الدين والتجارة

إنغمس الامراء والعمال والولاة بالتجارة. وكان الرسول قد نبه من الضرر الذي يخلفه هذا الانغماس والاندفاع على مصلحة "الامة " ودعا الى عدم جواز ممارسة الامراء والعمال التجارة اثناء عملهم ولايتهم وقلل من شأن التجارة . ويروى عنه قوله: "اذا اتجر الراعي هلكت الرعية". وبدورهم نهى علماء "الامة" عن ممارسة الامراء التجارة. فقال ابن حكم ما نصه: "ونرى ان لا يتجر امام، ولا يحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فان الامير متى يتجر يسنأثر ويصيب اموراً فيها عنت وإن حرص على ان لا يفعل.

لم يمنع نهي العلماء والولاة من مساعدة زملائهم التجار في الامور المالية والتجارية. فقد عهد زياد بن ابيه الى صديقه التاجر ابو وائل مسؤولية بيت المال في البصرة واستخدم ابنه على سوق البصرة كذلك. واستخدم مسؤولون عن بيت المال مناصبهم في اعطاء قروض من بيت المال لاقاربهم التجار. فقد ذكر ان نفيع بن الحارث، والي بيت مال البصرة في ايام
عمر بن الخطاب قدم لاخيه ابي بكرة قروضاً من بيت المال ليتجر بها.

لعب الموالي دوراً نشطاً في التجارة الخارجية. وكان معظمهم من أغنى أهل الأمصار، وأخذوا يشكلون، خاصة في العهد الاموي، طبقة مميزة داخل المجتمع العربي المسلم، حتى ان الجاحظ قال فيهم:

تأملت أسواق العراق فلم أجد           دكاكينها الا عليها المواليا

كان للعبيد دورهم في التجارة وأطلق عليهم اسم "العبد المجيز". وكان هنالك من يحث على شراء العبيد حتى قيل: "اشتروا العبيد فان ربَ عبد قسم له من الرزق ما لم يقسم لسيده (كما ذكر ابن سعد). وذكرت مصادر تاريخية عديدة ان التجار والعامة حرصوا على استخدام العبيد والغلمان لتشغيل أموالهم. فقد كان للعباس بن عبد المطلب عشرون عبداً يعملون في التجارة. وكان عند عثمان بن ابي العاص غلماناً يتاجرون له بالخمر المحرم شرعاً.

تنبه
عمر بن الخطاب من جانبه الى خطورة اندفاع عماله الى التجارة فكتب منشوراً جاء فيه: "ان تجارة الامير في امارته خسارة". وكتب الى شريح بن الحارث عندما استقصاه على الكوفة يقول: "لا تشتر ولا تبع".

كذلك حاسب عمر بن الخطاب عماله الذين نموا أموالهم عن طريق استغلال وظائفهم وممارستهم للتجارة. وكان من بين هؤلاء العمال واليه على مصر
عمرو بن العاص. وعندما سأل عمر عن مصدر أموال عامله على الطائف عتبة بن ابي سفيان فقال هذا الاخير: "خرجت به معي وتجرت فيه". فقام عمر بن الخطاب بمصادرة اموال عتبة. وفي زمن لاحق عرض عثمان بن عفان على ابي سفيان رد أموال عتبة المصادرة.

وجاء في احد المصادر ان عمر بن الخطاب كتب الى عمرو بن العاص انه " قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وخيل وابل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي قبل ذلك انه لا مال لك ولم يكن ذلك في رزقك، فاكتب لي من اين لك هذا المال؟". فرد عمرو: "فاما ما يظهر لي من مال، فانا قد قدمنا بلاداً رخيصة الاسعار، وأرضنا ارض مزدرع ومتجر وكثيرة الغزو، واني اعالج من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله، وليس في رزق الامير سعة " . فأجابه عمر بن الخطاب : " انتم يا معشر الامراء قعدتم على عيون الاموال ث ثم لم يعوزكم عذراً، تجمعون لابنائكم وتمهدون لانفسكم... وقد وجهت اليك محمد بن سلمة ليقاسمك" ( ابن عبد الحكم: فتوح مصر؛ البلاذري: فتوح).

