مشاكل المجتمع العربي الجديد: رفع مستوى المعيشة

د.عبد المجيد فراج

كلية الاقتصاد – جامعة القاهرة

نشر المقال في حزيران / يونيو 1961 ، العدد الثامن ، الرائد العربي

لا أحسبني أجاوز الواقع كثيراً اذا انا أجملت مشاكل المجتمع العربي الجديد تحت هذا العنوان . ولست أقصد بذلك أن رفع مستوى المعيشة باعتباره مشكلة كبرى سوف يقضي بالضرورة على المشاكل الاخرى التي تعتصر حياتنا . وإلا لكان معنى ذلك اننا نعتبر الدول ذات المستوى المعيشي المرتفع دولاً بغير مشاكل ، وهذا أمر لا تعززه الوقائع . فالمشاكل حلقات لا تنتهي ، سواء في الدول المتقدمة التي إكتمل نموها او في الدول المتأخرة او النامية . إنما الذي لا شك فيه أن معظم المشاكل التي تحيط بنا وتحف بحياتنا يمكن ان تعتبر مشاكل فرعية بالنسبة لانخفاض مستوى المعيشة كمشكلة أكبر وأعم ، وان رفع مستوى المعيشة هو المشكلة الأم التي تسخر الدول الناضجة معظم جهدها لحلها والتغلب عليها ، لأن رفع مستوى معيشة الشعب هو هدف المجتمعات الانسانية جمعاء .

اذا نحن سلمنا بأن رفع مستوى المعيشة هو الهدف الاسمى او النهائي لأي مجتمع ، وان لكل هدف وسيلة تحقق الوصول اليه ، لبات لزاماً على مجتمعنا العربي الجديد ان يفكر في نوع الوسيلة التي تضمن وصوله الى مثل هذا الهدف في أجل محدد موقوت .

واذا علمنا ان مستوى المعيشة معناه كمية ما يستهلك الشعب من سلع وخدمات خلال فترة معينة من الزمن (سنة مثلاً) ، فان رفع مستوى المعيشة لأي شعب في المستقبل ، معناه إتاحة قدر أكبر مما يستهلكه الشعب بالفعل في الوقت الحاضر من سلع وخدمات . كما يتعين على الدولة ايضاً اتاحة انواع كثيرة وطرازات أحدث من السلع والخدمات مما يبغي الشعب الحصول عليه ، او مما يتحتم على الشعب الحصول عليه ، مما لا يتوافر في الدولة في الوقت الحاضر .

كلنا يعلم ان رغبات الفرد لا نهاية لها وان طموحه نحو مستوى اعلى ومعيشة أفضل ، طموح لا حد له . فاذا علمنا ايضاً ان موارد الفرد مهما زادت ، تظل قاصرة دائماً عن تحقيق كل رغباته وآماله ، وانه ما من فرد على سطح الارض الا ويجد نفسه مضطراً الى ان يوازن بين ما يجب ان يكون وما يجب الا يكون ، أي بين ما يجب ان يحصل عليه من طيبات الحياة وما لا يجب ان يحصل عليه منها . ومن ثم فان كل فرد منا يحاول ما وسعته الطاقة والجهد ان يعمل على تأجيل تحقيق بعض من رغباته الخاصة في سبيل تحقيق رغبات اخرى لها في نظره أهمية أكبر ولها في رأيه حق الاولوية والسبق . بينما لو توافرت لدى الفرد منا موارد قارون لما وجد نفسه مضطراً على الاطلاق الى مراعاة ترتيب رغباته تبعاً لأولويات وأفضليات معينة، ولأمكنه ان يحصل على ما يريد وقتما يشاء وحيثما حل او أقام .

