدولة بميافيارقين، وبعث إليه عرقوبة مولاه بدراً بالعساكر فكانت بينهما عدة حروب أصيب فيها مروان بسهم فأثبت، وبقي أياماً يجود بنفسه والقتال بين أصحابه وبين بدر، وأسر بدر في بعض تلك الحروب فقتله مروان، وعاش بعده أياماً، ثم مات وصلح أمرهم.

خروج الروم الى الثغور واستيلاؤهم على دارا

وفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة خرجت جموع الروم إلى الثغور فحاصروا آمد، ونالوا من أهلها قتلا واسراً فامتنعت عليهم فانصرفوا إلى دارا قريباً من ميافارقين فأخذوها، وهرب الناس إلى نصيبين، وسيف الدولة يومئذ بها فهم بالهروب وبعث عن العرب ليخرج معهم ثم انصرف الروم، وأقام هو بمكانه، وساروا إلى أنْطاكِية فحاصروها مدة، وعاثوا في جهاتها فامتنعت فعاد الروم إلى طرسوس.

وفاة سيف الدولة ومحبس أخيه ناصر الدولة:

وفي صفر من سنة خمس وخمسين و ثلاثمائة توفي سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بحلب، وحمل إلى ميافارقين فدفن بها وولي مكانه بعده ابنه أبو المعالي شريف. ثم في جمادى الأولى منها حبس ناصر الدولة أخوه بقلعة الموصل، حبسه ابنه أبو ثعلب فضل الله الغضنفر. وكان كبير ولده، وكان سبب ذلك أنه كبر وساءت أخلاقه، وخالف أولاده وأصحابه في المصالح، وضيق عليهم فضجروا منه، ولما بلغهم معز الدولة بن بويه اعتزم أولاده على قصد العراق فنهاهم ناصر الدولة، وقال لهم: اصبروا حتى ينفق بختيار ما خلف أبوه معز الدولة من الذخيرة فتظفروا به، وإلا استظهر عليكم وظفر بكم فلجوا في ذلك، ووثب به ابو ثعلب بموافقة البطانة، وحبسه بالقلعة، ووكل بخدمته. وخالفه بعض إخوته في ذلك واضطرب أمره، واضطر إلى مداراة بختيار بن معز الدولة، وأرسل له في تجديد الضمان ليحتج به على إخوته فضمنه بألفي ألف درهم في كل سنة.

ولاية أبي المعالي بن سيف الدولة بحلب ومقتل أبي فراس

ولما مات سيف الدولة كما ذكرناه، ولي بعده ابنه أبو المعالي شريف، وكان سيف الدولة قد ولى أبا فراس بن أبي العلاء سعد بن حمدان، عندما خلصه من الأسر الذي أسره الروم في منبج فاستفداه في الفداء الذي بينه وبين الروم، سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وولاه على حمص. فلما مات سيف الدولة استوحش من أبي المعالي بعده ففارق حمص، ونزل في صدد، قرية في طرف البرية قريباً من حمص، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم، وبعثهم مع عرقوبة في طلبه فجاء إلى صدد، واستأمن له أصحاب أبي فراس، وكان في جملتهم فأمر به عرقوبة فقتل، واحتمل رأسه إلى أبي المعالي، وكان أبو فراس خاله.

أخبار أبي ثعلب مع إخوته بالموصل

كان لناصر الدولة بن حمدان زوجة تسمى فاطمة بنت أحمد الكردية، وهي أم أبي ثعلب، وهي التي دبرت مع ابنها أبي ثعلب على أبيه فلما حبس ناصر الدولة، كاتب ابنه حمدان يستدعيه ليخلصه مما هو فيه. وظفر ابو ثعلب بالكتاب فنقل أباه إلى قلعة كواشي، واتصل ذلك بحمدان، وكان قد سار عند وفاة عمه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقة فملكها. ولما اتصل به شأن الكتاب سار إلى نصيبين، وجمع الجموع، وبعث إلى إخوته في الإفراج عن أبيهم فسار أبو ثعلب لحربه، وانهزم حمدان قبل اللقاء للرقة فحاصره أبو ثعلب أشهراً. ثم اصطلحا، وعاد كل منهما إلى مكانه. ثم مات ناصر الدولة في محبسه سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، ودفن بالموصل. وبعث ابو ثعلب أخاه أبا البركات إلى حمدان بالرحبة فافترق عنه أصحابه، وقصد العراق مستجيراً ببختيار، فدخل بغداد في شهر رمضان من سنته ؛ وحمل إليه الهدايا . وبعث بختيار إلى أبي ثعلب النقيب أبا أحمد، والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه حمدان فصالحه، وعاد إلى الرحبة منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. وفارقه أبو البركات، ثم استقدمه أبو ثعلب فامتنع من القدوم عليه، فبعث إليه أخاه أبا البركات ثانياً، في العساكر، فخرج حمدان إلى البرية، وترك الرحبة فملكها أبو البركات، واستعمل عليها. وسار إلى الرقة، ثم إلى عرابان. وخالفه حمدان إلى الرحبة فكبسها، وقتل أصحاب أبي ثعلب بها فرجع إليه أبو البركات، وتقاتلا فضرب أبا البركات على رأسه فشجه، ثم ألقاه إلى الأرض أسره ومات من يومه. وحمل إلى الموصل فدفن بها عند أبيه. وجهز أبو ثعلب إلى حمدان، وقدم أخاه أبا فراس محمداً إلى نصيبين، ثم عزله عنها لأنه داخل حمدان ومالأه عليه فاستدعاه وقبض عليه، وحبسه بقلعة ملاشي من بلاد الموصل فاستوحش أخواه إبراهيم والحسن، ولحقا بأخيهما حمدان في شهر رمضان، وساروا جميعاً إلى سنجار. وسار أبو ثعلب من الموصل في أثرهم في شهر رمضان سنة ستين وثلاثمائة فخاموا عن لقائه، واستأمن إليه أخوا إبراهيم والحسن خديعة ومكراً فأمنهما، ولم يعلم، وتبعهما كثير من أصحاب حمدان. وعاد حمدان من سنجار إلى عرابان، واطلع أبو ثعلب على خديعة أخويه فهربا منه. ثم استأمن الحسن ورجع إليه، وكان حمدان أقام نائباً بالرحبة غلامه نجا، فاستولى على أمواله، وهرب بها إلى حران وبها سلامة البرقعيدي من قبل أبي ثعلب، فرجع حمدان إلى الرحبة. وسار أبو ثعلب إلى قرقيسيا، وبعث العساكر إلى الرحبة فعبروا الفرات، واستولوا عليها، ونجا حمدان بنفسه، ولحق بسنجار مستجيراً به، ومعه أخوه إبراهيم فأكرمهما ووصلهما، وأقاما عنده. ورجع أبو ثعلب إلى الموصل وذلك كله آخر سنة ستين وثلاثمائة.

