الصناعة المصرفية في لبنان

لطفي وهبة تماري  

نشر المقال في آب / اغسطس 1962 ، العدد الثاني والعشرون ، الرائد العربي  

تقسم العناصر المغذية للكيان الاقتصادي اللبناني الى خمسة قطاعات :  

1 – قطاع الخدمات

2 – قطاع التجارة

3 – قطاع الزراعة

4 – قطاع الصناعة

5 – القطاع البشري  

يتميز كل من القطاعات المذكورة بعدد من الطاقات الانتاجية الخاصة به . وبقدر ما تختلف هذه الطاقات عن بعضها البعض ، بحكم نوعيتها المهنية او الاختصاصية ، يكون نموها في قطاع معين وسلامته معتمداً اعتماداً كلياً على سلامة وتقدم ونمو الطاقات الانتاجية في القطاعات الاخرى . بمعنى ان تلاقي وتداخل وارتباط المصالح بين الطاقات المختلفة ضمن القطاع الواحد يشكل ، مع بقية الطاقات في القطاعات الاخرى ، جبهة اقتصادية واحدة موحدة .  

ربما ارتأى البعض اعتبار الخدمات وقطاع التجارة وحدة قائمة بحد ذاتها . فاذا كانت الغاية من اتباع هذا الترتيب هي تبسيط البحث ، فهذا أمر مجاز ، لكنه لا يمنع كون معالجة امور ومشاكل قطاع الخدمات تختلف كلياً عن امور ومشاكل القطاع التجاري . فحتى على الصعيد الرسمي ، نجد ان لكل من القطاعين وزارة او اكثر ، مع اجهزة ادارية اختصاصية . كذلك ترانا قد فصلنا القطاع البشري عن بقية القطاعات واعتبرناه عنصراً مستقلاً ، وذلك بحكم وضعه التأثيري غير المباشر على الاقتصاد عامة . ونعني بالقطاع البشري كل القوى الانتاجية التي ما يزال لبنان يصدّرها ليستثمرها باشخاص المغتربين في كل الاقطار والامصار . ويضاف الى هذه القوى الانتاجية وجود الجاليات الاجنبية المقيمة في لبنان . إن فعالية القطاع البشري كمورد مهم للاقتصاد اللبناني ليست بالجديدة ، لكنها جديدة في الاعتبار التصنيفي .  

لنفترض مبدئياً ان النجاح او الفشل في ميدان الاقتصاد يعادل الفرق الحسابي بين امكانياتنا وواقع انتاجنا . عندها نتمكن من تصنيف القطاعات الخمسة المذكورة اعلاه ، بالنسبة الى مدى الانتفاع من طاقتها ومدى استغلالها ، على الشكل التالي :  

1 – الطاقات المستغلة استغلالاً حسناً او هي في طور التحسن . وهذه تشمل عدداً من الطاقات في مختلف القطاعات ، وبصورة خاصة في قطاع الخدمات . 

2 – القطاعات المستغلة استغلالاً سيئاً او مستغلة فقط . وهذه تشمل بعض صناعات الحرب ، وكذلك بعض طاقات القطاعين التجاري والزراعي . 

3 – الطاقات الدفينة او المجمدة او المتعسر استغلالها تجارياً . وهذه تشمل عدداُ من الطاقات في مختلف القطاعات .  

في ضوء هذه الاعتبارات الثلاثة يطيب البحث في اوضاع كل من قطاعات الاقتصاد اللبناني . وموضوع البحث في هذه المرحلة هو معالحة عامة لواقع الصناعة المصرفية في لبنان