فاذا ما تزوج الفرد واصبح رب اسرة كبيرة او صغيرة تضخم حجم مشكلته وأصبح لزاماً عليه ان يفكر ، لا في الموازنة بين رغباته الآجلة ورغباته العاجلة فحسب ، وان يضحي بالاخيرة في سبيل الاولى ولو الى حين، بل ان يفكر ايضاً في الموازنة بين رغبات افراد اسرته ، وان يحاول ارضاءهم جميعاً في نطاق موارده المحدودة ، بحيث لا يحقق لاحد منهم كل ما يشتهي او يصبو اليه على حساب اهمال رغبات سائر الاخوة والافراد . من هنا يعمل رب العائلة بشيء من الحكمة والتدبير ليحقق للجميع بعض ما يرغبون به ويضحي ببعض رغباته ورغبات كل فرد بما يعتقد انه أقل أهمية ، فيرضي بذلك كلاً منهم ارضاء جزئياً بدل ان يرضي واحداً منهم ارضاء تاماً ، وذلك كي لا يثير الحزازة والحسد في نفس اي منهم ، وكي لا تظهر العائلة في المجتمع بمظهر عدم التجانس اذا هو حابى احدهم على حساب الاخرين .

ما يحدث على مستوى الفرد او العائلة لا بد ان يحدث مثله ايضاً على مستوى الدولة . فما من دولة الا وتريد ان يكون لديها كل ما تتمناه ، وان يحصل كل مواطن على كل ما يبغيه او يصبو اليه . لكن ما من دولة في العالم الا وكانت مواردها أعز وأقل من ان تكفل تحقيق كل ما يريد افرادها والوفاء بكل رغباتهم . ولا يفوتننا ان ندرك ان الندرة التي نتحدث عنها ندرة نسبية غير مطلقة تخف حدتها او تشتد تبعاً لتواضع رغبات الناس او جموحها على الترتيب .

هذه الندرة النسبية هي أصل المشكلة الاقتصادية ... بل هي منشأ علم الاقتصاد الكلاسيكي وعلم الاقتصاد الحديث الذي يتناول اساليب التنمية الاقتصادية والاجتماعية بطريق التخطيط القومي الشامل لمقدرات الدولة . فالتنمية اذن هي وسيلة الدولة الى رفع مستوى معيشة ابنائها . والتخطسط هو ، في الواقع ، الاسلوب الذي تتبعه الدول الراغبة في النمو لتحقيق الانماء الشامل. وهذه الدول لا تكف اطلاقاً عن اتخاذ الاجراءات والقرارات الواعية لاحداث التنمية المطلوبة ، يوماً بعد يوم ، كعملية طبيعية تقتضيها سنة الحياة وطبيعة التطور والارتقاء . وهي تعمل ، في هذا السبيل ، على زيادة مواردها ورفع درجة استغلال الموجود لديها من هذه الموارد تدريجياً، لكنها عندما تشعر بعدم كفاية هذه الموارد لتغطية كافة الاحتياجات ، تحس ايضاً بانه لا يمكن ان تترك الامور على غاربها وان تدفع المؤسسات حيثما اتفق ، فتعمد عندها الى وضع برنامج واضح يرسم طريق الانماء ويكفل ان يؤمن تنمية حيث وجبت التنمية . فمن واجب الدولة الواعية لشؤون ابنائها ان لا تهمل واجب التنمية وان تضع في سبيل ذلك كل طاقاتها وامكانياتها ، وان لا تعتبر التنمية اقل أهمية من اي جانب آخر تكون مسؤولة عنه .

لكن الدولة ، لكي يتسنى لها وضع هذا البرنامج الانمائي او وضع البرامج الاخرى المختلفة التي تمكنها من ان تختار من بينها ما هو صالح او اكثر صلاحاً واجدر بالاتباع ، وجب عليها اولاً ان تستكشف معالم الوضع الاقتصادي والاجتماعي ، بماضيه وحاضره ، وذلك بمحاولة حصر مواردها الانتاجية ومعرفة الكيفية التي تستخدم بها هذه الموارد في الحاضر او التي كانت تستخدم في الماضي ، لمعرفة التطور الذي طرأ على هذه الموارد وعلى استخداماتها على مدار الزمن .

يمكن للدولة بعد هذا ان تتخذ كل الاجراءات الكفيلة بزيادة ما لديها من موارد وبتدعيم الطريقة التي تستخدم بها هذه الموارد وتعزيز وسائل هذا الاستخدام لكي يزيد الانتاج فيها في نهاية المطاف. لكن هذا وحده لا يعني حدوث التنمية المرجوة ، لان احداث هكذا تنمية لا بد ان يتم بقصد تحقيق غرض معين وهدف محدد في آجال وزمن محدود . ولما كنا قد اتفقنا على ان رفع مستوى المعيشة هو هدف الدولة ، المتقدمة اوالمتأخرة ، على حد سواء ، فقد لزم ان تزيد الموارد وتتدعم وسائل تحقيقها بما يكفل للشعب ان يستهلك قدراً أكبر مما يستهلكه حالياً وان تتعدد الانواع والطرازات عما هي عليه حالياً . من هنا وجب ان تعنى التنمية لا بالانتاج فحسب ، بل ايضاً بالاستهلاك .

