تجربة البناء الاقتصادي في الجمهورية العربية المتحدة

 دراسة وملاحظات مبدئية

 ميشال خوري  

نشر المقال في آب / اغسطس 1962 ، العدد الثاني والعشرون ، الرائد العربي  

إن اي دراسة تستهدف استجلاء الخصائص المميزة لتجربة البناء الاشتراكي الجارية حالياً في الجمهورية العربية المتحدة ، لا بد لها من ملاحظة مجموعتين مختلفتين من الضغوط التي يفرزهما الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للقطر المصري ويؤثران في طبيعة تجربته الاشتراكية ، من حبث منطلقها الفكري ، ومن حيث اطرها التنظيمية السياسية والاجتماعية . فالمجموعة الاولى من هذه الضغوط هي بحت اقتصادية . وهي ضغوط يولد بعضها الواقع الاقتصادي القائم في القطر المصري ، كالمشكلة المتعلقة بنمو السكان ، ويولد بعضها الآخر المعطيات العامة لواقع " التخلف الاقتصادي " ، هذا الواقع الذي يشترك فيه المجتمع العربي في مصر مع مجموعة كبرى من المجتمعات في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية .  

ترتبط المجموعة الثانية من الضغوط ، أكثر ما ترتبط ، بالتاريخ السياسي للقطر المصري قبل عام 1952 وبعده . وتنبع هذه الضغوط ، تحديداً ، من تاريخ المؤسسات السياسية التي كانت قائمة قبل الثورة ، أي ما قبل 1952 ، ومن طريقة المعالجة التي اتبعت بعد هذا العام في مواجهة ازمة هذه المؤسسات التي ولدت ونمت في ظل النظام القديم . 

إن ما نسميه " مجموعة الضغوط الاقتصادية " يشير الى فئتين من التحديات التي واجهت ثورة عام 1952 . تتعلق الاولى بالناتج القومي ونموه ، وتتعلق الثانية بنمط توزيع هذا الناتج بين القطاعات الشعبية والافراد . والمؤشر الاساسي الذي يمكن ان نسترشده في التدليل على واقع الناتج الوطني هو " متوسط الدخل الحقيقي للفرد " ونسبة تغير هذا المتوسط مع الزمن . فقد واجهت ثورة سنة 1952 وضعاً اقتصادياً انخفض فيه متوسط دخل الفرد الى ما يقارب 37 جنيهاً مصرياً في العام (1)  . وكان هذا المستوى من الدخل يواجه تحدياً جدياً من الضغط الذي يولده النمو السريع للسكان الذي بلغ 1.3 بالمئة سنوياً (2) . وقابل هذا الضغط حينئذ نمواً في الدخل الحقيقي لا يتعدى واحد ونصف من المئة في المتوسط (3) . ولم يكن هناك من سبب يدعو الى التفاؤل بمستقبل نمو الدخل الحقيقي ضمن اطار الاوضاع القديمة ، ذلك ان " الدخل الحقيقي للفرد باسعار سنة 1954 لم يسجل اي اتجاه نحو النمو . فقد بلغ متوسطه عن الفترة كلها ( 1913 – 1957 ) 34 جنيهاً سنوياً . ويمكن بذلك وصف الاقتصاد المصري في خلال هذه الفترة بانه اقتصاد  ركود دائم ،  إذ لم يتعد النمو في الدخل القومي بالاسعار الثابتة النمو المقابل في حجم السكان (4) .   