خروج الروم إلى الجزيرة والشام

وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة دخل ملك الروم الشام فسار في نواحيها، ولم يجد من يدافعه فعاث في نواحي طرابلس، وكان أهلها قد أخرجوا عاملهم إلى عرقة لسوء سيرته فنهب الروم أمواله، ثم حاصر الروم عرقة فملكوها ونهبوها. ثم قصدوا حمص وقد انتقل أهلها عنها فأحرقوها، ورجعوا إلى بلاد السواحل، وملكوا منها ثمانية عشر بلداً، واستباحوا عامة القرى، وساروا في جميع نواحي الشام ولا مدافع لهم، إلا أن بعض العرب كانوا يغيرون على أطرافهم. ثم رجع ملك الروم مجمعا حصار حلب وأنْطاكِية، وبلغه استعدادهم فرحل عنهم إلى بلاده، ومعه من السبي مائة ألف رأس. وكان بحلب قرعويه مولى سيف الدولة فمانعهم، وبعث ملك الروم سراياه إلى الجزيرة فبلغوا كفرثوثا وعاثوا في نواحيها، ولم يكن من أبي ثعلب مدافعة لهم.

استبدال قرعويه بحلب:

كان قرعويه غلام سيف الدولة، وهو الذي أخذ البيعة لابنه أبي المعالي بعد موته، فلما كان سنة ثمان وخمسين وثلثماية انتقض على أبي المعالي، وأخرجه من حلب، واستبد بملكها. وسار أبو المعالي إلى حران فمنعه أهلها فسار إلى والدته بميافارقين، وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس. ولحق أصحابه بأبى ثعلب، وبلغ أمه بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس أنه يريد القبض عليها فمنعته أياما من الدخول، حتى استوثقت لنفسها، وأذنت له ولمن رضيته، وأطلقت لهم الأرزاق، ومنعت الباقين وسار أبو المعالي لقتال قرعويه بحلب فامتنع عليه، ثم لحق أبو المعالي بحماة، وأقام بها وبقيت الخطبة بحران له ولا والي عليهم من قبله، فقدموا عليهم من يحكم بينهم.

مسير أبي ثعلب من الموصل إلى ميافارقين:

ولما سمع أبو ثعلب بخروج أبي المعالي من ميافارقين إلى حلب لقتال قرعويه، سار إليها وامتنعت زوجة سيف الدولة منه، واستقر الأمر بينهما على أن تحمل إليه مائتي ألف درهم. ثم نمي إليها أنه يحاول على ملك البلد فكبسته ليلاً، ونالت من معسكره فبعث إليها يلاطفها فأعادت إليه بعض ما نهب، وحملت إليه مائة ألف درهم، وأطلقت الأسارى فرجع عنها.

استيلاء الروم على أنْطاكِية ثم حلب وثم ملاذكرد:

وفي سنة تسع وخمسين خرج الروم إلى أنْطاكِية فمروا بحصن الوفاء بقربها، وهم نصارى فحاصروهم، واتفقوا على أن يرحلوا إلى أنْطاكِية، فاذا نزل الروم عليها ثاروا من داخل. وانتقل أهل الوفاء، ونزلوا بجبل أنْطاكِية. وجاء بعد شهرين أخو تعفور ملك الروم في أربعين ألفاً من جموع الروم، ونازل أنْطاكِية فأخلى له أهل الوفاء السور من ناحيتهم، وملكوا البلد وسبوا منها عشرين ألفاً. ثم أنفذ ملك الروم جيشاً كثيفاً إلى حلب، وأبو المعالي بن سيف الدولة عليها يحاصرها ففارقها أبو المعالي، وقصد البرية وملك الروم حلب. وتحصن قرعويه وأهل البلد بالقلعة فحاصروها مدّة. ثم ضربوا الهدنة بينهم على، مال يحمله قرعويه، وعلى أن الروم إذا أرادوا الميرة من قرى الفرات لا يمنعونهم منها. ودخل في هذه الهدنة حمص وكفرطاب والمعرة وأفامية وشيزر، وما بين ذلك من  الحصون والقرى، وأعطاهم رهنهم على ذلك الروم، وأفرج الروم عن حلب. وكان ملك  الروم قد بعث جيشاً إلى ملاذكرد من أعمال أرمينية فحاصروها، وفتحوها عنوة، ورعب أهل الثغور منهم في كل ناحية.

