مخطط التنمية الاقتصادية في الاردن

 

د. نجم الدين الدجاني

نشر المقال في تموز / يوليو 1961 ، العدد التاسع ، الرائد العربي

التخطيط الاقتصادي من المواضيع الجديدة التي لا تزال في دور التكوين والتطور ، وذلك رغماً عن الأهمية التي يتسنمها في تنظيم النشاطات الاقتصادية وفي دفع عجلة تقدم الامكانيات المتوافرة والمتطلبات اللازمة . وليس جديداً ان يقال إن نوع الاسلوب الذي سيتبع في التخطيط ، بالنسبة لأي دولة من الدول ، إنما يخضع للنظام السياسي والاقتصادي المتبع في اي من هذه الدول . وبديهي ان الاسلوب الذي يتوجب انتهاجه عند وضع اي مخطط اقتصادي في الاردن ينبغي ان يرتكز اولاً على طبيعة الاقتصاد الاردني والعوامل المؤثرة فيه ، واعتماده في الوقت نفسه على وجود مصادر ثابتة للدخل يمكن الاعتماد عليها في تخصيص مبالغ معينة في كل سنة للتنمية الاقتصادية . ففي العراق وايران ، مثلاً ، يوجد مصدر معين معروف يقدر ب 70 بالمئة من عائدات البترول يخصص لاغراض التنمية الاقتصادية . أما في الاردن فانه يترتب على المسؤولين ، عند وضع أي مخطط للتنمية ، ان لا تغفل ابصارهم عن الصعوبات التي تعترض سبيلهم بسبب عدم وجود مصدر ثابت يمكن ان تعول عليه الدولة في تمويل مشاريعها الكبيرة ، وايضاً بسبب العوامل الطبيعية التي تؤثر على المحاصيل الزراعية فتجعلها غزيرة في بعض السنوات وضئيلة في سنوات اخرى . شاهد على ذلك :

اولاً ، ان الدخل الوطني من القطاع الزراعي لسنة 1959 قدر بنحو 15 بالمئة من الدخل العام ، بينما ترتفع هذه النسبة ارتفاعاً ملحوظاً في السنوات التي يكون المحصول الزراعي جيداً. واذا ما علمنا ان الاردن يعتمد حتى حدود 57 بالمئة من صادراته على المحاصيل الزراعية ، فان صورة البلاد تبدو ان دخلها الوطني يرزح تحت عوامل طبيعية لا سيطرة لاحد عليها .

ثانياً ، ان الدخل الوطني من القطاع الحكومي يشكل 26 بالمئة فقط من المجموع العام تقريباً . وهذا الدخل يعتمد بدوره على المساعدات المالية الاجنبية .

ثالثاً ، ان ما يزيد على 50 بالمئة من الاموال المقدرة للاستثمار خلال السنوات الخمس القادمة ستتأتي من مصادر خاصة واهلية خارجة عن النطاق الحكومي الرسمي . وهذه تخضع بدورها لمؤثرات فردية واعتبارات تمس شؤون الفرد وتقديراته الشخصية للارباح التي يستطيع الحصول عليها في ضوء المساعدات التي تستطيع الدولة تقديمها .

رابعاً ، ان القسم الاكبر من المخطط الذي يجري اعداده في الوقت الحاضر سيتم تنظيمه بصورة مبدئية استناداً الى المعلومات المتوافرة حالياً ، وهي معلومات لا تعتبر شاملة او كاملة في الوقت الحاضر بسبب ضرورة دعمها بمعلومات اساسية ومهمة لا تتوافرفي الوقت الحاضر بالذات ، وان تكون هي الآن موضع مراجعة ودراسة جدية ، ومن ذلك الدخل الوطني والقوى البشرية وتعداد السكان وما اليها .

خامساً ، ان قيمة المساعدات الخارجية المقدرة لتنفيذ بعض المشاريع لا تتوافر عنها معلومات ثابتة .

في ضوء العوامل التي سبق ذكرها ، لا بد وان نأخذ بالاعتبار ان الخبرة المكتسبة ذات أهمية كبيرة في تصميم المخططات الاقتصادية ، وليست القضية استقدام الخبراء او غيرهم من الاخصائيين ، بل ان لها مساساً واسع المدى بالخبرة التي يكتسبها المسؤولون في الاردن عن شؤون التنمية الاقتصادية حين تنفيذ المشاريع ومراقبة سيرها والاطلاع على النتائج التي تؤول اليها . وبحكم هذا الوضع ، وبالنسبة الى اننا نقوم الآن بأول محاولة منظمة جديدة لوضع مخطط من هذا القبيل ، فالضرورة تلزمنا بان يكون هذا المخطط متميزاً بمرونة كبيرة تفوق تلك المرونة التي تتميز بها مخططات التنمية في البلدان الاخرى التي تمكنت من تصميم وتنفيذ مخططات اقتصادية عديدة ، كما هو الحال بالنسبة للهند وباكستان وايران .

