العرب اليهود : مال وتجارة في ايام العثمانيين

سبق ان تكلمنا في القسم الاول من مقالات العرب اليهود عن عائلتين يهوديتين ونستمكل البحث في هذا المقال الثالث المتعلق يهذه العائلات التي اشتهرت في مطلع العهود العثمانية واستمر نفوذها المالي وصولاً الى مطلع القرن العشرين .

1 – عائلة قباعي

إزدهرت تجارة عائلة قباعي في أواخر القرن الثامن عشر وبلغت الذروة في القرن التاسع عشر . يظهر اسم هذه العائلة في العراق وتركيا وبلدان اخرى . وكان احد أفرادها المدعو اسحق بن داوود بن جشوا قباعي مصرفياً معروفاً ورئيساً للطائفة اليهودية في بغداد بدءاً من سنة 1745 وحتى وفاته سنة 1773 . خلفه ابنه في رئاسة المصرف وحل محل والده في رئاسة الطائفة وساعده في ذلك شقيقه حزقايل الذي كان مصرفياً هو الآخر ومستشاراً مالياً لحاكم بغداد العثماني، وصولاً الى تبؤه منصب المستشار المالي للسلطان محمد الثاني .

أبعد سنة 1826 م وأعدم بعد ذلك بوقت قصير.

أسست عائلة قباعي فروعاً لمصرفها في الهند ومدينة شنغهاي الصينية .

2– عائلة ساسون

تعتبر هذه العائلة من أبرز العائلات اليهودية وأشهرها في عالمي المال والتجارة في العراق وخارجه. فقد تمكنت من السيطرة على الشبكات المالية والتجارية في الهند والشرق الاقصى في ايام الامبراطورية البريطانية. برز نفوذ آل ساسون في مدن عديدة في خلال الفترة الاخيرة من ايام الامبراطورية العثمانية كاسطنبول وازمير ودمشق وعكّا وتونس ومراكش .

أسس ساسون بن علاء امبراطورية ساسون المالية والتجارية. وكان في وقت من الاوقات وزير خزانة حاكم
بغداد في زمن العثمانيين. غير ان سوء تفاهم بينه وبين الحاكم داود باشا أرغم ساسون على الهرب الى مدينة بوشهر في الخليج حيث توفي بعد سنتين. خلفه ابنه ديفد ونقل نشاط العائلة الى الهند واتخذ من مدينة بومبي مركزاً رئيساً لاعماله . وشهدت هذه الفترة نمو النفوذ التجاري البريطاني وتحكمه بما سمي بالتجارة الشرقية التي ازدهرت بنوع خاص بعد افتتاح قناة السويس سنة 1869 م. وتذكر تقارير ومصادر متعددة ان أغلب التجارة البريطانية مع الشرق آنذاك وقعت في قبضة الوكلاء اليهود الذين لعبوا دور الوسيط بين الاقتصاديات المحلية والدولة البريطانية المستعمرة . وهذا ما حمى اليهود وأغناهم مالياً . وكان لعائلة ساسون حصة كبيرة من هذا الوضع والنشاط . فكانت لهم مساهمتهم في شراء بعض المواد الأولية وخاصة الافيون والأقمشة من اسواق الخليج العربي وبلاد فارس والهند وشحنها الى اوروبا غرباً والى الشرق الأقصى شرقاً .

أسهم ديفد ساسون واخوته وابناءهم، خاصة ابنه عبدالله البرت في اقامة المصانع في غربي الهند، وأهمها مصانع حياكة الحرير و
القطن وصباغته. ثم تشعب نشاطهم التجاري والصناعي ليشمل بيع المجوهرات والاحجار الكريمة والنبيلة، فضلاً عن الاتجار بالفضة والحديد ومعادن اخرى على نطاق كبير وواسع. وجنوا ثروة كبيرة جداً من بيع الافيون في أسواق الصين واليابان. كما تاجروا بالاسهم ووظفوا مبالغ كبيرة بالاسهم الاوروبية والاميركية وتقربوا من عائلات يهودية اوروبية ثرية وشاركوها في أعمالها، مثل عائلة روتشيلد وغانزبرغ وبالياكوف في موسكو (قبل الثورة الروسية) وكاموندو في اسطنبول وموربورغو في مدينة تريستا بايطاليا.