مقتل يعفور ملك الروم:

كان نقفور ملكاً بالقسطنطينية، وهي البلاد التي بيد بني عثمان لهذا العهد، وكان من يليها يسمى الدمشق. وكان يعفور هذا شديداً على المسلمين وهو الذي أخذ حلب أيام سيف الدولة وملك طرسوس والمسينة وعين زربه. وكان قتل الملك قبله وتزوج امرأته، وكان له منها إبنان فكفلهما يعفور وكان كثيراً ما يطرق بلاد المسلمين ويدوخها في ثغور الشام والجزيرة، حتى هابه المسلمون وخافوه على بلادهم. ثم أراد أن يجب ربيبيه ليقطع نسلهما ففرقت أمهما من ذلك، وأرسلت إلى الدمشق بن الشميشق وداخلته في قتله. وكان شديد الخوف من يعفور. وهذا كان أبوه مسلماً من أهل طرسوس يعرف بابن العفاش، تنصر ولحق بالقسطنطينية. ولم يزل يترقى في الأطوار إلى أن نال من الملك ما ناله. وهذه غلطة ينبغي للعقلاء أن يتنزهوا عنها، ولا ينال الملك من كان عريقاً في السوقة، وفقيداً للعصابة بالكلية، وبعيداً عن نسب أهل الدولة، فقد تقدم من ذلك في مقدمه الكتاب ما فيه كفاية.

استيلاء أبي ثعلب على حران

وفي منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، سار أبو ثعلب إلى حران وحاصرها نحواً من شهر، ثم جنح أهلها إلى مصالحته واضطربوا في ذلك، ثم توافقوا عليه وخرجوا إلى أبي ثعلب واعطوه الطاعة ودخل في إخوانه وأصحابه فصلى الجمعة، ورجع إلى معسكره. واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي، وكان من أكابر أصحاب بني حمدان. وبلغه الخبر بأن نميراً عاثوا في بلاد الموصل، وقتلوا العامل ببرقعيد فأسرع العود.

مصالحة قرعويه لأبي المعالي:

قد تقدم لنا استبداد قرعويه بحلب سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وخروج أبي المعالى بن سيف الدولة منها، وأنه لحق بأمه بميافارقين. ثم رجع لحصار قرعويه بحلب. ثم رجع إلى حمص ونزل بها. ثم وقع الإتفاق بينه وبين قرعويه، على ان يخطب له بحلب، ويخطبان جميعاً للمعز العلوي صاحب مصر.

مسير الروم إلى بلاد الجزيرة:

وفي سنة إحدى وستين سار الدمشق في جموع الروم إلى الجزيرة فأغار على الرها ونواحيها. ثم تنقل في نواحي الجزيرة، ثم بلغ نصيبين واستباحها ودوخها. ثم سار في ديار بكر ففعل فيها مثل ذلك. ولم يكن لأبي ثعلب في مدافعتهم أكثر من حمل المال إليهم، وسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وجلسوا إلى الناس في المساجد والمشاهد يصفون ما جرى على المسلمين، وخوفوهم عاقبة أمرهم فتدمهم أهل بغداد إلى دار الطائع الخليفة، وأرادوا الهجوم عليه فاغلقت دونهم الأبواب فأعلنوا بشتمه. ولحق آخرون من أهل بغداد ببختيار وهو بنواحي الكوفة يستغيثونه من الروم فوعدهم بالجهاد، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره بالتجهيز للغزو، وأن يستنفر العامة. وكتب إلى أبي ثعلب بن حمدان بإعداد الميرة والعلوفات والتجهيز، وانه عازم على الغزو. ووقعت بسبب ذلك فتنة في بغداد من قبل اشتغال العامة بذلك أدت إلى القتل والنهب بين عصائب الفتيان والعيارين.

أسر الدمشق وموته:

ولما فعل الدمشق في ديار مضر والجزيرة ما فعل، قوي طمعه في فتح آمد فسار إليه أبو ثعلب، وقدم أخاه أبا القاسم هبة الله واجتمعا على حرب الدمشق، ولقياه في رمضان سنة إثنتين وستين. وكانت الجولة في مضيق لا تتحرك فيه الخيل، وكان الروم على غير أهبة فانهزموا. وأخذ الدمشق أسيراً، فلم يزل محبوساً عند أبي ثعلب إلى أن مرض سنة ثلاث وستين، وبالغ في علاجه وجمع له الأطباء فلم ينتفع بذلك ومات.

