بعض قضايا السياستين المالية والنقدية في لبنان

نشر هذا البحث في تشرين الاول / اكتوبر 1961 ، العدد الثاني عشر ، الرائد العربي

 

يدور البحث في هذه المقالة حول بعض قضايا السياستين المالية والنقدية في لبنان . فقد أثارت بعض التطورات الاخيرة في هذين الحقلين ، كارتفاع قيمة الليرة اللبنانية بالنسبة للعملات الاخرى والتشدد في السياسة النقدية والزيادة الكبيرة في عدد المصارف ، الكثير من الاهتمام ، ولكنها قلما أدت الى تحليل علاقة هذه الاحداث بعضها مع البعض الآخر والنتائج التي نجمت عنها .

 

سنحاول هنا ان نستعرض هذه التطورات النقدية والمالية التي جرت في الماضي القريب ، وان نثير بعض القضايا السياسة النقدية – المالية في لبنان ونحللها .

 

يظهر من الجدول رقم واحد ان توسعاً ملموساً في الكتلة النقدية  money supply قد حصل في السنوات التي تلت عام 1953 .

                                                 جدول رقم 1

                                     الكتلة النقدية ( 1953 – 1960 )

                                        ملايين الليرات اللبنانية (1)

نهاية السنة     العملة         ودائع تحت الطلب        الكتلة النقدية     الزيادة المئوية السنوية

                          1                           2                              2+ 1 = 3                    

1953                 195                       219                                 414             2

1954                 232                       246                                 478             15

1955                 255                       299                                 555             16

1956                 320                       307                                 627              13

1957                 343                       447                                  790             26

1958                 384                       443                                  827              5

1959                 386                       621                                  1006            22

1960                 416                       716                                1132              13

 

 

إن هذا التوسع النقدي الذي بلغ أقصى ارتفاعه 26 بالمئة عام 1957 ، جاء نتيجة لتفاوت نسبة زيادة الودائع ، اذا ما قوبلة بالعملة المتداولة . فقد انخفضت نسبة العملة الى مجموع الكتلة النقدية من 47.1 بالمئة في نهاية 1953 الى 36.7 بالمئة في نهاية 1960 . وكان اكثر الانخفاض ذلك الذي جرى ، في الدرجة الاولى ، عامي 1959 و 1960 . وخلال ازمتي السويس عام 1956 ولبنان عام 1958 زادت نسبة العملة الى مجموع الكتلة النقدية حتى تعدت مستوى الخمسين بالمئة كنتيجة لسحب الودائع ، ولكن سياق هذه النسبة كان في انحدار شديد . وجاء هذا الانحدار الثابت نتيجة النمو السريع في النظام المصرفي من جهة ، وفقدان المرونة في اصدار العملة من قبل السلطات المالية من جهة اخرى . وقد أدى انخفاض نسبة العملة – النقد الى نتيجة مهمة ، هي الحفاظ على احتياطي النقد في النظام المصرفي وتسهيل عملية التوسع النقدي في عامي 1959 و 1960 . 

 

يلخص الجدول رقم 2 العوامل التي أدت الى هذا التوسع النقدي خلال فترة 1955 – 1960 .

                                                       جدول رقم 2

                                    العوامل التي تؤثر في تغيرات الكتلة النقدية

                                             ملايين الليرات اللبنانية

 نهاية العام                      1955         1956         1957           1958             1959         1960

1- الكتلة النقدية             555           627             790             827               1006       1132

2 – تغيرات خلال

السنة                            77             72              163           37                 179            126  

 

                                                العوامل التي تؤثر في التغيير

اقراض القطاع الخاص

                                    100           19                 12         122                   242      

التغيير الصافي في الوضع الحكومي

                                    - 36          12                 27         - 3                 - 42      - 72

ودائع الادخار والاجل

                                    - 12          - 3                -8         - 4                   - 24      - 35

الموجودات الاجنبية الرسمية

                                    34             4                  35         26                     57          35

الاخطاء والتعديلات

                                    9              40                 20         - 6                   50         - 44