شهدت السنوات التي تلت الخمسينات من القرن التاسع عشر تسلط عائلة ساسون على تجارة
القطن في أسواق بريطانيا، بينما استثمر بعض أعضاء العائلة أموالهم في ملكية المصارف والعقارات. وفي خلال وقت قصير كان نشاط هذه العائلة يمتد من بومبي وكالكوتا وبونا في الهند ورانغون وسنغبوره وهونكونغ وشنغهاي باشراف ديفد ساسون الذي أنشأ لنفسه أعمالاً مستقلة حملت اسمه: أي.دي. ساسون . وكان ديفد قد ذهب الى الصين سنة 1857 م. وعاد الى الهند سنة 1875 ليتسلم رئاسة المؤسسة الأم المسماة ديفد ساسون وشركاه. وفي السنة التالية تزوج من فرحة (فلورا) ابنه حزقايل بن جشوا قباعي ابن عم العلامة التوراتي عبدالله سمخ .

هاجرت العائلة على مراحل الى انكلترا حيث استقبلتهم المجتمعات المخملية بالترحاب وتزوج بعض اعضاء العائلة من فتيات يهودية والبعض الآخر من غير اليهود. وترافقت هذه الاحداث العائلية مع تقلص نشاط عائلة ساسون في آسيا وزال وجودها من الهند بعد الاستقلال.

شهد النصف الاول من القرن التاسع عشر افتتاح فروع تجارية لعائلات يهودية بغدادية في خارج البلاد. ومن هؤلاء عائلات: حزقايل بن علي قباعي وفروع من عائلتي سياك وسمخ وعزرا ويهودا التي إستقرت في بومبي وكلكوتا . ووصلت اعداد اليهود العراقيين الذين هاجروا الى الهند الى بعض دزينات، انهى قسم منهم كل اعماله في
العراق بينما حافظ البعض الآخر على مواقع تجارية محدودة في بغداد. ومن بين المهاجرين البارزين سيلاس حردون و"سير" ايلي سيلاس خدوري الذي هاجر الى هونغ كونغ وأنشأ هناك امبراطورية تجارية بالشراكة مع أخيه السير أليس .

ذكر بعض المؤرخين الذين اهتموا بدراسة تاريخ اليهود من أصل عراقي ان عائلة ساسون وبعض العائلات اليهودية القليلة المهاجرة لم يظهروا الا القليل من التعاطف مع الحركة الصهيونية.

3 - عائلة صفرا

انتمت عائلة صفرا الى اليهود الشرقيين. أنشأوا شبكة مصارف عالمية . تأسس اول مصرف لهم في مدينة حلب بسوريا وحمل اسم "الأخوة صفرا" بالفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر. تعامل المصرف بالعملة المختلفة والذهب ومول تجارة القوافل البرية داخل الامبراطورية العثمانية. وبعد سقوط هذه الامبراطورية انتقل يعقوب صفرا (1891 – 1963) الى بيروت حيث اسس مصرفاً جديداً حمل الاسم نفسه. وكانت الاجواء الاقتصادية ملائمة جداً آنذاك لقيام مصرف في بيروت. غير ان هذا الوضع تبدل بعد قيام دولة اسرائيل فقرر يعقوب صفرا سنة 1953 الانتقال بعائلته الى سان بولو في البرازيل واغلاق مصرفه في بيروت. وفي المدينة البرازيلية تابع اولاده ادمون وموييز وجوزف نشاطهم المصرفي وجمعوا ثروة كبيرة. وفي سنة 1956 أسس ادمون صفرا مصرفه المستقل في جنيف بسويسرا. وفي سنة 1966 أسس مصرفاً آخر في نيويورك والذي أصبح بعد سنين قليلة واحداً من أنشط وأربح مصارف الولايات المتحدة .

إعتمد الاخوان صفرا موييز وجوزف سياسة مصرفية محافظة، وهي السياسة التي ورثاها عن والدهم. ومن عناصر واسس هذه السياسة انتقاء أفضل العملاء والزبائن والتركيز على تمويل التجارة الكبيرة الحجم والاتجار بالذهب والعملات الاجنبية. وهذه كلها نشاطات اعتادت عائلة صفرا الالتزام بها.