استيلاء بختيار بن معز الدولة على الموصل وما كان بينه وبين أبي ثعلب

قد تقدم لنا ما كان بين أبي ثعلب وأخويه حمدان وإبراهيم من الحروب، وأنهما سارا +إلى بختيار بن معز الدولة صريخين فوعدهما بالنصرة، وشغل عن ذلك بما كان فيه فأبطأ عليهما أمره، وهرب إبراهيم، ورجع إلى أخيه أبي ثعلب فتحرّك عزم بختيار على قصد الموصل، وأغراه وزيره ابن بقية لتقصيره في خطابه فسار، ووصل إلى الموصل في ربيع سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، ولحق أبو ثعلب بسنجار وأخلى الموصل من الميرة، ومن الدواوين. وخالف بختيار إلى بغداد، ولم يحدث فيها حدثا من نهب ولا غيره، وإنما قاتل أهل بغداد فحدثت فيها الفتنة بسبب ذلك بين عامتها. واضطرب أمرهم، وخصوصاً الجانب الغربي. وسمع بختيار بذلك فبعث في أثره وزيره ابن بقية وسبكتكين، فدخل ابن بقية بغداد وأقام سبكتكين في الضاحية. وتأخر أبو ثعلب عن بغداد، وحاربه يسيراً. ثم داخله في الانتقاض واستيلاء سبكتكين على الأمر. ثم أقصر سبكتكين عن ذلك، وخرج إليه ابن بقية، وراسلوا أبا ثعلب في الصلح على مال يضمنه ويرد على أخيه حمدان إقطاعه ما سوى ماردين، وكتبوا بذلك إلى بختيار. وارتحل أبو ثعلب إلى الموصل، وأشار ابن بقية على سبكتكين باللحاق ببختيار فتقاعد ثم سار. وارتحل بختيار عن الموصل بعد أن جهد منه أهل البلد بما نالهم من ظلمه وعسفه. وطلب منه أبو ثعلب الإذن في لقب سلطاني، وأن يحط عنه من الضمان فأجابه وسار. ثم بلغه في طريقه أن أبا ثعلب نقض وقتل بعضاً من أصحاب بختيار، عادوا إلى الموصل لنقل أهاليهم فاستشاط بختيار، واستدعى ابن بقية وسبكتكين في العساكر، وعادوا جميعاً إلى الموصل. وفارقها أبو ثعلب، وبعث أصحابه بالاعتذار، والحلف على إنكار ما بلغه فقبل، وبعث الشريف أبا أحمد الموسوي لاستحلافه. وتم الصلح، ورجع بختيار إلى بغداد فجهز ابنته إلى أبي ثعلب، وقد كان عقد له عليها من قبل.

عود أبي المعالي بن سيف الدولة إلى حلب:

قد تقدم لنا أن قرعويه مولى أبيه سيف الدولة كان تغلب عليه، وأخرجه من حلب سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فسار إلى والدته بميافارقين. ثم إلى حماة فنزلها، وكانت الروم قد أمنت حمص، وكثر أهلها. وكان قرعويه قد استناب بحلب مولاه بكجور فقوي عليه وحبسه في قلعة حلب، وملكها سنين فكتب أصحاب قرعرية إلى أبي المعالي واستدعوه فسار، وحاصرها أربعة أشهر، وملكها وأصلح أحوالها، وازدادت عمارتها حتى انتقل إلى ولاية دمشق كما يذكر.

استيلاء عضد الدولة بن بويه علي الموصل وسائر ملوك بني حمدان

ولما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد، وهزم بختيار ابن عمه معز الدولة، سار بختيار في الفل إلى الشام، ومعه حمدان بن ناصر الدولة أخو أبي ثعلب فحسن له قصد الموصل على الشام، وقد كان عضد الدولة عاهده أن لا يتعرض لأبي ثعلب لمودة بينهما فنكث وقصدها.ولما انتهى إلى تكريت أتته رسل أبي ثعلب بالصلح، وأن يسير إليه بنفسه وعساكره، ويعيده على ملك بغداد على أن يسلم إليه أخاه حمدان فسلمه إلى رسل أبي ثعلب فحبسه، وسار بختيار إلى الحديثة ولقي أبا ثعلب، وسار معه إلى العراق في عشرين الف مقاتل. وزحف نحوهما عضد الدولة، والتقوا بنواحي تكريت في شوال سنة ست وستين فهزمهما عضد الدولة، وقتل بختيار، ونجا أبو ثعلب إلى الموصل فاتبعه عضد الدولة، وملك الموصل في ذي القعدة، وحمل معه الميرة والعلوفات للإقامة. وبث السرايا في طلب أبي ثعلب ومعه المرزبان بن بختيار وأخواله أبو إسحق وظاهر إبنا معز الدولة، ووالدتهم.