في زمن بني امية كوَن عمالهم ثروات طائلة من خلال التجارة اثناء ولايتهم. فمحمد بن يوسف الثقفي، عامل
الوليد بن عبد الملك على اليمن، جمع ثروة تزيد عن مئة وخمسين الف دينار، فكتب الحجاج الى الوليد بذلك لمحاسبته، لكن الوليد أجاب: "انما أصاب المال من تجارة أحللناها له".

مارس الخلفاء الأوائل التجارة، وهو ما يتناقض مع الاحاديث وموقف
عمر بن الخطاب. فهل الاحاديث والمواقف تمثل وجهت نظر بعض العلماء الذين أفتوا ضد ممارسة الخلفاء والعمال للتجارة؟. ربما أجاز بعض الصحابة والخلفاء وولاتهم ورجال اداراتهم العمل في التجارة بسبب حاجتهم للمال لتثبيت سلطتهم وسياستهم. كذلك استخدم الخلفاء والقادة العبيد المجيزين ليقوموا مقامهم في اعمالهم التجارية. فيذكر ان ابا بكر الصديق كان له غلام يعمل له في تجارة القماش اثناء خلافته. وكان لأبي موسى الأشعري، اثناء ولايته على الكوفة، غلام يبيع له العلف مما دعا أهله الى شكواه لعمر بن الخطاب بسبب ذلك. وقيل ان عمر بن عبد العزيز كان له غلام يعمل له على بغل. ومثلهم فعلت النساء التاجرات اللواتي لجأن الى العبيد او الموالي لادارة اعمالهن التجارية في مجتمع تسوده المفاهيم الاسلامية والنظرة التقليدية للمرأة.

قدمت الدولة الاسلامية في عهد الراشدين الكثير من التسهيلات للعبيد العاملين في حقل التجارة لحساب أسيادهم. فقد أقر كل من عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وسعيد بن مسبب ان العبد أعفي من دفع العشر سواء كان يتاجر بماله او بمال سيده. وهذا ما ساعد في اقتناء المسلمين الاوائل للعبيد او استخدامهم للتجارة لهم، وبالتالي في رفع مستوى العبيد اقتصادياً واجتماعياً فنشأت طبقة تجار من "العبيد المكاتبين" الذين حرروا أنفسهم عن طريق عقد المكاتبة بحيث يؤدون مبلغاً من المال لاسيادهم من خلال عملهم بالتجارة. وكان للدولة ورجال دينها تعاطفاً مع الموالي التجار، فقدمت لهم الدولة تسهيلات جمركية. ويذكر في هذا الشأن ان مكاتبة تدعى أم قيس قد قالت: مررت على مسروق بالسلسلة (قرب الكوفة) ومعي ستون ثوراً تحمل الجبن والجوز، فقال المسؤول: ما أنت؟ قلت مكاتبة، قال خلوا سبيلها، ليس على مكاتب او مملوك زكاة.

قامت علاقات جيدة بين التجار والفقهاء. ويذكر ابن الجوزي في كتابه "
المنتظم" ان احد القراء الفقراء التجأ الى سعيد بن العاص فوصله بمال جزيل. ويروى ان عبد الله بن جعفر اشترى جارية لفقيه في الحجاز وأهداها له. واشترى ابو حنيفة النعمان الامتعة ليصرف من ثمنها على الفقهاء والشيوخ. وكان التجار يتدخلون لحل النزاعات التي كانت تحصل بين العلماء. كذلك ظهر في دولة الخلافة تجار فقهاء رووا كثيراً من الاحاديث، خاصة تلك المتعلقة بالبيع والشراء. ومن أشهرهم: عبد الله بن عمر وعبيد الله بن العباس وحكم بن حزام الذين رووا أحاديث الزكاة والمكوس والبيع والصرف. واشتهر الصحابي البراء بن عازب والصحابي زيد بن الارقم ومحمد بن سرين برواية أحاديث الصرف والافتاء بها. ويرجع الى قيس بن ابي غرزة الكتاني وسمرة بن جندب الغزاري ورباح بن عبيدة رواية الاحاديث المتعلقة بزكاة التجارة. وقيل ان معمر ابن عبد الله بن نافع وسعيد بن المسيب، وهما أفقه أهل الحجاز، كانا يحتكران الاحاديث ويرويانها حول المواد المسموح باحتكارها.