واجهت ثورة سنة 1952 هذا الواقع الذي كان سبباً من اسباب قيامها ، ولم يكن من داع للاعتقاد ان مجرد تغيير القيادة السياسية سيؤدي الى حركة نمو جديدة او جدية . ثم ان المشكلة الاساسية كانت في تركيب الاقتصاد المصري وفي تخلفه ، أكثر مما كانت مشكلة نمو سريع في عدد السكان ، هذه الظاهرة التي قد تكون نتيجة للواقع الاقتصادي – الاجتماعي لا سبباً له . وكان لا بد لاي قيادة جديدة النظرة ان تحاول تقديم حلول للمشكلة الاقتصادية . ولم تكن هذه المشكلة الاقتصادية هي مجرد انخفاض في متوسطات الدخول الحقيقية للافراد . فتلك كانت مجرد ظاهرة تختبيء وراءها وتسببها عوالم واسعة من مشاكل التخلف ، من تخلف تقني وفكري وثقافي ، الى انخفاض الكفاءة الانتاجية ، الى البطالة ، الى انخفاض مستوى الاستثمار وسوء تركيبه وتوجهه نحو المضاربة بالارض وعزوفه عن الاستثمار الصناعي ، الى نظام اجتماعي وسياسي يعارض التقدم . من هنا انطلقت الثورة تدريجاً لتتبنى موقف الادانة لنظام الانتاج القديم . ولم يلبث قانون الاصلاح الزراعي ان خرج الى الوجود فانهارت معه الاطر الاجتماعية التقليدية التي كانت تشكل الاسس الرئيسة لارستقراطية الارض ، وفتحت في المجال امام القوى السياسية الجديدة لكي تبدأ عملية تحديث الاقتصاد المصري .  

ارتبط نمو القيادة السياسية في مصر، وهي تواجه مشكلة التخلف ، بتطور موقفها من هذه المشكلة ، من اعتبارها مشكلة تواجه النظام الى مشكلة النظام نفسه ، وبالتالي الانطلاق الى ادانة هذا النظام ككل من خلال عجز مؤسساته الانتاجية . وترتب على هذا الموقف ان أقلعت الثورة عن عملية الاصلاح الجزئي الى تدخل الدولة المباشر على مستويات الملكية والادارة واعتماد التخطيط الشامل والسعي للسيطرة على كل الموارد المتاحة وتوجيهها وجهة التنمية . فالتخطيط الشامل والتدخل الاقتصادي ، بمعنى ملكية الفعاليات الاقتصادية وادارتها  مظهران من مظاهر الاشتراكية في التطبيق . غير ان الموقف الاشتراكي عامة لا ينطلق ، في ادانته للنظم الاقتصادية الاخرى ، من موقف الداعي الى التوجيه ، الا بقدر ما يعتبر هذا التوجيه وسيلة لتعديل العلاقات الاقتصادية الاجتماعية التقليدية ، باتجاه تغليب الطبقة العاملة على غيرها من الطبقات ، او مساواتها بها . وفي مصر بالذات كان هناك الكثير مما ينتظر العمل في هذا المجال . فكيف واجهت ثورة سنة 1952 هذه المسألة . وهنا يجب ان نشير الى ان توزيع الثروة والدخل في مصر كان يعاني من قطبية وتركيز واضحين ، خاصة في ملكية الارض  التي كانت تشكل قاعدة الاقطاع السياسي . ولم يكن الامر ليختلف كثيراً عن هذا الوضع في القطاعات الاخرى . والارجح ان الثورة في مصر نظرت الى ناحية التوزيع من زوايا ثلاث، قررت على اساسها اعادة تركيب نمط توزيع الدخل والثروة . 

الزاوية الاولى : نظرة سياسية . وهي تنطلق من الاعتقاد بان الثورة السياسية والاجتماعية الهادفة الى العدل والاشتراكية في المدى الطويل ، لا بد لها من تهديم القواعد الاقتصادية ، قواعد القوة التي ارتكز عليها النظام السياسي القديم . من هنا يمكننا ان ننظر الى قانون الاصلاح الزراعي على انه الضربة الاولى الحقيقية لقواعد النظام القديم المبني على اقطاع الارض اساساً والرافض لاي تطور سياسي . ومن هذه الزاوية ايضاً ، يمكن ان ننظر الى قرارات يوليو الاشتراكية باعتبارها ضربة موجهة ضد قواعد الرأسمالية الكبيرة التي تقف حاجزاً بين المجتمع في وضعه الحالي وبين تحقيق اماله بالتحول العميق والتدريجي الى الاشتراكية ، بعد ان ينتهي التحالف الذي قام بين هذه " الرأسمالية " وبين " ثورة 1952 " على ضرب اقطاع الارض . 