وسار لذلك أبو الوفاء ظاهر بن إسمعيل من أصحابه. وسار حاجبه أبو ظاهر طغان إلى جزيرة ابن عمر، ولحق أبو ثعلب بنصيبين. ثم انتقل إلى ميافارقين فأقام بها. وبلغه مسير أبي الوفاء إليه ففارقها إلى تدليس. وجاء أبو الوفاء إلى ميافارقين فامتنعت عليه فتركها، وطلب أبا ثعلب فخرج من أرزن الروم إلى الحسينية من أعمال الجزيرة، وصعد إلى قلعة كواشي وغيرها من قلاعه. ونقل منها ذخيرته، وعاد فعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحاصرها، واتصل بعضد الدولة مجيئه إلى القلاع فسار إليه، ولم يدركه، واستأمن إليه كثير من أصحابه. وعاد إلى الموصل وبعث قائده طغان إلى تفليس فهرب منها أبو ثعلب واتصل بملكهم المعروف بورد الرومي، وكان منازعاً لملكهم الأعظم في الملك فوصل ورد يده بيد أبي ثعلب، وصاهره ليستعين به واتبعه في مسيره عسكر عضد الدولة، وأدركوه فهزمهم وأثخن فيهم. ونجا فلّهم إلى حصن زياد، ويسمى خرت برت. وأرسل إلى ورد يستمده فاعتذر بما هو فيه، ووعده بالنصر. ثم انهزم ورد أمام ملك الروم فأيس أبو ثعلب من نصره، وعاد إلى بلاد الإسلام، ونزل بآمد حتى جاء خبر ميافارقين. وكان أبو الوفاء لما رجع من طلب أبي ثعلب حاصر ميافارقين، والوالي عليها هزارمرد فضبط البلد، ودافع أبا الوفاء ثلاثة أشهر. ثم مات وولى أبو ثعلب مكانه مؤنساً من موالي الحمدانية، ودس أبو الوفاء إلى بعض أعيان البلد فاستماله فبعث له في الناس رغبة. وشعر بذلك مؤنس فلم يطق مخالفتهم فانقاد واستأمن، وملك أبو الوفاء البلد، وكان في أيام حصاره قد افتتح سائر حصونه فاستولى على سائر ديار بكر وأمن أصحاب أبي ثعلب، واحسن إليهم ورجع إلى الموصل. وبلغ الخبر إلى أبي ثعلب منقلبه من دار الحرب فقصد الرحبة. وبعث إلى عضد الدولة يستعطفه فشرط عليه المسير إليه فامتنع. ثم استولى عضد الدولة على ديار مضر، وكان عليها من قبل أبي ثعلب سلامة البرقعيدي من كبار أصحاب بني حمدان. وكان أبو المعالي بن سيف الدولة بعث إليها جيشاً من حلب فحاربوها وامتنعت عليهم، وبعث أبو المعالي إلى عضد الدولة، وعرض بنفسه عليه فبعث عضد الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي إلى سلامة البرقعيدي، وتسلمها بعد حروب. وأخذ لنفسه منها الرقة، ورد باقيها على سعد الدولة فصارت له. ئم استولى عضد الدولة على الرحبة، وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه. واستولى على جميع أعماله، واستخلف أبا الوفاء على الموصل، ورجع إلى بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وستين. ثم بعث عضد الدولة جيشاً إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فحاصروهم حتى استقاموا وسلموا قلاعهم، ونزلوا إلى الموصل فحال الثلج بينهم وبين بلادهم فقتلهم قائد الجيش، وصلبهم على جانبي طريق الموصل.

مقتل أبي ثعلب بن حمدان:

ولما أيس أبو ثعلب بن حمدان من إصلاح عضد الدولة، والرجوع إلى ملكه بالموصل وسار إلى الشام، وكان على دمشق قسّام داعية العزيز العلوي، غلب عليها بعد أفتكين، وقد تقدم ذلك، وكيف ولي أفتكين على دمشق. فخاف قسام من أبي ثعلب، ومنعه من دخول البلد فأقام بظاهرها، وكاتب العزيز، وجاء الخبر بأنه يستقدمه فرحل إلى طبرية بعد مناوشة حرب بينه وبين قسام. وجاء الفضل قائد العزيز لحصار قسام بدمشق، ومر بأبي ثعلب ووعده عن العزيز بكل جميل. ثم حدثت الفتنة بين دغفل وقسام وأخرجهم، وانتصروا بأبي ثعلب فنزل بجوارهم مخافة دغفل والقائد الذي يحاصر دمشق. ثم ثار أبو ثعلب في بني عقيل إلى الرملة في محرم سنة تسع وتسعين، فاستراب به الفضل ودغفل وجمعوا لحربه، ففر بنو عقيل عنه، وبقي في سبعمائة من غلمانه وغلمان أبيه، وولى منهزماً فلحقه الطلب فوقف يقاتل، فضرب وأسر وحمل إلى دغفل، وأراد الفضل حمله إلى العزيز فخاف دغفل أن يصطنعه كما فعل بأفتكين فقتله،وبعث الفضل بالرأس إلى مصر. وحمل بنو عقيل أخته جميلة، وزوجته بنت سيف الدولة إلى أبي المعالي بحلب فبعث بجميلة إلى الموصل، وبعث بها أبو الوفاء إلى عضد الدولة ببغداد فاعتقلها.

وصول ورد المنازع لملك الروم إلى ديار بكر مستجيراً:

كان ملك الروم أرمانوس لما توفي خلف ولدين صغيرين ؛ وهما بسيل وقسطنطين، ونصب أحدهما للملك، وعاد حينئذ الدمشق يعفور من بلاد الإسلام بعد أن عاث في نواحيها وبالغ في النكاية، فاجتمع إليه الروم، ونصبوه للنيابة عن إبني أرمانوس فداخلت أمهما ابن الشميشق على الدمشقية، وقبض على لاوون أخي دمشق، وعلى ابنه ورديس بن لاوون واعتقلهما في بعض القلاع. وسار إلى بلاد الشام وأعظم فيها النكاية. ومرّ بطرابلس فحاصرها، وكان لوالده الملك أخ خصي وهو يومئذ وزير فوضع على ابن الشميشق من سقاه السم، وأحس به من نفسه فأغذ السير إلى القسطنطينية فمات في طريقه. وكان ورد بن منير من عظماء البطارقة في الأمر، وصاهر أبا ثعلب بن حمدان واستجاش بالمسلمين من الثغور، وقصد الروم ووالى عليهم الهزائم فخافه الملكان، وأطلقا ورديس بن لاوون، وبعثاه على الجيوش لقتال الورد فقاتله فانهزم ورد إلى ديار بكر سنة تسع وستين وثلاثمائة، ونزل بظاهر ميافارقين، وبعث أخاه إلى عضد الدولة مستنصراً به. وبعث ملكا الروم بالقسطنطينية إلى عضد الدولة فاستمالاه فرجح جانبهما، وأمر بالقبض على ورد وأصحابه فقبض عليه أبو علي التميمي عامل ديار بكر، وعلى ولده وأخيه وأصحابه وأودعهم السجن بميافارقين، ثم بعثهم إلى بغداد فحبسوا بها إلى أن أطلقهم بهاء الدولة بن عضد الدولة سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، وشرط عليه إطلاق عدد من المسلمين، وإسلام سبعة من الحصون برساتيقها، وأن لا يتعرض لبلاد المسلمين ما عاش. وجهزه فسار وملك في طريقه ملطية وقوي بما فيه، وصالحه ورديس بن لاوون علي أن يكون قسطنطينية وجانب الشمال من الخليج له وحاصر قسطنطينية، وبها الملكان إبنا أرمانوس، وهما بسيل وقسطنطين في ملكها، وأقرّا وردا على ما بيده قليلاً. ثم مات وتقدم بسيل في الملك، ودام عليه ملكه، وحارب البلغار خمساً وثلاثين سنة، وظفر بهم وأجلاهم عن بلادهم وأسكنها الروم.