إشتغل بالتجارة أشخاص عدوا من رواة الاحاديث وثقاتها مثل ابو هريرة وحذيفة بن اليمان وعمر بن حريث بن عمر وميمون بن شبيب الربعي وحسان بن سنان البصري والقاسم بن مخيمرة الهمذاني وحمزة بن حبيب بن عماره وابو حنيفة النعمان بن ثابت وابراهيم بن أدهم بن منصور البلخي وذكوان بن عبد الله الزيات وحماد بن سلمة بن دينار وعاصم بن سليمان الأحول وسفيان بن سعيد الثوري وعبد الله بن المبارك . وكان هؤلاء التجار أقرب الى الواقع بفتاويهم من العلماء غير التجار . فقد قال إياس بن معاوية : " التاجر الفقيه أفقه من الفقيه الذي لا يتاجر" .

نشأ خلاف نظري بين التجار العلماء وبين العلماء غير التجار حول العمل بالتجارة والنظرة الى المال . فقد روى التجار العلماء أحاديث تشجع على الكسب، ومنها: "الاسواق موائد الله في الأرض فمن أتاها أصاب فيها " وايضاً" ما أكل احد طعاماً قط خير من ان يأكل من عمل يده" وايضاً: "من قتل دون ماله فهو شهيد" وهو حديث رواه كبار التجار من أمثال عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن كريز و
طلحت بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو . ونقل عن سفيان الثوري الذي عاش في ايام الدولة الاموية ولقب بامير المؤمنين في الحديث : " ان المال ترس المؤمن" . وادعى ان الكسب أفضل من صلاة الجماعة مع الفقر. وفي المقلب الآخر وقف العلماء غير التجار موقفاً مخالفاً. فقد قال أحدهم: " السوق مكثرة للمال مذهبة للدين (الاصبهاني). واحتقر الكثيرون منهم التجارة ودعوا الى الزهد اعتماداً الى احاديث روية عن الرسول، ومنها: "ان الشياطين تغدوا براياتها الى الاسواق فيدخلون مع اول داخل ويخرجون مع آخر خارج". وحديث آخر: "من غدا الى صلاة الصبح أعطي ربع الايمان، ومن غدا الى السوق أعطي راية إبليس". وحديث آخر جاء فيه: "بعثت مرغمة ومرحمة ولم ابعث تاجراً ولا زراعاً وان شر هذه الامة التجار والزراعون إلا من شح دينه". وحديث " لايدخل الجنة الا من قال بالمال هكذا وهكذا يمنة ويسرة (الاصبهاني) .

يروى ان مشادة وقعت بين
معاوية بن أبي سفيان ، والي الشام لعمر بن الخطاب، وبين عبادة بن الصامت الذي عاب على معاوية بيع اناء فضة بأكثر من الوزن وروى بعضاً من احاديث تدعم موقفه، فارسل اليه معاوية وشكك باحاديثه قائلاً: "ما بال اقوام يحدثون عن الرسول عليه السلام أحاديث، قد صحبناه ورأيناه فما سمعنا منه".

حاول بعض العلماء استقطاب التجار لدعوتهم. فقد كان ابو ذر الغفاري يروي للتجار في اسواق الشام أحاديث تخوفهم من كنز المال ومن الحساب في الآخرة وتنتقد سياسة معاوية المالية. فأرسل هذا الاخير للخليفة عثمان بن عفان ليستقدمه. وعاب احد العلماء عمل سفيان بن عيينه في السوق لقوله: "ما كنت احب ابداً ان القاك في هذا الوقع".

ذكر ان بعض التجار تأثر باحاديث العلماء التي تنهي عن العمل بالتجارة فتركوها وتزهدوا. ومن هؤلاء ابو الدرداء الذي قال: "زاولت التجارة والعبادة فلم تجتمعا فاخترت العبادة وتركت التجارة". ومثله فعل شقيق بن ابراهيم البلخي الذي تزهد وتصدق بكل ماله، وابو معن البصري وحبيب بن محمد ابو احمد العجمي.