الزاوية الثانية : نظرة اقتصادية . وهي تبدأ من الاعتقاد بان نظام التوزيع القديم لا يمكن ان يكون النظام الصحيح ضمن اطار عملية زيادة معدلات النمو والتنمية ، وبان تعديل نمط التوزيع سيسهم في حل المشكلة الاقتصادية . ومن هذه الزاوية ايضاً يمكننا ان ننطلق لتفسير اجراءات الاصلاح الزراعي وما تلاها ، بما فيها قرارات يوليو الاخيرة . 

الزاوية الثالثة : نظرة عقائدية . وهي تنطلق من موقف اجتماعي يدين المجتمع الطبقي " خلقياً "  على اساس نظرة خاصة الى " العدل " او " المساواة " الاجتماعية ، تتحقق من خلال تعديل علاقات " الملكية " ووظيفتها كمؤسسة اجتماعية .  

كان هناك نوعان من الضغوط اذاً . ضغوط ناتجة عن انخفاض معدلات الدخل الحقيقي ، وهي الضغوط التي تخوض الثورة معركتها تحت شعار " الكفاية " ، وضغوط اخرى هي وليدة سوء توزيع الملكية والدخل ، وهي الضغوط التي رفعت لها الثورة شعار " العدل " .  

انعكس الشعار الاول بالاصرار على ضرورة التنمية الاقتصادية ، وعلى ضرورة تدخل الدولة مباشرة في العمليات الاقتصادية ، في ملكيتها وفي ادارتها . وانعكس الشعار الثاني بالاصرار على اعادة تركيب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في حقلي الملكية والانتاج في ضوء الموقف الجديد . ولم ينبثق هذا الايمان بضرورة اعادة تركيب العلاقات الانسانية في البناء الاقتصادي ، من موقف الادانة الاخلاقية المجردة " لفلسفة " النظام القديم فقط ،وانما انطلقت ايضاً ، والى حد كبير ، من خلال الحكم على النظام القديم وعلاقاته الانسانية بالفشل في تقديم الحلول للمشكلة الاقتصادية المصرية . من هنا يدخل العامل العملي والتجريبي في الموقف الاشتراكي في القطر المصري . 

من خلال هذين الموقفين اللذين يقومان على اعتبارات اقتصادية خاصة ، ومن خلال الموقف الاشتراكي المبدئي الذي بان بعد ثورة 1952 ، يمكن القول ان التجربة الاشتراكية في الجمهورية العربية المتحدة انما هي ، بالدرجة الاولى ، تجربة انماء اشتراكي او تجربة " اشتراكية انتاج " بمعنى ان دافع التجربة هو الانماء ، لكنه انماء تتطور معه العلاقات الانسانية تطوراً عميقاً باتجاه " المساواة " . وبعبارة اخرى ، فان الرغبة في الوصول الى تنظيم اشتراكي للعلاقات الانسانية ، يقوم على مبدأي العمل والعدالة ، انما يرتبط ارتباطاً مباشراً ، في هذه المرحلة بالذات من مراحل نمو التجربة ، بتحقيق مستويات مرتفعة من التنمية . وان محاولة تحقيق التوازن بين هدفي الكفاية والعدل ، انما هي محاولة لتصنيف التحديات او الضغوط المختلفة بحسب اولوياتها وخطورتها . والظاهر ان تحقيق هدف " الكفاية " كان في اكثر الاحيان ، وحتى في اجراءات يوليو الاشتراكية  شرطاً لتحقيق هدف " العدالة " . فلم يكن هدف " اعادة التوزيع " مشروطاً بتحقيق التنمية فقط ، وانما كان تحقيقه يقوم ، في بعض المجالات ، على اساس الاعتقاد بأنه يدفع الى الاسراع في عملية التنمية ، تماماً كما حدث في حالة الاصلاح الزراعي ، وكما حدث في قرارات يوليو الاشتراكية .