ولاية بكجور على دمشق:

قد قدمنا ولاية بكجور على حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة، وأنه عمرها، وكان أهل دمشق ينتقلون إليها لما نالهم من جور قسام، وما وقع بها من الغلاء والوباء، وكان بكجور يحمل الأقوات من حمص تقرباً إلى العزيز صاحب مصر، وكاتبه في ولايته فوعده بذلك. ثم استوحش من أبي المعالي سنة ثلاث وسبعين، وأرسل إلى العزيز يستنجز وعده في ولاية دمشق فمنع الوزير بن كلس من ولايته ريبة به، وكان بدمشق من قبل العزيز القائد بلكين بعثه فمنع الوزير بعد قسام، وساء أثر ابن كلس في الدولة، واجتمع الكتاميون بمصر على التوثب بابن كلس، ودعته الضرورة لاستقدام بلكين من دمشق فأمر العزيز باستقدامه، وولى بكجور مكانه فداخلها في رجب سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وأساء السيرة فيها، وعاث في أصحاب الوزير بن كلس، وأقام على ذلك ستاً.وعجز أهل دمشق منه، وجهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم، وكوتب نزال والي طرابلس بمعاضدته فسار في العساكر، وجمع بكجور عسكراً من العرب وغيرهم، وخرج للقائه فهزمه منير واستأمن إليه بكجور على أن يرحل عن دمشق فأمنه، ورحل إلى الرقة واستولى عليها، وتسلم منير دمشق، وأقام بكجور بالرقة واستولى على الرحبة وما يجاور الرقة وراسل بهاء الدولة بن عضد الدولة بالطاعة وباد الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه، وأبا المعالي سعد الدولة صاحب حلب بالعود إلى طاعته على أن يقطعه حمص، فلم يجبه أحد إلى شيء فأقام بالرقة يراسل موالي سعد الدولة أبي المعالي، ويستميلهم في الغدر به فأجابوه، وأخبروه أن أبا المعالي مشغول بلذاته فاستمد حينئذ العزيز، فكتب إلى نزال بطرابلس وغيره من ولاة الشام أن يمدوه ويكونوا في تصرفه.ودس إليهم عيسى بن نسطورس النصراني وزير العزيز في المباعدة عنه لعداوته مع ابن كلس الوزير قبله، وتجديدها مع ابن منصور هذا فكتب نزال إلى بكجور يواعده بذلك في يوم معلوم، وأخلفه وسار بكجور من الرقة، وبلغ خبر مسيره إلى أبي المعالي فسار من حلب، ومعه  لؤلؤ  الكبير مولى أبيه، وكتب إلى بكجور يستميله ويذكره الحقوق، وأن يقطعه من الرقة إلى حمص فلم يقبل. وكتب أبو المعالي إلى صاحب أنْطاكِية يستمده فأمده بجيش الروم، وكتب إلى العرب الذين مع بكجور يرغبهم في الأموال والإقطاع فوعدوه خذلان بكجور عند اللقاء.فلما التقى العسكراًن، وشغل الناس بالحرب، عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه، ولحقوا بأبي المعالي فاستمات بكجور وحمل على موقف أبي المعالي يريده، وقد أزاله  لؤلؤ  عن موقفه، ووقف مكانه خشية عليه. وحمل ذلك فلما انتهى بكجور لحملته برز إليه.  لؤلؤ  وضربه فأثبته. وأحاط به أصحابه فولى منهزماً. وجاء بعضهم إلى أبي المعالي فشارطه على تسليمه إليه فقبل شرطه، وأحضره فقتله وسار إلى الرقة وبها سلامة الرشقي مولى بكجور وأولاده وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزيره فاستأمنوا إليه فأمنهم، ونزلوا عن الرقة فملكها، واستكثر ما مع أولاد بكجور فقال له القاضي ابن أبي الحصين: هو مالك، وبكجور لا يملك شيئاً، ولا حنث عليك. فاستصفى مالهم أجمع، وشفع فيهم العزيز فأساء عليه الردّ، وهرب الوزير المغربي إلى مشهد علي.

