ماهية التأميم

المحامي عبد المحسن ابو ميزر

نشر المقال في تشرين الاول / اكتوبر 1961 ، العدد الثاني عشر ، الرائد العربي  

بمناسبة عمليات التأميم الواسعة التي قام بها المسؤولون في الجمهورية العربية المتحدة مؤخراً ، أخذ موضوع التأميم يتردد على كل لسان في مختلف الاقطار العربية ، ويتناوله الكتاب في العديد من الابحاث والمقالات ، ويثير الكثير من المناقشات بين خصوم التأميم وأنصاره . ولما كانت اجراءات التأميم قد بدأت تحتل مكانة بارزة في حياة العرب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحاضرة ، فقد باتت معالجة الموضوع من الواجبات الملحة التي تفرضها المصلحة القومية والقيادة الواقعية الواعية . 

ومجلة الرائد العربي ، إسهاماً منها بواجبها تجاه هذا الموضوع الحيوي ، تقدم لقرائها سلسلة من المعالجات المتعلقة بالتأميم . وفيما يلي اولى هذه المعالجات ، وهي تتناول ماهية التأميم . 

معنى التأميم

التأميم : " لفظة مشتقة من كلمة امة ، وهي تعني عملية نقل الملكية والادارة المتعلقة ببعض او كل وسائل الانتاج الى ملكية وادارة الامة بمجموعها . وهي تستعمل عادة للاشارة الى الملكية العامة كمفهوم معاكس للتملك الفردي " . أي ان المصنع او المنجم الذي يجري تأميمه لا يعود ملكاً لفرد او جماعة من الافراد ، بل يصبح ملكاً للمجتمع بأسره وخاضعاً لادارته من خلال سلطته المركزية (الدولة ) او السلطات المحلية ( البلديات والمجالس المحلية والتعاونيات ) . 

بين التأميم والاشتراكية والتوجيه

كثيراً ما تقترن كلمة " تأميم " بلفظة " الاشتراكية " ولفظة " التوجيه الاقتصادي " . كما ان التوجيه الاقتصادي لا يعني الاشتراكية او التأميم . فلكل من هذه الالفاظ مدلولها الخاص (1) . 

يعتبر التأميم ، بمفهومه العلمي ، من المشاكل الاقتصادية المهمة التي أثارت ، وما زالت تثير ، الكثير من القضايا والمنازعات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية . ولا غرابة في ذلك . فقد تنازعته آراء المفكرين الاقتصاديين في جميع المذاهب الاقتصادية .  

فالمذهب الرأسمالي لا يقر التأميم أصلاً ، ويعارض كل تدخل في الانتاج من جانب الدولة ، ويعتبر الملكية الخاصة حقاً للفرد لا يجوز مسه . ويهاجم أنصار الرأسمالية عمليات التأميم ويطعنون بفوائدها . والمذاهب الاشتراكية ، بالرغم من اختلافها على مدى ما يجب ان يؤمم من وسائل الانتاج ، تقر بضرورة التأميم كوسيلة من وسائل توجيه النشاط الاقتصادي ، وخطوة ضرورية لتطبيق الاشتراكية في المجتمع . أما بالنسبة لمذهب التوجيه الاقتصادي ، فهناك رأيان في التأميم : أحدهما ينادي بتدخل الدولة في التوجيه ويعارض الغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج . وانصار هذا الرأي يعارضون التأميم . وثانيهما ينادي بتدخل الدولة  في التوجيه الاقتصادي وتأميم وسائل الانتاج الاساسية والمؤسسات المالية . ويؤكد أنصار هذا الرأي ضرورة التأميم حتى يحقق التوجيه الاقتصادي الغرض منه . وهؤلاء لا ينادون بالتأميم لتحقيق الاشتراكية في المجتمع ، وانما لتحقيق توجيه فعلي للنشاط الاقتصادي في المجتمع (2) . 

لم يقتصر الخلاف على مبدأ الاخذ بالتأميم او عدم الاخذ به ، وانما ثارت منازعات بين المفكرين الاشتراكيين حول مفهوم ملكية وادارة الامة او المجتمع لوسائل الانتاج المؤممة . فقد رأى فريق من المفكرين ان الدولة هي الممثلة للمجتمع والنائبة عن الامة في تمثيل مصالحها ، والوكيلة عنها في التملك والادارة . لذلك ، فانهم يعتبرون تملك الدولة وادارتها لوسائل الانتاج ، هو المقصود بملكية المجتمع لوسائل الانتاج المؤممة . ويرى فريق آخر من المفكرين ان الدولة ، عندما تقوم بتملك وسائل الانتاج في المجتمع ، لا تكون قد قامت بالشكل الاوحد والافضل للتأميم ، وانما تكون قد قامت فقط بالشكل الاولي للتأميم وتمارسه ما دامت الدولة قائمة . إن هذا الفريق لا يؤمن ببقاء الدولة الى الابد ويتنبأ بزوالها في المستقبل . ويقول هؤلاء المفكرون ان مصير الدولة الى زوال حتمي ، وان المحتمع هو الذي يبقى ولا يزول . لذلك ، فان الدولة لا ولن تكون وريث الملكية ، بل المجتمع نفسه ممثلاً بهيئة اقتصادية عليا .