قدمت العائلة مساعدات كثيرة ومهمة للطائفة اليهودية في نيويورك وفي خارجها ، فبنت او أعادة بناء المدارس ودور العبادة اليهودية في العالم .

4 – عائلة زلخة

زلخة عائلة عراقية الأصل . أنشأت هناك في القرن التاسع عشر مشاريع تجارية توسعت مع الوقت لتصل الى اوروبا والولايات المتحدة وبعض البلدان الاسيوية. أسس خدوري زلخة في القرن العشرين مصرف زلخة في بغداد. وخدوري هذا كان الولد الوحيد لتاجر الاقمشة عبودي زلخة. أقام لفترة قصيرة جداً في تركيا حيث تعلم الاصول المصرفية على يد خاله المصرفي يوسف شاشا . ولدى عودته الى بغداد امتهن مهنة الصيرفة وبدأ في الوقت نفسه يستعد لاقامة مصرف بعد ان زاول لمدة غير قصيرة مهنة المرابي .

أنتقل خدوري زلخة الى
بيروت سنة 1928 تاركاً مصرفه العراقي في ايدي أقارب له. وبعد سنين قليلة أصبح بنك زلخة البيروتي من أكبر بنوك الشرق الاوسط الخاصة وامتدت فروعه الى القاهرة والإسكندرية ودمشق. ووضع خدوري ادارة كل فرع من هذه الفروع في يد واحد من اولاده الاربعة .

ظل مصرف زلخة في
بغداد لسنوات عديدة يدير التحويلات الحكومية العراقية، بما في ذلك تسديد مساهمة العراق المالية في جامعة الدول العربية. غير ان الاربعينات من القرن العشرين شهدت تحولاً في سياسة الحكومة العراقية وانهت علاقتها المالية بمصرف زلخة بعد تأسيس البنك المركزي الحكومي. وشهدت أواسط القرن العشرين اغلاق كل فروع بنك زلخة او تأميمها ومصادرة موجوداتها في العراق سنة 1952 ، وفي سوريا سنة 1954 ، وفي مصر سنة 1956، وفي لبنان سنة 1957 .

أيقن خدوري زلخة في منتصف الاربعينات من القرن العشرين ان رياح التغيير السياسي في المنطقة سيلحق الضرر الكبير بمؤسساته فانتقل الى نيويورك سنة 1941 حيث أسس مصرفاً شملت نشاطاته مناطق عديدة من اوروبا واميركا الجنوبية والشرق الاقصى . أما أولاده فانتقلوا على الشكل التالي: عبد الله ذهب من بغداد الى سويسرا ، وموريس انتقل من مصر الى باريس ، وعزرا راح الى نيويورك ، وسليم استقر في لندن .

5 – عائلة بشيوتو

تعود جذور هذه العائلة اليهودية الى حلب في سوريا حيث مارس ابناؤها التجارة. بدأ نشاط العائلة هناك سنة 1730 م. عندما أتى هلال بشيوتو وأخوه الأصغر دانيل من ليفورنو بايطاليا واستقرا في المدينة السورية الشمالية. وكانت قد سبقتهم للاستقرارهناك عائلات ايطالية تتعاطى التجارة قادمة من مدينتي البندقية ( فنيس) وليفورنو. وحافظ كل هؤلاء اليهود من اصل ايطالي على هوياتهم الاجنبية وأطلق عليهم السوريون المحليون لقب "فرانكو" .

أنشأت العائلة بعد استقرارها في حلب شبكة من البيوتات التجارية امتدت حتى شملت العديد من مناطق الشرق الاوسط. وعندما ازدهرت التجارة الاوروبية في القرن التاسع عشر كانت عائلة بشيوتو قد رسخت أقدامها في المنطقة وحظيت بأكبر نصيب من التجارة الاوروبية مع سوريا والمنطقة ككل. واعتمدت العائلة في تعاملها مع زبائنها سياسة الاقراض الميسر بحيث سمحت للشارين ان يسددوا اثمان ما يشترونه بعد وقت محدد. وبينما كان بعض اعضاء هذه العائلة يثبت جذوره في حلب حافظ الابناء على هويتهم الاوروبية وعلاقاتهم التجارية والاجتماعية بالبلدان المختلفة هناك .