خبرباد الكردي ومقتله على الموصل:

كان من الأكراد الحميدية بنواحي الموصل، ومن رؤسائهم رجل يعرف، بباد وقيل باد لقب له، وإسمه أبو عبد الله الحسين بن ذوشتك، وقيل باد إسمه وكنيته أبو شجاع بن ذوشتك. وإنما أبو عبد الله الحسين أخوه. وكان له بأس وشدة، وكان يخيف السابلة، ويبذل ما تجمع له من النهب في عشائره فكثرت جموعه. ثم سار إلى مدينة أرمينية فملك مدينة أرجيش. ثم رجع إلى ديار بكر فلما ملك عضد الدولة الموصل، حضر عنده في جملة الوفود وخافه على نفسه فعدا وأبعد في مذهبه، وبلغ عضد الدولة أمره فلم يظفر به. ولما هلك عضد الدولة سار باد إلى ديار بكر فملك آمد وميافارقين. ثم ملك نصيبين فجهز صمصام الدولة العساكر إليه مع الحاجب أبي القاسم سعيد بن محمد فلقيه على خابور الحسينية من بلاد كواشي فانهزم الحاجب وعساكره، وقتل كثير من الديلم.ولحق الحاجب سعيد بالموصل، وباد في اتباعه. وثارت عامة الموصل بالحاجب لسوء سيرته فأخرجوه، ودخل باد الموصل سنة ثلاث وسبعين، وقوي أمره وسما إلى طلب بغداد. وأهم صمصام الدولة أمره ونظر مع وزيره ابن سعدان في توجيه العساكر إليه، وأنفذ كبير القواد زياد بن شهرا كونه. فتجهز لحربه، وبالغوا في مدده وإزاحة علله فلقيهم في صفر سنة أربع وسبعين. وانهزم باد وقتل كثير من أصحابه، وأسر آخرون، وطيف بهم في بغداد. واستولى الديلم على الموصل، وأرسل زياد القائد عسكراً إلى نصيبين فاختلفوا على مقدمهم. وكتب ابن سعدان وزير صمصام الدولة إلى أبي المعالي بن حمدان صاحب حلب يومئذ بولاية ديار بكر، وإدخالها في عمله، فسير إليه أبو المعالي عسكره إلى ديار بكر فلم يكن لهم طاقة بأصحاب باد، فحاصروا ميافارقين أياماً، ورجعوا إلى حلب.وبعث سعد الحاجب من يتولى غدر باد فدخل عليه رجل في خيمته، وضربه بالسيف على ساقه يظنها رأسه فنجا من الهلكة. ثم بعث باد إلى زياد القائد، وسعد الحاجب بالموصل بطلب الصلح فأثمروا بينهم على أن تكون ديار بكر لباد، والنصف من طور عبدين. فخلصت ديار بكر لباد من يومئذ، وانحدر زياد القائد إلى بغداد. وأقام سعد الحاجب بالموصل إلى أن توفي سنة سبع وسبعين فطمع باد في الموصل، وبعث إليها شرف الدولة بن بويه أبا نصر خواشاده في العساكر، فزحف إليه باد، وتأخر المدد عن أبي نصر فبعث عن العرب من بني عقيل وبني نمير لمدافعة باد، وأقطعهم البلاد. واستولى باد على طور عبدين آخر الجبال ولم يضجر، وأرسل أخاه في عسكر لقتال العرب فقتل، وانهزم عسكره، وأقام باد قبالة خواشاده حتى جاء الخبر بموت شرف الدولة بن بويه، فزحف خواشاده إلى الموصل، وقامت العرب بالصحراء وباد بالجبال.

عود بني حمدان إلى الموصل ومقتل باد:

كان أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن إبنا ناصر الدولة بن حمدان قد لحقا بعد مهلك أخيهما أبي ثعلب بالعراق، وكانا ببغداد، واستقرا في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة، فلما تولى شرف الدولة وخواشاده في الموصل بعثهما إليها ثم أنكر ذلك عليه أصحابه فكتب إلى خواشاده عامل الموصل فمنعهما فكتب إليهما بالرجوع عنه فلم يجيبا، وأغذا السير إلى الموصل حتى نزلا بظاهرها. وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك الذين عندهم وخرجوا إلى بني حمدان. وزحف الديلم لقتالهم فانهزموا، وقتل منهم خلق، وامتنع باقيهم بدار الإمارة ومن معه على الأمان إلى بغداد،وملكوا الموصل.وتسايل إليهم العرب من كل ناحية. وأراد أهل الموصل استلحامهم فمنعهم بنو حمدان، وأخرجوا خواشاده وبلغ الخبر إلى باد وهو بديار بكر بملك الموصل ، وجمع فاجتمع إليه الأكراد البثنوية أصحاب قلعة فسك، وكان جمعهم كثيراً. واستمال أهل الموصل بكتبه فأجابه بعضهم، فسار ونزل على الموصل، وبعث أبو طاهر وأبو عبد الله إبنا حمدان إلى أبي عبد الله محمد بن المسيب أمير بني عقيل يستنصرانه. وشرط عليهما جزيرة ابن عمر ونصيبين فقبلا شرطه. وسار أبو عبد الله صريخاً، وأقام أخوه أبو طاهر بالموصل، وباد يحاصره. وزحف أبو الرواد في قومه مع أبي عبد الله بن حمدان، وعبروا دجلة عند بدر، وجاؤا إلى باد من خلفه. وخرج أبو طاهر والحمدانية من أمامه، والتحم القتال، ونكب بباد فرسه فوقع طريحاً، ولم يطق الركوب، وجهض العدو عنه أصحابه فتركوه فقتله بعض العرب، وحمل رأسه إلى بني حمدان ورجعوا ظافرين إلى الموصل، وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة.