تولى الرسول مع بداية الدعوة الفصل في النزعات التجارية، خاصة بعد هجرته الى
المدينة. وتورد بعض المصادر (ابن حجر في كتابه الاصابة) أمثلة حول قضايا احيلت الى الرسول للحكم فيها من قبل المسلمين واليهود والنصاري باعتبار انها وقعت ضمن محيط الدولة الاسلامية ومع المسلمين. وبعد الفتح أحيلت أكثر القضايا المتعلقة بالتجارة الى القضاة المنتشرين في الاقطار الاسلامية. وقد دار أغلبها حول الافلاس والمضاربة والغش والمماطلة بالدفع. وكان بامكان أي طرف غير مقتنع بحكم القاضي ان يرفع قضيته وشكواه الى الوالي. واذا ما وقع خلاف بين القاضي والوالي بشأن أمور البيع، فكان الأمر يرفع الى الخليفة. وهذا ما فعله قاضي فلسطين عبادة بن الصامت عندما شكا الى الخليفة عمر بن الخطاب بيع والي الشام معاوية بن ابي سفيان آنية فضية بأكثر من وزنها. وتورد المصادر حادثة مشابهة حول خلاف حصل بين معاوية وابي الدرداء، قاضي دمشق، حول البيع (ابن عساكر ومالك).

كان الخليفة يتولى بصورة مباشرة بعض قضايا البيع والشراء عندما ترفع اليه. وكان ينظر فيها بنفسه، كقضية بيع عبد أحيلت الى
عمر بن عبد العزيز وقضية بيع سبي رفعها ذميون لهشام بن عبد الملك. وكان الخليفة يحيل بعض هذه القضايا الى تاجر يثق فيه ليقضي بها حسب علمه. وهذا ما فعله عمر ابن الخطاب عندما طلب منه طلحة بن عبيد الله النظر في قضية تاجرين ماطلا في تسديد ثمن سبي للدولة. كما أحيلت بعض القضايا التي كان يرفعها العامة الى العلماء للقيام باعطاء رأيهم فيها ولمساعدتهم في حلها. وكانت الدولة تتدخل في بعض هذه القضايا المحالة اليها، مثل قضايا الافلاس او المماطلة في سداد دين مستحق او في حالة حصول القتل بين الاطراف. كذلك تتحدث بعض المصادر القديمة عن تدخل التجار لمساعدة الناس في حل ما يعترضهم من مشاكل من دون الرجوع الى الدولة او القضاة الشرعيين. ويذكر انه لما كسد تاجر سكر بالمدينة تجارته دله الناس على تاجر اسمه عبد الله بن جعفر الذي قام بشراء السكر ووهبه الى الناس. وعندما لجأ أحد الصيارفة الى عبيد الله بن عباس ليكفله عند غرمائه ويضمنه، قام بتسديد ديونه عنه. وهناك أمثلة كثيرة مماثلة منها ان رجلاً شكا الى التاجر الحسن بن عمارة مماطلة صديق للحسن بتسديد مبلغ من المال مستحق، فقام الحسن بتسديده.

المراجع
1- الاصبهاني ، احمد : حلية الأولياء وطبقة الاصفياء ، دار الكتاب العربي ، القاهرة ، 1967 .
2- ابن عبد الحكم ، عبد الله : سيرة عمر بن عبد العزيز ، مكتبة وهبة ، القاهرة ، 1954 .
3- ابن سعد ، محمد : الطبقات الكبرى ، دار بيروت ، بيروت 1960 .
4- ابن عساكر ، علي بن الحسن بن هبة الله : تاريخ مدينة دمشق ، دار الفكر ، بيروت ، 1995 – 1996 .
5- ابن قيم الجوزية ، محمد : احكام اهل الذمة ، تحقيق صبحي الصالح ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1981
6- ابن الجوزي ، جمال الدين : صفة الصفوة ، دار المعرفة ، بيروت 1986 .
7- الذهبي ، محمد : سير اعلام النبلاء ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1990 .
8- الطبري ، محمد بن جرير : تاريخ الرسل والانبياء والملوك ، دار المعارف ، القاهرة 1960 .

 



الكوفة