ينابيع الحمة المعدنية

تحقيق : الياس الفرزلي

نشر المقال في آب / أغسطس 1961 ، العدد العاشر ، الرائد العربي

تبرز حمامات الحمة في طليعة الأماكن السياحية في البلاد العربية . وهي تضاهي في أهميتها ابرز الاماكن المشابهة لها في العالم ، على الرغم من انها لم تصل حتى الآن الى المكانة التي يجب ان تحتلها لدى الجمهور، او الى بعض المكانة التي كانت لها ايام عهودها الذهبية في زمن الرومان .

لمحة تاريخية

الحمة قديمة الذكر في التاريخ . فقد جاءت نبذات متفرقة عنها في التوراة وذكرها العالم سترابو الذي عاش في القرن الاول قبل الميلاد . كما ذكرها الكثيرون من كتبة اليونان وتحدثوا عن منافع مياهها الشافية من الامراض .

إزدهرت منطقة الحمة في ايام الرومان ازدهاراً عظيماً وأقيمت فيها الانشاءات الفخمة التي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم ، وهي تدل على بقايا حمامات بالغة الأهمية ، فيها مقاعد حجرية سوداء يجلس عليها المستحمون ، والى الشرق منها ملعب فيه من أسفله الى أعلاه 15 مدرجاً من الكراسي على ثلثي دائرة تتسع لألفي متفرج .

حملت هذه الينابيع قبل القرن السادس ميلادي اسم " أماتا غادارا " ثم تبدل اسمها ليصبح ينابيع أليجا Elija . وعندما جاء العرب سموها بالحمة ، أي الماء الساخن . وقد تحدث عن الحمة كثير من مؤرخي العرب بينهم البشاري والكلبي والمقدسي وياقوت والدمشقي وغيرهم ممن أشادوا بفعالية مياهها في الشفاء من عدد من الامراض . ويروى ، من قبيل المبالغة ، عن تأثير مياه الحمة على بعض الامراض ، أن أرسططاليس سأل الملك أن يهدمها لئلا تستغني الناس عن الاطباء . وذكرها ابو القاسم المعروف عند العرب بأبي الطب حيث قال إن مياه الحمة خير دواء من الامراض .

موقعها

ينتهي نهر اليرموك في مجراه من الشرق الى الغرب الى فسحة منبسطة تبلغ مساحتها زهاء عشرة كيلومترات مربعة قبل ان تتصل بحفرة الغور بخمسة كيلومترات . في هذا السهل المنبسط  المحاط من جوانبه الاربعة بالهضاب العالية ، يلتصق اليرموك في مجراه بهضبة ام قيس تاركاً الى يمينه أرضاً فسيحة تقوم عليها الحمة وحماماتها الشهيرة . وهي تقع على إنخفاض 156 متراً تحت سطح البحر . وهي تبعد 135 كيلومتراً عن دمشق ، كما تقع على ابعاد شبه متساوية من العواصم العربية بيروت وعمان والقدس ودمشق. ويمكن الوصول الى الحمة بطريق دمشق بواسطة السيارات في طريق معبدة او بواسطة القطارات .

الينابيع المعدنية

في الحمة ثلاثة ينابيع حارة تعطي ما يقرب من 15 مليون ليتر من الماء المعدني الذي يحوي معدن الراديوم المشع . ويوجد الى جانب هذه الينابيع ، عند مدخل الحمة ، ينبوع ماء عذب سائغ للشرب يتدفق من سيع عيون ويتفرع الى سائر المنشآت .

الينابيع الحارة هي :

1 – النبع الذي يدعى بالمقلي ، مبالغة في سخونته ، ويقع الى جنوب المنطقة قريباً من مجرى نهر اليرموك وحرارته تتراوح بين 48 و 50 درجة سنتيغراد . و اصطلح ، نظراً لمعنى كلمة المقلى ، على تسمية النبع بنبع الشفاء تدليلاً على فائدته .

2 – يدعى النبع الثاني نبع " البلسم " ، وتبلغ حرارته 40 درجة سنتيغراد . كان اسمه في السابق " نبع الجرب " وجرى استبداله لأن الاسم السابق كان يمنع غير المرضى بداء الجرب من الاستحمام فيه ، في حين أنه يشفي عدداً من القروح والامراض الجلدية التي لا علاقة لها بالجرب . يقع هذا النبع الى الشمال الغربي من المنطقة .