صناعة المصارف هي من الطاقات المستغلة استغلالاً حسناً او هي في طور التحسن . فهي تشكل الاطار الأهم الذي لا بد وان تمر من خلاله كل مراحل الاخذ والعطاء لكل القطاعات على الصعيدين المحلي والدولي . فقد تطورت صناعة المصارف في اعقاب الحرب العالمية الثانية ، خاصة في خلال السنوات العشر الاخيرة تطوراً سريعاً ، وذلك تجاوباً مع الدور الذي كان على لبنان ان يلعبه لانعاش اقتصاد هذه المنطقة من العالم . وهكذا ، أضحت صناعة المصارف في لبنان اليوم من أهم الطاقات المغذية لقطاع الخدمات ، لدرجة ان المصارف ، وان كانت تلعب دوراً لبيوتات التجارة العادية ، فانها كمجموعة اقتصادية أصبح لها شأنها المهم . فقد اصبح للمصارف دورها الرئيس بالنسبة الى سلامة الاقتصاد اللبناني ككل ، تماماً كدورها المؤثر في تنشيط المصالح والمرافق اللبنانية عامة والمحافظة عليها . فما يضير الصناعة المصرفية يضير بشكل آلي الاقتصاد اللبناني العام . الا انه علينا ان نلاحظ انه بقدر ما كانت عليه سرعة تطور الصناعة المصرفي في لبنان ونموها ، بقدر ما أوجدت هذه السرعة فراغاً ادارياً في السلك المصرفي ، وهو غاية في الاهمية والخطورة . فقد كان الاقبال على الاستثمار في الصناعة المصرفية في كثير من الحالات من قبيل استغلال الفرصة السانحة والسهلة ، مما أدى الى قيام هذا العدد الضخم من المؤسسات المصرفية عندنا ، وأكثرها يفتقر الى ادارة مختصة ومتمرسة . فاستعداد القليل من رجال الاعمال لتقبل هذا المرفأ الجديد للاستثمار فيه لم يجار وجود امكانات ادارية يمكن الاعتماد عليها ، ولو في مراحل العمل الاولى . من هنا وجدت فئة قليلة مؤهلة ومتمرسة في شؤون المصارف سوق العمل وقد فتحت ابوابه امامها وذهلت لكثرة الطلب عليها استرسلت في طلباتها ورفعت من شروطها ، إن في مجال المعاشات او العلاوات والامتيازات . كيف لا والطلب عليها يفوق العرض ، والمأهلون عددهم محدود، والفرصة سانحة لفرض الشروط ، مما أدى الى تفكك عامل الولاء التقليدي بين المؤسسة المصرفية وسلكها الوظيفي .  

زد على ذلك ، ان الارتجالية ، او بالاحرى الانتهازية ، رافقت تأسيس بعض المصارف في وقت لم يكن في البلد مؤسسة مالية لتقوم بدور البنك المركزي ، مما دفع ببعض المصارف ، خاصة الوطنية منها ، للعمل بجرأة لتسهم ، بقدر ما تيسر لها من فعاليات بشرية واموال مودوعة ، في بناء صرح الاقتصاد اللبناني . وعليه ، فان أي مؤرخ للنهضة المصرفية في لبنان  لا بد وان يذكر تطور الصناعة المصرفية مقاسة بالمفاهيم المصرفية التقليدية وكأنها مغامرة فردية في مجالات المال والاقتصاد .  

الكبير الذي لم يعد كبيراً  

قد يسأل سائل : أوليس بنك سوريا ولبنان مصرف لبنان المركزي ؟ . 

إن المظهر الشكلي شيء والحقيقة الجوهرية شيء آخر . 