وعليه ، فان المخطط الاردني الذي نحن بصدده يجب ان يتسم بأقصى ما أمكن من المرونة ، وان يكون قابلاً للتكيف مع ما يحققه من منجزات كل سنة من سنوات المشروع وبحسب الامكانات والالتزامات والوقوف عند حدودها بشكل ثابت محسوس في ضوء الاعتبارات والعوامل التي قد تستجد في نهاية كل سنة من سنوات التنفيذ . وبعبارة اخرى ، ينبغي لأي مخطط نضعه ان يكون قابلاً للتغيير والتبديل والزيادة والنقصان والسرعة والبطء تمشياً مع الظروف الاقتصادية التي تستجد والتي يمكن مواجهتها بنجاح . لكن الهدف الابعد هو ان تسير خطى التنفيذ بحسب مراحلها المقررة ، على ان يعاد تقدير الموقف بأكمله في نهاية المرحلة الخامسة بقصد وضع مخطط للسنوات الخمس التالية .

ثمة ضرورة أخرى تتعلق بانتقاء المشاريع نفسها . فهذه الضرورة تقتضي المفاضلة بين مشروع وآخر وترتيبها حسب الاولوية . ومن أجل المفاضلة بين المشاريع عند إعطاء أي منها درجة الاولية في التنفيذ والتوقيت ، ان يتم الاختيار في ضوء ما نستطيع ان نحصل عليه فعلاً من مخصصات مالية ، كي لا تصطدم المشاريع ، بعد البدء بالتنفيذ ، بنقص في التمويل . وعلى كل حال، ينبغي ان لا تكون المشاريع المنتقاة منفصلة عن بعضها البعض ، بل مكملة لبعضها ومترابطة في اهدافها ، بحيث تتكون منها مجموعة موحدة تبرز فيها معالم التقدم ويجني منها المجتمع ثمار الفائدة .

وعليه ، وبعد امعان النظر في الموضوع من نواحيه المختلفة ، فقد تلاقت الاراء على اتباع الاسلوب التالي :

1 – يتولى قسم الدراسات والتخطيط وضع صورة وافية عن الاقتصاد الاردني كما هو عليه الآن تتضمن الانجازات التي أمكن تحقيقها ، والصعوبات التي تواجهها المشاريع القائمة ومقتضيات الاستثمار في كل حقل من حقول التجارة الخارجية والداخلية وشؤون الاسعار والمالية والنقد وغيرها . يلي ذلك تقدير الموارد المنتظر تحقيقها من داخلية وخارجية ، مع بيان أهداف البرنامج وغاياته من ناحيتي نسبتي زيادة الدخل الوطني وتوزيعه ، ونسبة الزيادة في تشغيل الايدي العاملة ، والوضع في الميزان التجاري وميزان المدفوعات في نهاية مدة التخطيط .

2 – وضع قائمة بالمشاريع الاقتصادية والاجتماعية التي ينبغي تنفيذها خلال مدة المخطط ، بحيث تصل هذه المشاريع باقتصادنا الى الاهداف الآنفة الذكر .

وفي سبيل وضع هذه المشاريع ، فقد تشكلت لجان تخطيط في الوزارات ، تلبية لبلاغ رئيس الوزراء رقم 11 لسنة 1961 ، لتكون بمثابة همزة وصل بين الوزارات ومجلس الاعمار من جهة ، وبين العاملين في الوزارات والوزارة نفسها من جهة اخرى ، وتعمل على تنسيق المعلومات وتقديم الاقتراحات المتعلقة بمتطلبات البرنامج . أما المعلومات نفسها ، فتقدم الى مجلس الاعمار في شكل اجابة على أسئلة تم تحضيرها مسبقاً ، ويجري بحثها بصورة تفصيلية في جلسات تعقدها لجان التخطيط وخبراء مجلس الاعمار . وتكون لهذه الجلسات اهمية كبيرة لأن الكثير من المشاريع التي قدمت ، وما تزال تقدم من قبل بعض الوزارات ، لم تكن في الواقع أكثر من مجرد اقتراحات وتوصيات غير مدروسة او واضحة لتكون مقبولة من الناحية الاقتصادية والمالية . ويؤمل ، في كل هذه الحالات ، ان تكون المشاريع التي تقترحها كل وزارة او دائرة متكاملة ومترابطة ، وأن لا تكون مقيدة بأية اعتبارات او ظروف سابقة ، اذ ان ما نتطلع اليه هو الحصول على اكبر مجموعة من الاقتراحات الواعية والبناءة وذات الصفة العملية والقابلة للتنفيذ .