3 – يسمى النبع الثالث " نبع الريح " لاعتقاد العامة انه يفيد بالتخلص من ما يسمى مرض الريح . وقد صار استبدال اسمه ، هو ايضاً ، بينبوع " النشاط " ، لأنه يشيع النشاط عند المستحم ويهدئ الاعصاب القلقة ويعيد اليها الراحة المفقودة . ولا تزيد حرارة هذا الينبوع على 36 درجة سنتيغراد ، وهي حرارة قريبة جداً من حرارة جسم الانسان .

ينبثق من نبع الماء العذب بجانب نبع البلسم فرع يسمى " عين بولس " . لا تزيد حرارة هذا النبع عن 22 درجة سنتيغراد ، وهو سائغ للشرب وفعال في الهضم نظراً لاحتوائه كمية من البيكاربونات تجعله قريباً من مياه فيشي المعدنية الفرنسية المشهورة . وليس فيه غاز ثنائي الكبريت الذي لا يصلح للشرب ، والذي يوجد بنسب مختلفة في الينابيع الثلاثة الاخرى . ويزيد في قيمة هذا النبع ما تحتويه ماؤه من كمية الراديوم الاشعاعية .

شركة ينابيع الحمة المعدنية

تستثمر مياه الحمة حالياً شركة مساهمة تدعى " شركة ينابيع الحمة المعدنية " . تأسست الشركة رسمياً عام 1936 بناء على امتياز من حكومة فلسطين ينتهي مفعوله سنة 2029 . ومجموع أسهم شركة الحمة مئتا الف سهم منها اربعة الآف سهم تأسيسي و 196 الف سهم ممتاز . والفرق بين الاسهم التأسيسية والممتازة أن للأولى أفضلية في التصويت وفي التمثيل في عضوية مجلس الادارة . فالاسهم التأسيسية ، وعددها اربعة الآف سهم فقط ممثلة في مجلس الادارة بثلاثة اعضاء من أصل سبعة . ويحتل ممثلو حملة الاسهم الممتازة المقاعد الاخرى في المجلس بنسبة مقعد واحد لكل ثلاثين الف سهم ممتاز . وكانت اسهم الشركة قد طرحت للاكتتاب بمبلغ جينه فلسطيني واحد للسهم يضاف اليه مبلغ نصف جينه احتاطي .

يبلغ عدد الاسهم المكتتبة حتى الآن 140 الف سهم من أصل 196 الفاً . لكن هذه النسبة تعدلت مؤخراً بعد ان قامت الشركة بتوزيع بعض الارباح على المساهمين أسهماً وليس نقداً . وبلغت حصة السهم الواحد من الارباح السنوية ، بحسب قانون الشركة ، 7 بالمئة .

تاريخ الشركة

يقسم تاريخ شركة ينابيع الحمة الى اربعة مراحل : مرحلة التأسيس والانشاء ، أي مرحلة ما قبل حوادث عام 1948 ( وقد أسسها المرحوم سليمان ناصيف ) ، فمرحلة الحرب الفلسطينية وما بعدها مباشرة ، ثم  مرحلة ادارة الشركة من قبل الخط الحديدي الحجازي ، وأخيراً المرحلة الحالية التي بدأت عام 1958 .

كان مركز الشركة في فلسطين حتى سنة 1948 . وهي لا تزال حتى اليوم شركة فلسطينية تابعة للقانون الفلسطيني في الاقليم السوري . وتنظر المحاكم السورية في النزاعات بموجب قانون فلسطين ، كما تفعل ذلك ايضاً محاكم نابلس في الضفة الغربية بالاردن . وأموال الشركة تتمتع بمعاملة تتناسب مع كونها " فلسطينية الجنسية " . وكانت الشركة قد وزعت عام 1948 ارباحها على المساهمين مرتين عن عامي 46 و 47 ثم توقف توزيع الارباح مدت ثلاث عشرة سنة حتى العام الحالي بسبب الحرب الفلسطينية وما تلاها من مضاعفات . وكانت قيمة السهم الواحد قد ارتفعت حتى سنة 1948 الى جينهين اثنين ، جينه واحد منهما سعر السهم الاساسي والجنيه الآخر للاحتياط .

تعتبر السنوات التي تلت سنة 1948 حتى سنة 1952 سنوات غير مؤاتية بالنسبة للشركة بسبب الحرب الفلسطينية وتجنب الزوار والمرضى ارتياد المكان .

