أخبار بكر بن خارجة

كان بكر بن خارجة، رجلاً من أهل الكوفة، مولى لبني أسد، وكان وراقاً ضيق العيش، مقتصراً على التكسب من الوراقة، وصرف أكثر ما يكسبه إلى النبيذ، وكان معاقراً للشرب في منازل الخمارين وحاناتهم، وكان طيب الشعر مليحاً مطبوعاً طبعاً ماجناً .


فذكر أبو العنبس الصيمري أن محمد بن الحجاج حدثه قال: رأيت بكر بن خارجة يبكر في كل يوم بقنينتين من شراب إلى خراب من خرابات الحيرة، فلا يزال يشربه فيه على صوت هدهد كان يأوي إلى ذلك الخراب، إلى أن يسكر، ثم ينصرف، قال: وكان يتعشق ذلك الهدهد.


وحدثني عمي عن ابن مهرويه عن علي بن عبد الله بن سعد، قال: كان بكر بن خارجة يتعشق غلاماً نصرانياً، يقال له: عيسى بن البراء العبادي الصيرفي، وله فيه قصيدة مزدوجة يذكر فيها النصارى وشرائعهم وأعيادهم، ويسمي دياراتهم، ويفضلهم.


قال: وحدثني من شهد دعبلا وقد أنشدني قوله في عيسى بن البراء النصراني العبادي:

زناره في خصره معقود

 

كأنه من كبدي مقـدود

فقال دعبل: ما يعلم الله أني حسدت أحداً قط كما حسدت بكراً على هذين البيتين.


وحدثني عمي عن الكراني، قال: حرم بعض الأمراء بالكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة، وركب فكسر نبيذهم، فجاء بكر يشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق، فبكى طويلاً، وقال:

يا لقومي لما جنى السلطان

 

لا يكونن لما أهان الهوان

 

قهوة في التراب من حـلـب الـكـر

 

م عـقـاراً كـأنـهـا الـزعـفـران

قهوة في مـكـان سـوء بـقـد صـا

 

دف سعد السـعـود ذاك الـمـكـان

من كميت يبدي الـمـزاج لـهـا لـؤ

 

لؤ نظم والفصـل مـنـهـا جـمـان

فإذا ما اصطبحتها صـغـرت فـي ال

 

قدر تخـتـالـهـا هـي الـجـرذان

كيف صبري عن بعض نفسي وهل يص

 

بر عن بعـض نـفـسـه الإنـسـان!

         

قال: فأنشدتها الجاحظ، فقال: إن من حق الفتوة أن أكتب هذه الأبيات قائماً وما أقدر على ذك إلا أن تعمدني، وقد كان تقوس، فعمدته، فقام، فكتبها قائماً.


وقال محمد بن داود بن الجراح في كتاب الشعراء: قال لي محمد بن الحجاج: كانت الخمر قد أفسدت عقل بكر بن خارجة في آخر عمره، وكان يمدح ويهجو بدرهم وبدرهمين ونحو هذا فاطرح، وما رأيت قط احفظ منه لكل شيء حسن، ولا أروى منه للشعر.


قال: وأنشدني بعض أصحابنا له في حال فساد عقله:

هب لي فديتك درهمـاً

 

أو درهمين إلى الثلاثه

إني أحب بني الطفـي

 

ل ولا أحب بني علاثه

قال ابن الجراح حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني بعض أصحابنا الكوفيين قال: حضرنا دعوة ليحيى بن أبي وسف القاضي وبتنا عنده، فنمت فما أنبهني إلا صياح بكر يستغيث من العطش، فقلت له: مالك؟ فاشرب فالدار مليئة ماء، قال: أخاف، قلت: من أي شيء؟ قال: في الدار كلب كبير، فأخاف أن يظنني غزالاً فيثب علي ويقطعني ويأكلني، فقلت: له ويحك يا بكر! فالحمير أشبه منك بالغزال، قم فاشرب إن كنت عطشان وأنت آمن، وكان عقله قد فسد من كثرة الشراب.


قال: وأنشدني له، وقد رأى صديقاً له قرأ رقعة من صديق له آخر ثم حرقها:

لم يقو عندي على تحريق قرطاسي

 

إلا امرؤ قلبه من صخرة قاسـي

إن القراطيس من قلبي بمـنـزلة

 

تحويه كالسمع والعينين في الرأس

ومما يغنى فيه من شعر بكر بن خارجة:

قلبي إلى ما ضرني داعـي

 

يكثر أحزاني وأوجـاعـي

لقل ما أبقى على مـا أرى

 

يوشك أن ينعاني النـاعـي

كيف احتراسي من عدوي إذا

 

كان عدي بين أضلاعـي؟

أسلمني الحـب وأشـياعـي

 

لما سعى بي عندها الساعي

لما دعاني حـبـهـا دعـوة

 

قلت له: لـبـيك مـن داع

الغناء لإبراهيم بن المهدي ثقيل أول، وفيه لعبد الله بن العباس هزج، جميعاً عن الهشامي، وقيل: إن فيه لحناً لابن جامع.
وقد ذكر الصولي في أخبار العباس بن الأحنف وشعره أن هذه الأبيات للعباس بن الأحنف، وذكر محمد بن داود بن الجراح عن أبي هفان أنها لبكر بن خارجة:

ويلي على ساكن شط الصراه

 

من وجنتيه شمت برق الحياه

ما ينقضي من عجب فكرتي

 

في خصلة فرط فيها الولاه

ترك المحبين بـلا حـاكـم

 

لم يقعدوا للعاشقين القضـاه

الشعر لإسماعيل القراطيسي والغناء لعباس بن مقام خفيف رمل بالوسطى.