كانت السلف المقدمة للقطاع الخاص والزيادة التي حصلت في الموجودات الرسمية الاجنبية هي العوامل الرئيسة التي ادت الى التوسع النقدي ، خاصة خلال الفترة الاخيرة . كما ان نسبة التوسع الكبير في الاقراض ، التي بلغت 23 بالمئة عام 1959 و37 بالمئة عام 1960 ، تعكس ، جزئياً ، الطلب المتبقي من السنوات السابقة على القروض . وقد تكون متأثرة ايضاً بتمويل الواردات السورية في بيروت . اما العامل الرئيس الذي أدى الى التوسع الكبير في الاعتمادات ، فهو نمو "قروض الاستهلاك " تحت ضغط الطلب على حاجيات الاستهلاك غير الموقتة durable . وقد حصلت ايضاً ، خلال هذه الفترة ، زيادة كبيرة في عدد المصارف التجارية العاملة في لبنان وبلغت في نهاية عام 1960 ما مجموعه 46 مصرفاً معتمداً لدى الحكومة اللبنانية و 15 مصرفاً آخر . اما الزيادة في الموجودات الرسمية الاجنبية ، فقد كانت هي الاخرى ، عاملاً تضخمياً ، خاصة في الفترة بين عامي 1958 – 1960 حين تمت مدفوعات خاصة من الحكومة الاميركية وشركة نفط العراق تبلغ حوالى 90 مليون ليرة لبنانية . وبدون هذه المدفوعات لم يكن لهذه الزيادة ان تبلغ المستوى الذي بلغته.     

 

كان للعمليات المالية التي قام بها القطاع الحكومي أثر إنكماشي ملموس عامي 1959 و 1960 . وينطبق هذا الامر ايضاً على ارتفاع معدل ودائع الاجل . وقد أدت الزيادة العددية في المؤسسات المصرفية والمؤسسات المالية الاخرى التي تركز على التسليف الاستهلاكي الى منافسة اكثر حدة على ودائع الاجل التي زادت في عامي 1959 – 1960 عما كانت عليه في السنوات السابقة بنسبة كبيرة جداً . واذا اعتمدنا تقسماً فصلياً ، فان التوسع النقدي أخذ ينطلق حلال الربع الثالث من عام 1959 ، ولكنه اخذ يتباطأ بعد ذلك .  

 

فبعد انتهاء الازمة اللبنانية السياسية في اواخر عام 1958 وعودة الثقة توسعت المصارف في تقديم القروض على نطاق متزايد حتى زادت نسبة التوسع خلال منتصف سنة 1960 عن 25 مليون ليرة لبنانية في الشهر الواحد . وبما ان هذا التوسع في القروض تبعه زيادة في مستوى الواردات الاستهلاكية ، فقد أظهر موجود النقد الحكومي فائضاً كبيراً . واستمرت المصارف والمؤسسات المالية في توسيع قروضها . لكن الوضع النقدي في هذه المصارف والمؤسسات كان قد اخذ يصبح اكثر صعوبة من ذي قبل . وهكذا انخفضت نسبة التوسع في القروض من 11.4 بالمئة في الربع الثاني من عام 1960 الى 8.6 بالمئة خلال الربع الثالث ، الى ان بلغت النسبة 5.4 بالمئة في الربع الاخير من السنة  نفسها . إلا ان هذه النسبة في التوسع بتقديم القروض عادت فارتفعت في الربع الاول من عام 1961 حتى بلغت 7.4 بالمئة . ومن جهة اخرى خفف التحسن في الوضع المالي للدولة والزيادة الجديدة في ودائع الاجل من اثر التوسع في القروض على الكتلة النقدية . وهكذا ، كان دور فائض النقد الحكومي الكبير ، الذي انساب الى خزانة بنك سوريا ولبنان ( والبالغ حوالى مئة مليون ليرة لبنانية في فترة الاشهر الخمسة عشرة المنتهية في آخر الربع الاول من عام 1961 ) هو تعديل الاثر التوسعي في زيادة قروض المصارف . 