إعتمدت دول أوروبية عديدة ابناء عائلة بشيوتو لتمثيلها على الصعيد القنصلي . وفي خلال 111 سنة عمل احد عشر فرداً من هذه العائلة في السلك القنصلي الشرفي لحوالى اربع عشرة دولة اوروبية . وكان مقر عملهم القنصلي الاساسي في
حلب، لكنه تمدد مع الوقت ليشمل بيروت وطرابلس والاسكندرون وعنتاب وإنطاكية . ورغم ان العديد من الدول الاوروبية اعتمدت يهوداً لتمثيلها القنصلي في مناطق الشرق الاوسط والادنى فلا احد وصل الى ما وصلت اليه هذه العائلة على هذا الصعيد. ولم تتوقف الدول الاوروبية عن تعيين اليهود المحليين في هذه المناصب الا بعد حادث جرى في دمشق سنة 1840 كان بطله اسحق بشيوتو الذي إتهم بقتل كاهن سرديني ومساعده .

أسهم نشاط العائلة القنصلي في تعزيز قدرات ابنائها التجارية وفي توسيع حلقة اتصالاتهم. غير ان ازدياد اهتمام اوروبا بالاسواق السورية أصاب العائلة ببعض الارتجاجات وعلت نبرة الاتهامات على ألسنة قناصل آخرين الموجهة الى ابناء بشيوتو لاستعمالهم الطرق الملتوية في علاقاتهم مع المسؤولين الاتراك آنذاك .

استفادت العائلات اليهودية في حلب كثيراً من وجود بشيوتو في حقلي التجارة والتمثيل القنصلي. وحصل العديد من التجار اليهود في المدينة على تسهيلات مالية وحماية لم تتوفر لأي سوري او غير سوري. واستفاد يهود حلب على الصعيد التعليمي في القرن التاسع عشر من المساعدات التي قدمها لهم البشيوتونيون، حتى ان المؤسسة التعليمية اليهودية الفرنسية الأليونس وافقت سنة 1869 م على فتح فرع لها لتعليم الصبية في حلب واتبعته في وقت غير طويل بافتتاح فرع لتعليم البنات.

بدأ نفوذ عائلة بشيوتو يضعف بعد افتتاح قناة السويس وما تركته من تأثير سلبي مباشر على مركز حلب التجاري كمحطة مهمة على الطريق التجاري البري الذي وصل التجارة الاوروبية بالبلدان المشرقية القريبة والبعيدة ، فبدأ افراد العائلة بالهجرة من المدينة السورية منتقلين وناقلين اعمالهم معهم الى أماكن أكثر ربحاً. ومن أوائل هؤلاء المهاجر موسى بشيوتو الذي استقر في لندن في الاربعينات من القرن التاسع عشر . وانتقل عدد من العائلة الى مصر ، برز منهم جوزف بشيوتو كرجل اعمال كبير ورئيس للجالية اليهودية هناك . وما ان طلع القرن العشرين حتى بدأت هجرة يهودية كبيرة من حلب وسواها من المدن السورية باتجاه اوروبا والولايات المنحدة واميركا الاتينية . اما الذين اختاروا البقاء في حلب فاجبرتهم حرب الحلفاء على الامبراطزرية العثمانية الى الهجرة . وبحلول منتصف القرن العشرين كانت المدينة قد خلت من اليهود .

6 – عائلة عطية

يعود اسم هذه العائلة الى الاسم العربي الذي حملته مدينة اسبانية او الى أصل الكلمة بالعربية. عاشت هذه العائلة في حلب وكان نشاطها في الحقل العلمي أوسع منه من الحقل التجاري .

7 – عائلة الباز

يعود أصل هذه العائلة اليهودية المغربية الى اسبانيا . كان نشاطها في حقلي التجارة والمال غير ذي أهمية كبيرة مقارنة مع نشاطها في حقلي العلم والدين .

المراجع
1 - Marcus , Abraham : The Middle East on the Eve of Modernity : Aleppo in the Eighteenth Century , Colombia Univ . 1989
2 - برجاوي ، سعيد احمد : الامبراطورية العثمانية ، الاهلية للنشر والتوزيع ، بيروت 1993 .
3 – عيسوي ، شارل : التاريخ الاقتصادي للشرق الاوسط ، دار الحداثة ، بيروت 1985 .
4 – Encyclopedia of Jews in the Islamic World .  

 



بغداد
عكا