إن بنك سوريا ولبنان مؤسسة تجارية ، مثلها مثل أي مؤسسة او بيت تجاري آخر في  لبنان . غير ان هذا المصرف يتميز عن سواه من المصارف بصفته المصرف المعتمد لدى الحكومة ، بما يملكه من حق الاصدار . اما قيامه فيما مضى بدور " صمام الامان " ، او بالاحرى المروض للسياسة المالية للبلد ، فلم يكن بأي حال من باب الواجب ، بل بحكم علاقته شبه الرسمية بالحكومة من جهة ، وقوته المالية واقدميته في السوق بالنسبة لبقية المصارف ، واجماع هذه المصارف على اعتماده المصرف " المرجع " من جهة اخرى . اما علاقته ببقية المصارف فلها صفتان : الاولى ، كزميل في السوق ؛ والثانية ، قيامه باعادة خصم السندات التجارية واعطاء تسهيلات مالية مقابل عمولة او شروط خاصة يتفق عليها . المهم في امر هذه العلاقة المتبادلة هو ان سياسة التسهيلات المالية واعادة الخصم تشجع في اوقات الرواج ولمدة قصيرة الاجل . اما في فترات الانكماش ، كالوضع الذي يعاني منه البلد اليوم ، فان بنك سوريا ولبنان يقوم باتباع سياسة " شد الحزام " . ولا غرابة في ذلك ، لأن هذا المصرف ، كغيره من المصارف القائمة في لبنان  عليه مسؤوليات امام زبائنه وحاملي اسهمه ومودعيه ، وهمه الوحيد دوماً هو ان يقدم للمساهمين اعلى الارباح وللمودعين أفضل الشروط . 

إن هذه السياسة المالية بالذات ربما يقوم بتطبيقها أي مصرف مركزي بغية معالجة ظرف اقتصادي طاريء فقط . اما ان تكون قاعدة عمل دائمة ، فهذا يخالف ، من حيث المبدأ ، الغاية التي من اجلها يقوم البنك المركزي. على انه تجدر الاشارة الى انه كان لبنك سوريا ولبنان مواقف مشكورة في مواجهة اكثر من ازمة اقتصادية تعرض لها لبنان ، وكان ان تحمل البنك خلالها مسؤوليات كبيرة خارجة عن نطاق اختصاصه .  

تلك كانت المسألة حتى الامس القريب . اما اليوم فقد أصبح عدد المصارف المعتمدة رسمياً في لبنان 57 مصرفاً ، أي بزيادة حوالى 100 بالمئة عن عددها لخمس سنوات خلت . واصبح لدى المصارف ، حتى الصغيرة منها ، قدرة مالية كبيرة ، ما يخولها ان تعتبر ان الخدمات التي كان يقدمها بنك سوريا ولبنان في ما مضى خدمات ثانوية . ففي الامس القريب كان بنك سوريا ولبنان البنك الكبير بين الصغار ، اما اليوم فقد أصبح مقامه مقام الزميل بين الاتراب . إنه لعمري وضع شاذ ، تماماً كوضع القبيلة التي فقدت رأسها . ولا نغالي اذا قلنا انه للامس القريب ، ربما كان من حسن حظ القطاع المصرفي والاقتصاد اللبناني بوجه عام عدم وجود مصرف مركزي في لبنان بالمعنى الصحيح والكامل . ذلك ان الانطلاقة الاقتصادية التي وجد رجل الاعمال في لبنان نفسه تجاهها في اعقاب الحرب العالمية الثانية ، ما كانت لتنمو وتزدهر بهذا المقدار والمستوى سوى في جو اقتصادي متحرر من الضوابط المالية التقليدية . ففي الامس القريب ، وفي جو اقتصادي متحرر ، غامر رجل الاعمال اللبناني بكل " القليل " الذي كان يملك في سبيل خلق صناعة مصرفية . والثمن الذي دفعه لبنان في سبيل النهوض بالصناعة المصرفية ليس بالثمن الغالي ، اذا ما قورن بالفارق الذي حققه . اما اليوم ، ولكي نحافظ على هذا الفارق ، ولكي نبقي زمام المبادرة في متناول ايدينا ، ولكي تبقى " فوضانا المنظمة " اكثر تنظيماً ، علينا الاسراع في بعث بديل " للقائد " الذي حكمت عليه ظروف التطور بان يغيب ، ببعث المصرف المركزي . وقديماً قيل : من ليس له " كبير فليشتري لنفسه كبيراً " .