 

إن السياق الموسمي في الوضع النقدي للحكومة يتجه عادة الى تسهيل الاوضاع المالية خلال النصف الاول من السنة ، ثم الى تشددها في النصف الثاني للسنة عندما يصبح الفائض الحكومي في مستواه الموسمي المرتفع . وقد أصبحت مشاكل " السيولة " في النظام المصرفي أكثر تعقيداً خلال الصيف كنتيجة لتيسر العملة من المصارف الى المواطنين خلال هذه الفترة . ومع ان توسع الكتلة النقدية خلال السنتين السابقتين كان كبيراً ، فقد كانت الزيادة في الموجودات شبه النقدية التي يملكها القطاع الخاص أكبر بكثير . فقد ارتفعت ودائع الاجل بالليرة اللبنانية وودائع النقد الاجنبي في المصارف اللبنانية من 191 مليون ليرة لبنانية في نهاية عام 1958 الى 482 مليون ليرة لبنانية في نهاية سنة 1960 . وجاء الجزء الاكبر من هذه الزيادة على شكل ودائع بعملات اجنبية ، قابلتها ، مبدئياً ، زيادة في قيمة الموجودات الاجنبية في المصارف التجارية . والواقع ان هذه الزيادة الكبيرة في الطاقة الشرائية لدى الجمهور ، والتي سببتها بصورة اولية قروض البنوك بالاضافة الى دخول الاموال الاجنبية ، قد رفعت قيمة الليرة اللبنانية من معدل 3.18 ليرة لبنانية للدولار الاميركي الواحد الى نسبة حوالى 3.05 ليرة لبنانية . 

 

أدى دخول الاموال الاجنبية بكثرة الى لبنان ، وبالتالي ارتفاع الودائع بالعملات الاجنبية لدى المصارف الوطنية وارتفاع قيمة الليرة اللبنانية المستمر في السوق الحرة خلال عام 1960 وما رافقه من فائض كبير ومستمر في الخزينة العامة ، والتوسع في الاقراض ، ادى ذلك الى ضغط غير متوقع على السيولة بالنسبة للعملة المحلية لدى البنوك . فالبنوك التجارية في لبنان تحتفظ عادة باحتياطي ضئيل من الليرات اللبنانية لمواجهة التزاماتها  من الودائع بالعملة نفسها . اما الاحتياطي النقدي الباقي فيحتفظ به في شكل عملات اجنبية وسندات مؤمنة قصيرة الامد . وطالما كانت التقلبات في سعر الليرة البنانية تجري ضمن حدود ضيقة ، نتيجة لشراء او بيع النقد الاجنبي من قبل السلطات المالية ، وطالما ان المصارف تحتفظ بكميات كبيرة من النقد الاجنبي ، فان مشكلة السيولة لن تيرز . ولكن ، كلما بدأت قيمة الليرة اللبنانية في الارتفاع فان اتجاها للتحول من العملات الاجنبية الى الليرة اللبنانية يأخذ بالظهور ، مما يسرع في ارتفاع قيمة الليرة اللبنانية ، ويضع ، بالتالي ، البنوك التجارية تحت ضغط أكثر . وهكذا ، فان التوقعات بالنسبة لنقطة التحول من الليرة اللبنانية الى العملات الاجنبية هي نقطة قليلة الثبات . وان توقع ارتفاع قيمة الليرة اللبنانية قد يؤدي الى زيادة كبيرة في الطلب على الليرة اللبنانية ، الأمر الذي يدفع باتجاه قيام وضع مالي متشدد ، كما هو الامر الآن . ويؤدي توقع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية الى حركة مضادة باتجاه العملات الاجنبية .  