لا بد ونحن بهذا الصدد من ان نبين بأن المشاريع التي ستدرج في المخطط ستكون من نوعين :

اولاً ، المشاريع الانشائية التي اكتملت دراستها ووضعت مخططاتها ويمكن تنفيذها إما عن طريق العطاءات او بالعمل المباشر .

ثانياً ، المشاريع الانشائية التي تحتاج الى مخصصات مالية لوضع مخططات تنفيذها بعد ان يثبت جدواها الاقتصادي . ومن الطبيعي ان يشرع في تنفيذها بعد استكمال المخططات .

وعندما تستكمل قائمة المشاريع التي ترد من جميع الوزارات والدوائر والهيئات سينظر في تحديد درجات الاولوية والافضلية في ضوء المقاييس الاقتصادية الثابتة التي يمكن تبسيطها في ما يلي :

1 – مدى تأثير المشروع المقترح على الانتاج الوطني والدخل الوطني .

2 – مدى تأثيره على ميزان المدفوعات .

3 – مدى تأثيره في تشغيل الايدي العاملة واستيعاب الطاقة البشرية .

4 – نسبة الانتاج الى التكاليف الرأسمالية ونسبة العائد من المشروع الى تكاليف الانتاج.

5 – مدى تأثيره على المشاريع الاخرى .

عند إجراء المقارنة بين المشاريع وتقديرها بالنسبة للاسس التي سبق ذكرها ، سيتم تفضيل الأهم على المهم ضمن المخططات المتوافرة وامكانات التنفيذ ، ثم يقدم البرنامج سنوياً حسب مشاريع يتم تنفيذها في المراحل الزمنية المقررة .

هذا بالنسبة للقطاع العام ، أما بالنسبة للقطاع الخاص فسيجري الاتصال مع اصحاب رؤوس الاموال وممثلي غرف التجارة والصناعة والمختصين بمثل هذه الشؤون ، كما سيجري تمحيص طلبات انشاء صناعات جديدة وبرامج توسيع الصناعات القائمة التي هي قيد النظر في الوزارات المعنية .

وبعد إعداد هذا البرنامج على الشكل الذي سبق ذكره ، يعرض على لجنة تنفيذية تضم الوزراء المختصين وعدداً من رجال الاقتصاد لدراسته ومناقشته ووضع التوصيات اللازمة بشأنه ورفعها الى مجلس الوزراء لاقراره ووضعه يعد ذلك في شكل برنامج ثابت لا يمكن تعديله إلا اذا ثبت للجهات المختصة ، لاسباب مقنعة، ان ثمة ضرورة قصوى تبرر التغيير والتعديل واعادة النظر. وينتظر ان يكون هذا المخطط الثابت هو الاساس المعتمد عند اجراء اية مفاوضات او مباحثات من اجل التمويل والاقراض وما اليها . واذ يمر هذا المخطط في كل مراحله ويقترن بالموافقة النهائية ، يوكل أمر تنفيذه الى الوزارات والهيئات ذات الاختصاص، بحيث تقوم كل منها بتنفيذ مشاريعها وفق المخطط الموضوع وضمن مخصصات السنة المالية المعينة .

لن يخفى على الملاحظين في هذا المجال ذلك التحول الكبير الذي سينتج عن وجود مخطط اقتصادي من هذا الطراز بحكم ان المساعدات في السابق كانت تأتي لأغراض اما محدودة مسبقاً او لأجل برامج ومشاريع قصيرة المدى من دون الالتفات الى متطلباتها النهائية . ومن نتائج الوضع السائد حتى الآن ان برنامج الاستثمار والتنمية يتميز بانعدام التوازن الناشيء عن تنمية بعض المشاريع ، بمراحل كبيرة ، تفوق ما تم في غيرها كالطرق مثلاً . أما بالنسبة للوضع الجديد ، فسيصبح التمويل ثابتاً ومعروفاً سلفاً في اية مشاريع مشمولة في البرنامج الوطني الانمائي العام . وعليه ، تستطيع الحكومة ان تتبين تلك النواحي التي يظهر فيها اي نقص لتتولى بالتالي تصحيحه ودعمه . ومن ناحية اخرى ، فان وجود برامج متكاملة يفتح ابواباً جديدة للاستثمار ومجالات للتمويل لا يمكن توافرها بدونه . وسيصبح التمويل ، بدوره ، مرهوناً بسياسة طويلة الاجل بدلاً ان يكون مرتبطاً بنتائج آنية عاجلة محدودة . وسيخلق هذا الاجراء نوعاً من الديمومة في عمل الوزارات التي سيصبح بامكانها التفرغ لاعمال التنفيذ وانجاز المشاريع الموكولة اليها ضمن الوقت المحدد لها، علماً ان المشاريع المجزأة المصممة بسرعة وبحسب الظروف ولمواجهة اعتبارات مالية في الموازنة المالية السنوية لا يمكن ان تكون بديلاً عن المشاريع المنظمة الطويلة الامد .