ولما كان يصعب على الاستهلاك ان يزيد الا بزيادة الانتاج ، ولما كان الانتاج لا يمكن ان يزيد الا في حدود معينة وبالتدريج ، فقد وجب ان يتم توازن من نوع ما بين الاستهلاك والانتاج . بيد ان زيادة الانتاج لا يمكن ان تتحقق الا بخلق طاقات انتاجية جديدة او بالمحافظة على الطاقات الموجودة حتى لا تفنى ولا تندثر ، او باستحداث الوسائل التي تكفل رفع مستوى الانتاج بأي طريقة ممكنة ، مما يدخل كله ضمن زيادة الموارد الانتاجية بشتى صورها وفروعها . ومثل هذه الضمانة لا يمكن ان تتحقق في اي دولة الا برفع وتيرة الاستثمار . ومن هنا لزم ان تعنى التنمية بموضوع الاستثمار .

لكننا اذا تدبرنا الامر قليلاً لامكننا ان ندرك ان الانتاج قد يزيد ويفيض عما يحتاجه الشعب ، مع ذلك قد يظل مستوى المعيشة على ما هو عليه من دون اي ارتفاع ، وذلك في الاحوال التي ترى الدول نفسها فيها مضطرة بحكم ظروفها وطبيعة الامور فيها الى الاستفادة من ملاءمة هذه الظروف الى انتاج سلع بعينها يستهلك الشعب منها ما يحتاج اليه ويفيض منها قدر لا بد للدولة ان تتصرف فيه . وفي نفس الوقت تعجز الدولة ، ايضاً بحكم ظروفها وطبيعة الامور السائدة ، عن انتاج بعض ما تحس هي او يحس الشعب بحاجة اليه ، فتظل تبحث لها عن عملاء خارجيين تتبادل معهم فائض انتاجها مقابل حصولها على ما تحتاج اليه وفاء برغبات شعبها ، فتفتح بذلك دائرة كان يمكن ان تظل مقفلة لولا ما اودعه الله فيها من مزايا نسبية تجعل في الامكان لها ولسواها من الدول ان تتميز على الدول الاخرى في انتاج سلع تفيض عن حاجة شعبها وتحتاج اليها شعوب دول اخرى . عندها تنشأ عملية التبادل التجاري بين الدول . ومن هنا لزم ان تعنى التنمية ايضاً بموضوع التبادل التجاري الدولي ، أي بالتجارة الدولية او الخارجية .

يجرنا هذا بدوره الى التفكير في موضوع النقد الاجنبي ، والى موضوع التمويل ، ومنها مصادر التمويل الداخلي ، فيبرز امامنا موضوع الضرائب ، ومنه نستطرد الى بحث الدخول والايرادات. والحديث عن الدخول يدفعنا الى التفكير في معنى الدخل والى ضرورة زيادته ، لا زيادة نقدية مجردة ، بل زيادة حقيقية تكفل للفرد ان يحصل بواسطتها على قدر أكبر من السلع والخدمات . وهنا تبرز مشكلة الاسعار . ولما كانت الخدمات وتلك السلع لا بد ان تصل الى الاسواق القريبة من الناس ، فقد لزم ان نعنى ايضاً بمشكلات النقل والمواصلات ، إضافة الى مشاكل اخرى كثيرة كالادخار والبنوك واعمال الائتمان وخلق الرواج وتوفير العمل للناس وملاءمة الكفاءات لاداء اعمال واجبة الاداء وخلق ظروف ملائمة للحياة الكريمة الطيبة بتوفير الخدمات التعليمية والصحية والثقافية والترويحية الخ...

كل هذا وغيره يدخل ضمن موضوعات التنمية في اي دولة . وكل هذا وغيره هومن مشاكل التخطيط والتنفيذ في المجتمعات الحديثة النامية .