 

 دفعت هذه الاعتبارات بعض الاقتصاديين اللبنانيين الى اقتراح تثبيت سعر الليرة اللبنانية مقابل العملات الاجنبية او تبني قيمة اسمية لدى صندوق النقد الدولي . وقد أصاب هؤلاء في قولهم ان ارتفاع قيمة الليرة اللبنانية هو دليل على قوة وسلامة ميزان المدفوعات ، وان هذا الارتفاع في سعر الليرة اللبنانية ، بالاضافة الى صعوبة التنبؤ بالنسبة لاتجاه التغيير في سعر الليرة ، قد يؤدي الى التقليل من جاذبية البلد للسياح . ويرى هؤلاء ان هذه المشاكل يمكن حلها اذا ما ثبتت قيمة الليرة اللبنانية ، بما سيؤدي ، باعتبار الوضع اللبناني القوي في ميزان المدفوعات ، الى زيادة الاحتياطي الرسمي من النقد الاجنبي ، وبالتالي الى تدعيم السلطات المالية في المحافظة على سعر الليرة اللبنانية . 

 

إن نصيب هذه الاراء من الصواب ليس بمقدار ما يبدو للوهلة الاولى . فلو افترضنا ان السلطات المالية كانت قد قامت فعلاً بتثبيت قيمة الليرة اللبنانية ، فانه سيتوجب على هذه السلطات ان تشتري كميات كبيرة من العملات الاجنبية . والنتيجة التي كان سيؤدي اليها هذا الاجراء هو توسيع قاعدة الاحتياطي للنظام المصرفي ، مما كان من الممكن ان يؤدي الى توسع اكبر في الاقراض . ومن شأن هكذا حالة ان تؤدي الى زيادة الاستيراد، وبالتالي الى إضعاف وضع ميبزان المدفوعات في المدى الطويل ، ومن ثم الى ارتفاع الاسعار . ومثل هذا الوضع يعرض لبنان الى التقلبات في حركة الرأسمال الدولي بشكل شامل . 

 

كانت السلطات المالية اللبنانية على صواب في رأيها بأن عملية تثبيت سعر الليرة اللبنانية ، اذا ما تمت في ظروف تفتقد فيها المؤسسات المالية والنقدية الصالحة ، ستؤدي الى حالة انكماشية . وفي غياب مصرف مركزي كامل الصلاحيات ، فان الدولة لن تستطيع ان تواجه اي تيار قوي . ولنضرب مثلاً على ذلك . فزيادة مئة مليون ليرة لبنانية على صافي الموارد ، من رأس المال الاجنبي ، يؤدي تلقائياً الى زيادة مماثلة في احتاطي النظام المصرفي ، مما يدفع الى زيادة الاقراض والمداخيل وزيادة وقتية في الاستيراد يتلوها تيار انكماشي . وحيثما يوجد مصرف مركزي كامل الصلاحيات ، او سياسة مالية وسياسة قروض عامة دقيقة ، يمكن تخفيف آثار دخول رأس المال الاجنبي ، كما يمكن ان يتوزع تأثيره على فترة أطول باتجاه استقرار اقتصادي أكبر. ويعتمد لبنان حالياً وسيلة قليلة الكفاءة وكثيرة المتاعب بهدف ان  يحمي اقتصاده من تقلبات كهذه . فهذه الوسيلة، إذ تسمح بارتفاع قيمة الليرة اللبنانية بينما ترفض توسيع قاعدة العملة ، تؤدي الى وضع مالي متشدد يحول دون دخول مثل هذه الاموال . وهذا ما حصل عامي 1960 و 1961 . فقد تدفقت الاموال بشكل يفوق المعتاد ، وجاء رد فعل المصارف أن توسعت في الاقراض ، الأمر الذي سبب ، بالاضافة الى ارتفاع سعر الليرة اللبنانية، في اجهاد احتياطي النقد المحلي ، وأدى ، بالتالي ، الى حالة التشدد المالي . والواقع ان ازمة كهذه لا يمكن ان تبرز في بلد يوجد فيه مصرف مركزي ، ذلك ان عملية تحويل العملات الاجنبية الى عملة وطنية تصبح عملية تلقائية وسهلة . وبالاضافة الى ذلك ، فان المصرف المركزي يعتمد وسائل اخرى لمواجهة الاثر التضخمي لتدفق الرأسمال الخارجي . وفي هذه الحالة تصبح الحكومة اللبنانية تحت ضغط كبير من المجتمع التجاري لزيادة الانفاق الحكومي لكي تحل عقد الضائقة المالية . 