يرى فريق ثالث ان عمليات التأميم التي تقوم بها الدولة لا تحول الملكية الفردية الى ملكية اجتماعية إلا اذا كانت العلاقات بين المنتجين في المجتمع قائمة على أسس ديموقراطية سليمة ، ينعدم معها كل نوع من انواع الاستغلال والتسلط الطبقي والبيروقراطي . ويرى هذا الفريق ، وهو على حق فيما يرى ، ان عملية تملك الدولة لوسائل الانتاج ، مع بقاء العلاقات بين المنتجين قائمة على أساس من الاستغلال او التسلط البيروقراطي ، لا يؤدي الى تحويل ملكية وسائل الانتاج الى ملكية اجتماعية بمعناها الكامل الصحيح (3) . 

التأميم بين المصادرة والتعويض

رب سائل يسأل : ما دام ان التأميم عملية لا تقع إلا على وسائل الانتاج التي تكون مملوكة من قبل افراد او مجموعة من الافراد ، فهل تعني العملية تملك الدولة لهذه الوسائل الانتاجية ، أي ان تصادر الدولة المشاريع المؤممة ، ام انه يتوجب عليها ، اي الدولة ، ان تدفع تعويضاً  للمالكين السابقين ؟. إن عمليات التأميم ، حتى الاشتراكية منها ، لا تنفي مبدأ التعويض ، كما دلت على ذلك التجارب المختلفة . غير ان ذلك لا يعني ان كل عمليات التأميم التي اجريت في العالم حتى الآن قد قامت فيها الدولة بدفع تعويضات لمالكي المشاريع الانتاجية المؤممة . فالتجربة الاشتراكية في روسيا ، مثلاً ، أخذت بما كان يطالب به كارل ماركس وأجرت الدولة عمليات التأميم من دون ان تدفع تعويضات . وبالمقابل قامت بعض الدول الاشتراكية في وسط اوروبا بدفع تعويضات عن بعض المشاريع المؤممة . وفي بريطانيا قامت حكومة حزب العمال البريطاني ، التي جاءت الى الحكم في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، بتأميم 20 بالمئة من الصناعات الانتاجية في البلاد ودفعت تعويضات لمالكي المشروعات الصناعية المؤممة . وفي الجمهورية العربية المتحدة ، قامت الدولة باجراء عمليات تأميم عديدة وأخذت بمبدأ التعويض على مالكي المؤسسات والمشروعات المؤممة . أما بالنسبة لباقي البلدان الآسيوية – الافريقية التي قامت فيها الدولة باجراء عمليات تأميم ، فقد رافق التعويض معظم هذه العمليات .

الحقيقة ، في رأينا ، ان مسألة التعويض لا يجوز النظر اليها بمعزل عن الاسباب والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية التي تحيط بعمليات التأميم وأصحاب المشروعات المؤممة . ومن الخطأ القول ان التأميم يوجب التعويض دائماً وفي جميع الحالات والظروف . كما انه ليس من الصواب او الحكمة في شيء القول بان التأميم يوجب المصادرة دائماً وفي جميع الحالات والظروف . فالأخذ بالاطلاق في الحالين قد يلحق بعض الاضرار الجسيمة بالمجتمع . والمعيار السليم لتقرير التويض او عدمه هو مصلحة المجتمع وسلامته .

قد يتناول التأميم كل وسائل الانتاج في المجتمع ، وقد يتناول بعضها فقط . وقد يرافق عمليات التأميم تغيير في العلاقات بين المنتجين ، وقد لا يرافق . لذلك ، فان النتائج التي تترتب على التأميم تتوقف عادة على الاسباب التي تدفع الدولة الى اجراء التأميم ، وعلى انواع المشروعات الانتاجية المؤممة واعدادها ، وعلى المفاهيم التي تقوم عليه الدولة التي هي أداة التأميم الفعلي .

_______________________________________________ 

( 1 ) إن الاشتراكية ، اذا جاز تحديدها بتعريف ، هي نظام اجتماعي يملك فيه الشعب وسائل الانتاج ويقوم هذا الشعب بتوزيع الانتاج توزيعاً عاماً على المجتمع الخالي من استغلال الانسان للانسان . اما التوجيه الاقتصادي ، فهو مذهب اقتصادي بحت يهدف الى تدخل الدولة في الانتاج وتوجيهه لمعالجة القضايا المتعلقة بالكفاية الانتاجية والازمات الاقتصادية والبطالة . وقد اختلف الاقتصاديون في تكييفه . فبينما اعتبره بعضهم احياء لمذهب التدخل الذي نادى به كتاب الاقتصاد في منتصف القرن التاسع عشر ، إعتبره البعض الآخر مذهباً اقتصادياً مستقلاً بذاته ويختلف تمام الاختلاف عن كل من المذهبين : الحر والاشتراكي .

( 2 ) التوجيه الاقتصادي لا يعني الاشتراكية . فالاشتراكية تقضي بالتوجيه الاقتصادي وبالغاء علاقات الانتاج الرأسمالية واحلال علاقات انتاج اشتراكية محلها ، بينما التوجيه الاقتصادي لا يقضي بتغيير علاقات الانتاج الرأسمالية حتى في المشروعات المؤممة.

( 3 ) الملكية الاجتماعية هي الملكية التي ليست ملكاً لأي فرد او جماعة من الافراد او مهنة من المهن ، وانما للمجتمع بأسره وتحت رقابته ( جورج بورجان وبيار رامبير ، الاشتراكية ) .