في سنة 1952 تولى الخط الحديدي الحجازي ادارة الشركة بعد ان اشترى 2400 سهم تأسيسي من أصل اربعة الآف سهم ، كما اشترى 12 الف سهم ممتاز . ودامت ادارته للشركة حتى سنة 1958 . وفي عام 1960 انعقدت الجمعية العمومية لأول مرة منذ سنة 1960 وجرت انتخابات لمجلس ادارة جديد ، الذي قرر السير في سياسة انشائية بنائية بحيث تصبح الحمة منتجعاً سياحياً راقياً . وتنوي الشركة انشاء برك جديدة مكيفة للسباحة وانشاء كازينو على الطراز العصري .

اموال الشركة

 تودع اموال الحمة حالياً في البنك العربي في دمشق . والشركة ، كما مر معنا تنطبق عليها معاملة خاصة تتناسب مع كونها شركة فلسطينية الجنسية . وجرى في العام الحالي تعديل في توزيع الارباح في شكل أسهم بدلاً من دفعها نقداً . ووزعت الشركة 19 الف سهم من اصل 56 الف سهم غير مكتتب بها ، وذلك وفقاً لما نص عليه نظام الشركة من توزيع ما لا يقل عن 7 بالمئة من الارباح سنوياً على الاسهم الممتازة . ومن المنتظر ان يقوم مجلس الادارة بتوزيع الارباح المقبلة نقدا وليس اسهماً . أما الارباح التي وزعت في العام الحالي فتعود الى ارباح سنتي 1947 و 1948 . وينوي مجلس ادارة الشركة كل عام توزيع ارباح سنتين اثنتين بجيث يتم خلال ست سنوات او أكثر قليلاً توزيع ارباح السنوات المتأخرة ، ثم السير في النوزيع بصورة نظامية عاماً بعد عام . ويؤمل ان تعوض هذه الخطة على المساهمين ، بعد طول بلبلة ، ما خسروه من ارباح طيلة سنوات عديدة . إن توزيع الارباح العائدة لسنتين اثنتين في سنة واحدة تدبير لا ينفي ما سبقه من بلبلة وتأخير في تسديد حقوق المساهمين .

خلاصة

يمكن القول ، بصورة عامة ، ان شركة ينابيع الحمة المعدنية كانت حتى الآن بحاجة الى دعاية وتعريف وتنشيط وحزم وانضباط في ادارتها وتسيير شؤونها وتعريف المساهمين بأوضاعها تعريفاً متواصلاً يحول دون تكرار ما جرى منذ شنة 1948 حتى 1960 من غموض وتساؤل . كما ان الشفافية لا بد لها من تحسين اوضاع المشروع المالية والاقتصادية وان تؤدي الى ازدهاره .

مما لا شك فيه ان لمركز الحمة الجغرافي أثره الكبيرعلى ازدهارها . فهي تقع على الحدود الفلسطينية مباشرة ويخضع الدخول اليها الى اذن خاص من السلطات العسكرية السورية . إن هذا السبب ، على اهميته ، غير كاف وغير مقنع بحد ذاته ، ويجب الا يكون كذلك لأن القضية ، الى جانب وجهها السياحي والاقتصادي، لها وجه آخر مهم جداً وهو الوجه القومي . فكما ازدهرت مدينة القدس العربية ، وهي التي يفصل بينها وين القدس المحتلة شريط صغير ، كذلك يمكن للحمة ان تزدهر على الرغم من كل الصعوبات . يبقى اذن ، الجانب القانوني ، وهو سبب رئيس من اسباب تأخر ارتفاع قيمة اسهم الشركة وعدم ازدهارها . فاختلاط المسؤولية وضياع الحقائق  جعلت اسهم الشركة المطروحة الباقية بدون اكتتاب وجعلت الاسهم المبيعة لا ترتفع الارتفاع المطلوب والمنتظر .

إن مركزاً استشفائياً كمركز شركة الحمة الذي يضم 27 مبناً وفندقاً حديثاً يضم بين 200 غرفة و 300 سريراً ويعمل فيه 137 موظفاً وعاملاً يجب ان يزدهر ويتضاعف رواده ودخله وعدد ابنيته والعاملين فيه والمستفيدين منه صحياً ومالياً .