 

هناك مسألتان لم يجر تمييزهما بوضوح في هذا المجال وهما : المسألة الاولى التي تطرح السؤال في ما اذا كان من المفيد ان تحل الدولة عقدة الضائقة المالية . وقد كان باستطاعة الدولة ان تذهب الى القول ان الضائقة المالية جاءت أصلاً نتيجة التسرع في توسيع نطاق الاقراض . لذلك فهي ، أي الدولة ، ليست على استعداد لان تنتشل المصارف من الضائقة المالية خوفاً من توسع هذه المصارف توسعاً اكثر في سياسة الاقراض .  

 

لكن اذا ما رأت السلطات ان تقوم بمواجهة الضائقة المالية ، فان السؤال الثاني المتعلق بالوسائل يصبح وارداً . لذلك ان زيادة الانفاق الحكومي لم يكن الوسيلة الاكثر فعالية وتأثيراً في انهاء الضائقة ، وانما زيادة قاعدة السيولة من خلال شراء العملات الاجنبية من قبل دائرة الاصدار . والواقع انه من التناقض ان يجد الانسان ان بلداً كلبنان يجد ، رغم مؤسساته المتقدمة نسبياً ، يعتمد اعتماداً مستمراً على وسائل بدائية في سياسته المالية ، بينما نجد بلاداً اخرى متخلفة عن لبنان في جميع المجالات الاخرى ، تعتمد سياسة نقدية متبلورة باستمرار عن طريق المصرف المركزي . 

 

إن دائرة الاصدار في بنك سوريا ولبنان هي المؤسسة الوحيدة التي يصدر عنها بعض التوجيه النقدي . لكن هذه المؤسسة التي كان لها ان تؤثر في توجيه السياسة المالية في العقدين الثاني والثالث من هذا القرت عندما كانت الكتلة المالية تتألف من العملة المتداولة ، قد أصبحت الآن أقل تأثيراً باعتبار نمو الودائع المصرفية . إن الحاجة الى مصرف مركزي قد أصبحت امراً ملحاً وبديهياً ، خاصة في حالة وجود سوق نقدية حرة كسوقنا . وان اية دراسة مقارنة نجريها حول تجربة بلدان اخرى كسويسرا والولايات المتحدة وكندا تفيدنا في توضيح الصورة . ولسوء الحظ ان بديهيات كهذه قد أغفلت في غمرة المشاحنات السياسية والمصلح النفعية ، مما ترك البلاد بدون نظام كفوء ينظم عمل المصارف التجارية ويواجه الانحرافات الخطرة التي تتبعها  هذه السوق . وما هذه المقالة سوى دعوة صادقة لانشاء مصرف مركزي يتولى الامر عندما تنتهي مدة امتياز مصرف سوريا ولبنان في اذار / مارس 1964 . وقلما يستطيع الانسان ان يفكر باجراءات اصلاحية اكثر ضرورة للبنان من هذا الاجراء . 

 

ملحق : ملاحظات تفسيرية  

الكتلة النقدية هي مجموع العملة المتداولة وودائع الطلب في المصارف . وتمثل هذه الكتلة النقدية القدرة الشرائية الاجمالية المتوفرة بين أيدي الناس . وتعتبر ودائع الاجل في المصارف اللبنانية ، بالاضافة الى الكتلة النقدية  والحسابات المسجلة بالقطع الاجنبي في المصارف اللبنانية ، شبه عملة . ويجب النظر الى هذه الكتلة النقدية وشبه العملة على انهما كتلة جامدة ، بل كقياس للقدرة الشرائية في وقت من الاوقات ، وهي تعتبر كذلك تبعاً لتقلبات الاحوال الاقتصادية والمالية في البلد . وتعبر زيادة الكتلة النقدية عن زيادة في القدرة الشرائية . فاذا توفر الطلب على السلع والخدمات في السوق في وقت تكون فيه الموارد المالية لجميع القطاعات متوفرة ، تمكن جهاز السوق من تلبية هذا الطلب واشباعه من دون ارتفاع يذكر في الاسعار . 