إن هذه النظرة الواقعية الى هدف " العدل " هي التي أنقذت التجربة الاشتراكية في مصر من المشاكل التي تولدها المواقف الايدولوجية الجامدة . ثم ان هذه النظرة هي التي أعطت هذه التجربة طابعها التجريبي الغالب عليها والقائم على مبدأ " التجربة والخطأ " لا على مبدأ "الصوابية العقائدية " . غير انه لا بد من ان نلاحظ في مجال تقييم " الموقف الاشتراكي " في الجمهورية العربية المتحدة ان هذه التجربة تختلف عن التجارب الاوروبية الاشتراكية ، باعتبار ان أكثر هذه التجارب كانت تنطلق عملياً من مبدأ " اعادة التوزيع " او العدل ، بعد ان بلغت تلك المجتمعات مستوى عالياً من النمو . غير ان هذه التجربة ليست وحيدة في مجال التطبيق الاشتراكي . فهي تشبه التجربة الصينية الى حد ، وتشبه المراحل الاولى من تجربة الاتحاد السوفياتي الى حد آخر ، ومناخها منسجم ، على العموم ، مع جو الافكار المعبرة عن الطموحات الاشتراكية ضمن الحركات الوطنية في آسيا وأفريقيا ، من حيث انها تنطلق من موقف يركز على التنمية باعتبارها حلاً لمشكلة الفقر التي تعاني منها هذه المجتمعات . غير انها تختلف الى حد ما عن كل هذه التجارب باعتبارها وليدة التطبيق والحاجة ، لا النظرة الاشتراكية بمفهومها العقائدي الصرف . وهي لهذا تواجه مشكلة رئيسة تتعلق بفقدان المعايير الداخلية للحكم على صوابية اتجاهاتها . على ان هذا " النقص " ، إن صح التعبير ، لن يشكل عقبة رئيسة في هذه المرحلة ، باعتبارها مرحلة تنمية اقتصادية ، بالدرجة الاولى ، ومرحلة تعديل علاقات التوزيع والانتاج ووسائل التنفيذ لتطبيق برامج التنمية . ولا بد لنا ان نذكر ، في هذا المجال ، ان تجربة الاشتراكية في مصر لا تجري ضمن أطر فكرية وعقائدية واضحة ، وان مثل هذه الاطر تصبح ضرورية في المراحل المقبلة من مراحل تبلور الحركة الاشتراكية . فأي نظرة الى تجربة اشتراكية ما في مجال التطبيق الاقتصادي ، تبقى ناقصة اذا لم نأخذ بالاعتبار المترتبات السياسية لموقفها الاقتصادي . ونتساءل ، لماذا هذا الترابط ؟ لأن الاشتراكية ، بمختلف مدارسها ، لا تنطلق لمعالجة مشكلة اقتصادية بحد ذاتها ، انما هي تنطلق من دراسة لمفهوم " الحرية " وتخرج من ذلك الى :  

1 – ادانة النظام الرأسمالي او الاقطاعي لأنه يضع حواجز بين الفرد وممارسة حقوقه القانونية في الحرية . 

2 – اعتبار الحاجز الاقتصادي ، المتمثل بمؤسسة الملكية وما ينجم عنها من تركيب طبقي ، الحاجز الاول الذي يحول بين الفرد وممارسة حقه القانوني والطبيعي في الحرية . 

إن أكثر الاشتراكيين لم ينطلقوا في مواقفهم من قضية " العدالة الاقتصادية " باعتبارها هدافاً ً بذاتها ، انما كان انطلاقهم يهدف الى معالجة التفاوت الاقتصادي والمشكلة الاقتصادية بشكل عام  كوسيلة لتحقيق الحرية – الهدف ، وسيلة لازالة العقبات التي تواجه انسان الطبقات العاملة وتمنعه عملياً من ممارسة حريته . فالتركيب الاقتصادي الاشتراكي لا يأخذ معناه ومبرره من ذاته ، انما يأخذ معناه ومبرره بقدر ما يوصل الى اكساب الفرد قيمته من خلال تمكينه من الوصول الى مراكز القوة الاجتماعية ، وبالتالي اكسابه القوة لممارسة حقه بالحرية والمبادرة في العمل السياسي وغيره . 