مهلك أبي طاهر بن حمدان واستيلاء بني عقيل علي الموصل:

لما هلك باد طمع أبو طاهر وأبو عبد الله إبنا حمدان في استرجاع ديار بكر، وكان أبو علي بن مروان الكردي، وهو ابن أخت باد قد خلص من المعركة، ولحق بحصن كيفا، وبه أهل باد وماله، وهو من أمنع المعاقل فتزوج إمرأة خاله واستولى على ماله وعلى الحصن. وسار في ديار بكر فملك ما كان لخاله فيها تليداً. وبينما هو يحاصر ميافارقين زحف إليه أبو طاهر وأبو عبد الله إبنا حمدان يحاربانه فهزمهما، وأشر عبد الله منهما. ثم أطلقه ولحق بأخيه أبي طاهر وهو يحاصر آمد فزحفا لقتال ابن مروان فهزمهما، وأسر أبا عبد الله ثانية إلى أن شفع فيه خليفة مصر فأطلقه، واستعمله الخليفة على حلب إلى أن هلك. وأما أبو طاهر فلحق بنصيبين في فل من أصحابه، وبها أبو الدرداء محمد بن المسيب أمير بني عقيل. وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وبعث إلى بهاء الدولة أن ينفذ إليه عاملاً من قبله فبعث إليها قائداً كان تصرفه عن أبي الدرداء، ولم يكن له من الأمر شيء إلى أن استبد أبو الدرداء، واستغنى عن العامل، وانقرض ملك بني حمدان من الموصل والبقاء لله.

ملك سعد الدولة  بن حمدان بحلب وولاية ابنه أبي الفضائل واستبداد  لؤلؤ  عليه:

ولما هزم سعد الدولة مولاه بكجور، وقتله حين سار إليه من الرقة، رجع إلى حلب فأصابه فالج وهلك سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة. وكان مولاه  لؤلؤ  كبير دولته فنصب ابنه أبا الفضائل، وأخذ له العهد على الاجناد، وتراجعت إليهم العساكر. وبلغ الخبر أبا الحسن المغربي وهو بمشهد علي فسار إلى العزيز بمصر، وأغراه بملك حلب فبعث إليها قائده منجوتكين في العساكروحاصرها،ثم ملك البلد، واعتصم أبو الفضائل ولؤلؤ بالقلعة، وبعث أبو الفضائل ولؤلؤ إلى ملك الروم يستنجدانه، وكان مشغولاً  بقتال البلغار فأرسل إلى نائبه بأنْطاكِية أن يسير إليهم، فسار في خمسين الفاً، ونزل جسر الحديد على وادي العاصي فنفر إليه منجوتكين في عساكر المسلمين، وهزم الروم إلى أنْطاكِية، واتبعهم فنهب بلادها وقراها وأحرقها. ونزل أبو الفضائل ولؤلؤ من القلعة إلى مدينة حلب فنقل ما فيها من الغلال، وأحرق الباقي. وعاد منجوتكين إلى حصارهم بحلب.وبعث  لؤلؤ  إلى أبي الحسن المغربي في الوساطة لهم في الصلح فصالحهم منجوتكين، ورحل إلى دمشق حجراً من الحرب وتعذر الأقوات. ولم يراجع العزيز في ذلك فغضب العزيز، وكتب إليه يوبخه ويأمره بالعود لحصار حلب فعاد وأقام عليها ثلاثة عشر شهراً. فبعث أبو الفضائل ولؤلؤ مراسلة لملك الروم وحرضوه على أنْطاكِية، وكان قد توسط بلاد البلغار فرجع عنها وأجفل في الحشد، ورجع إلى حلب. وبلغ الخبر إلى منجوتكين فأجفل عنها بعد أن أحرق خيامه، وهدم مبانيه، وجاء ملك الروم. وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ فشكرا له ورجعا، ورحل ملك الروم إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبهما. وحاصر طرابلس فامتنعت عليه فأقام بها أربعين ليلة، ثم رحل عائداً إلى بلده.

انقراض بني حمدان بحلب واستيلاء بني كلاب عليها:

ثم إن أبا نصر لؤلؤاً مولى سيف الدولة عزل أبا الفضائل مولاه بحلب، وأخذ البلد منه ومحا دعوة العباسية، وخطب للحاكم العلوي بمصر، ولقبه مرتضى الدولة. ثم فسد حاله معه فطمع فيه بنو كلاب بن ربيعة، وأميرهم يومئذ صالح بن مرداس وتقبض  لؤلؤ  على جماعة منهم دخلوا إلى حلب، كان فيهم صالح فاعتقله مدة وضيق عليه. ثم فر من محبسه ونجا إلى أهله، وزحف إلى حلب ولؤلؤ فيها ؛ وكانت بينه وبينهم حروب هزمه صالح آخرها، وأسره سنة ستين وأربعمائة. وخلص أخوه نجا إلى حلب فحفظها، وبعث إلى صالح في فدية أخيه وشرط له ما شاء فأطلقه، ورجع إلى حلب واتهم مولاه فتحاً، وكان نائبه على القلعة بالمداخلة في هزيمته فأجمع نكبته. ونمي إليه الخبر فكاتب الحاكم العلوي وأظهر دعوته، وانتقض على  لؤلؤ  فأقطعه الحاكم صيدا وبيروت، ولحق لؤلؤ بالروم في أنْطاكِية فأقام عندهم. ولحق فتح بصيدا. واستعمل الحاكم على حلب من قبله، وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة أجمع. وبقيت حلب في ملك العبيديين. ثم غلب عليها صالح بن مرداس الكلابي، وكانت بها دولة له ولقومه، وورثها عنه بنوه كما يذكر في أخبارهم.