 

يتضح من هذا العرض السريع أهمية المصارف في الحياة الاقتصادية ، إذ باستطاعة اي مصرف ان " يخلق " كتلة نقدية جديدة بمجرد فتح حساب جار مدين من دون الحاجة الى تغطية مجمل قيمة هذا الحساب بكمية مقابلة بالنقد ، بل يكفي ان يحتفظ المصرف بجزء من قيمة حساباته المدينة نقداً . فاذا افترضنا ان هذا هو ثلث قيمة السلفيات ، تمكن المصرف من تسليف ثلاثة اضعاف ودائعه النقدية ، خالقاً بذلك كتلة نقدية جديدة معادلة لضعف المبلغ النقدي المودوع في خزائنه . 

 

هنا تكمن فعالية الجهاز المصرفي ، في قدرته على خلق كتلة نقدية تزيد كميتها عن مجمل العملة المتداولة . وهو بذلك يسهم في اضفاء المرونة اللازمة على عمل جهاز السوق ، إن لرفع القدرة الشرائية او لانقاصها . ولأموال الدولة دور كبير في زيادة او انقاص الكتلة النقدية المتداولة . فاذا لم تصرف اعتمادات الدوائر المختلفة في اوقاتها المقررة ، حدث نقص في كمية النقد المتداول ويتضاعف بنسبة قدرة الجهاز المصرفي على خلق الكتلة النقدية . فاذا ما طبقنا ارقام المثل المستعمل اعلاه ، فان تأجيل صرف اي مبلغ معتمد في الموازنة العامة، يقلل الكتلة النقدية بنسبة ثلاثة اضعاف . واذا ما قامت الدولة بصرف اعتمادات اضافية فانها ، بذلك ، تزيد من الكتلة النقدية بنسبة المعامل نفسه.

 

تجدر الاشارة الى ان مصروفات الحكومة المحلية هي زيادة صافية الى الدخل النقدي للقطاع الاهلي . واذا كانت هذه المصروفات استثمارية الطابع فانها تخضع لمعامل تكرار اضافي ينتج عن انتقال العملة الجديدة من يد الى يد بشكل يتكرر من عملية انتاجية الى عملية انتاجية اخرى ، وذلك في سياق انتاج الاستثمار الطبيعي الذي قامت به الدولة وصرفت عليه هذا الاعتماد . غير ان بلداً كلبنان ، يستورد جزءاً كبيراً من حاجاته وترده موارد مالية من النقد الاجنبي يعتمد عليه في تغطية عجزه التجاري ، لا يمكنه الا ان يتأثر بالقطاع الخارجي . فاذا كانت سيولة الجهاز المصرفي تقاس بالكتلة النقدية ، بالنسبة الى حجم الطلب ، فان ورود مبالغ كبيرة من القطع الاجنبي الى لبنان ، معناه ازدياد الشعور بالقدرة الشرائية بدون زيادة مقابلة بنقد ذو قوة إبرائية . وبالتالي، فان السيولة تنخفض ويشعر الناس بضائقة سببها نقص في القدرة الشرائية النقدية . وتتمثل هذه الضائقة بصعوبة الحصول على القروض من المصارف وارتفاع الفائدة وغير ذلك . فلو وجد في لبنان مصرف مركزي ، لتمكن من التوسع في منح القروض ، اذا سمحت بذلك السياسة الاقتصادية والمالية ، وذلك بأن يقرض البنوك التجارية التي يفترض فيها التعامل معه ، وضمانة لها ، او دعمها او حسم اوراقها المالية او انقاص نسبة الاحتياطي القانوني ، إن وجد . غير ان المصرف المركزي الحالي في لبنان ، وهو مصرف تجاري ، لا يمكنه ان يتابع ، في الوقت نفسه ، سياسة تجارية رابحة ، وسياسة مالية قد تتعارض مع أهدافه التجارية او مصالحه الاخرى .