ماذا حدث في مصر ؟  

واجهت ثورة 1952 نظاماً سياسياً يقوم على الاقطاع المبني على ملكية الارض وعلى الاحتكارات الرأسمالية الوطنية والاجنبية . اما التنظيمات الشعبية ، من احزاب وغيرها ، فلم تكن الا انعكاساً لصورة هذا المجتمع القائم ككل . فقامت قيادة ما بعد 1952 بمواجهة القوى التي كانت تستلم اوضاع ما قبل الثورة واخذت تجردها من اسلحتها عن طريق اجراءات اقتصادية متلاحقة من جهة ، واجراءات عزل سياسي أقرت في اجتماعات الهيئة التحضيرية لمؤتمر القوى الشعبية من جهة اخرى . غير ان هذا الجهد الذي بذل في محاربة القوى التي طالما شدت المجتمع الى حالة التخلف والطبقية لم يرتبط بموقف ايجابي من التنظيات الشعبية التي يمكن ان تعبر عن تكتلات القوى الجديدة التي اطلقتها الثورة الاشتراكية . ولم تجر في البدء محاولة لتغليب القوى المرتبطة بالاشتراكية في مجتمع ما بعد الثورة ، حتى ان الاتحاد القومي ، وهو التنظيم الشعبي لما بعد 1952 ، قام على أساس اجراء " مصالحة طبقية " بين جميع الطبقات ، لا على اعتبار الواقع الطببقي ، منطلقاً لتحقيق الحرية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقات التي كانت مغلوبة على أمرها في فترة ما قبل الثورة . 

غير ان التطور في نظرة الثورة الى التنظيمات الشعبية لم يقف عند هذا الحد ، انما تعداه الى مرحلة اخرى أكثر تعبيراً عن واقع القوى والنظرة الاشتراكيين . ويدلل على هذا التطور الفكري  والاعتراف المتأخر بوجود "حالة صراع طبقي " في مصر ، بعد ان كانت الثورة ترفض الاعتراف بهذا الواقع . ولم يكن غريباً ان يقوى هذا الاتجاه الفكري بعد صدور قرارات يوليو 1961 الاشتراكية ، ذلك ان الفترة التي سبقت قرارات يوليو كانت ، في الاغلب الاعم ، مرحلة بناء وطني لا مرحلة بناء اشتراكي . فقد كانت المرحلة الاولى مرحلة الاصلاح الزراعي ، أي مرحلة التطور ضمن الاطر القديمة ، بينما مرحلة ما بعد يوليو 1961 كانت مرحلت الخروج من مبدأ الاصلاح الى مبدأ الثورة . وقد انعكست هذه الحالة الثورية في تركيب التنظيمات الشعبية التي بدأت بعد تشريعات يوليو . وهي تنظيمات تحاول ، ولو شكلياً ، تسليم السلطة الى الجمهرة الكبرى من الشعب ، معترفة بالواقع الطبقي للمجتمع ، وبضرورة اعتماد هذا الواقع اساساً لانجاح مرحلة الثورة الاشتراكية . غير ان الارجح ان هذه التنظيمات التي جاءت على اساس مبادرة الحكم في الدعوة الى انشائها ، لن تستلم السلطة الكاملة في المرحلة القادمة . وهناك شك كبير حول قدرتها على استلام هذه السلطة بكفاءة .  

هذا لا يعني ان واقع التخلف يرفض وجود المؤسسات الشعبية كمؤسسات حاكمة . العكس هو الصحيح . انما الامر الذي يحتاج الى دراسة هو طبيعة هذه المؤسسات الشعبية لا مجرد وجودها. فالمؤسسات الشعبية القادرة على القيام بعملية التحول يجب ان تنطلق من اطار الفكرة الاشتراكية وتنشأ على أساس انتقاء المؤسسة كتنظيم من تظنهم يتفقون مع موقفها الفكري . أي ان الثورة الاشتراكية تقوم دائماً على الطلائع الشعبية الاشتراكية . وعلى الطلائع التي تخوض معركة الاشتراكية ان تنتزع مكاسبها انتزاعاً ، وليس على تلك التنظيمات التي تحصل على مكاسب اشتراكية من دون جهد تبذله .  

صحيح ان الواقع التاريخي لثورة سنة 1952 حتم نشوء وضع مغاير للوضع المرتجى ، انما الضرورة تقضي ان يكون نزوعها المرحلي الى تحقيق الاشتراكية قائماً على تهيئة الجو الملائم لمثل هذه التنظيمات . ولعل التنظيم الشعبي الجديد قادر ان يحتضن تجربة تنظيم اشتراكي ، تقوم به من ضمن التنظيم العام ، الطلائع الاشتراكية الجديدة . ان تحقيق مثل هذا الوضع الشعبي الحر في تنظيمه هو الهدف وهو المبرر للنظام الاقتصادي الاشتراكي ، لأن هذا الوضع الشعبي المبني على حرية الطبقات الاساسية في المجتمع وحريتها في العمل السياسي ، هو الكفيل بضمان استمرار العمل الاشتراكي ، وهو الكفيل كذلك بتحويل الانجازات الاقتصادية الى طاقة فعلية تعمل من اجل حرية الفرد . 

يمكننا ان نقول ، في النهاية ، ان هذه المرحلة الاولى من مراحل الاشتراكية في الجمهورية العربية المتحدة انما تكون قاعدة للنمو الاشتراكي بقدر ما تتجه نحو النمو الاقتصادي والعدل كهدف لتحقيق الحرية بمفهومها الاقتصادي والسياسي من ضمن تنظيمات الطلائع الاشتراكية .

إن اعادة توزيع الثروة والدخل ، بحد ذاتها ، لا تشكل قاعدة البناء الاشتراكي ، انما هي الحرية التي تلد عن الواقع الاجتماعي المبني على مفهوم جديد للملكية . وهذه الحرية هي التي تؤدي الى تسلم الاجهزة الاشتراكية للحكم ، وهي التي تشكل القاعدة الاولى للاشتراكية .

إن نمو التجربة المصرية دل على اتجاه تدريجي نحو الوضوح الاشتراكي . غير ان العقبة الكبيرة ، عقبة التنظيم الشعبي الاشتراكي ، ما زالت في اول الطريق ، وبقاؤها في هذه المرحلة طبيعي ومبرر بقدر ما تقوم المحاولات الجدية لازالتها في المراحل المقبلة من مراحل النمو الاشتراكي . إن الطريق ما زال طويلاً . والمرحلة الحالية لا تعدو ان تكون مرحلة اعداد للانتقال نحو الاشتراكية بمفهومها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفلسفي . وهذا المهوم قائم على اساس بناء خلقية اجتماعية جديدة .    

_____________________________________

(1)        يقول شارل عيساوي ان القوة الشرائية للجنيه المصري تقل بقليل عن القوة الشرائية للجنيه الاسترليني ، وتتراوح قيمته بين 1.25 و 1.5 دولارا على اساس السعر الرسمي لسنة 1952 . عيساوي : " مصر منتصف قرن " ، صفحة 810.

(2)        هذه التقديرات لعيساوي ، المرجع السابق ، صفحة 55 . غير ان تقديرات اخرى ترفع متوسط الزيادة الى 2.9 لسنة 1952 . انظر كتاب الاحصاء السنوي ، سنة 1957.

(3)        لجنة التخطيط القومي ، احمد فؤاد الشريف : " الاتجاهات العامة لنمو الاقتصاد المصري في ربع القرن الماضي " ، القاهرة سنة 1962 ، صفحة 381 .

(4)        المرجع والمصدر السابقين ، صفحة 382 .