طريق البخور

كانت مصر وبين النهرين لهما علاقة تجارية قوية مع بلاد العرب الجنوبية ، وخاصة مع اليمن ، منذ ازمنة طويلة . واليمن كانت نقطة الاتصال بين الهند ومصر مثلاً منذ حول القرن الخامس عشر ق.م. ، ان يكن قبل ذلك . والذي كان يجذب التجار المصريين وغيرهم الى اليمن هو البخور. ذلك ان البخور كان يستعمل في هياكل ومعابد العالم القديم . وكانت حضرموت البلاد الوحيدة في العالم القديم التي كانت تنتجه. فكان لزاماً على الناس ان يحصلوا عليه منها ، وكانت اليمن مركز هذه التجارة ، ومنها تنتقل اما بطريق البحر الاحمر او بطريق الحجاز ومن ثم توزع في اقطار العالم القديم : مصر والعراق وسورية وآسيا الصغرى والعالم اليوناني وايطاليا وغيرها.

كانت ظفار ، في
حضرموت ، المكان التي تجمع فيه غلات البخور وتنقل عن طريق وادي حضرموت الى اليمن . واليمن هي التي توزعه . وعلى طريق البخور هذه قامت دول اليمن الكبيرة ، واحدة بعد اخرى : معن وسبأ وحمير. وعلى هذه الطريق ظهرت المدن الكبرى في الجنوب العربي لبلاد العرب .

لنتمكن من تصور الثراء الذي جلبته تجارة البخور للعرب ، يجب ان نعرف بعض الكميات التي كانت تنقل على هذه الطريق وتستهلك في معابد العالم القديم . فقد كان في هيكل القدس مثلا غرف مخصصة لخزن البخور . ونعرف ان أمون ارسل اليه في سنة واحدة في القرن الثاني عشر ق.م. ما زنته 2159 جرة و 304093 مكيال من البخور. واحرق كهنة بعل في بابل عشرة الاف وزنة من البخور في السنة الواحدة .ولما نظَم دارا الكبير امبراطوريته وعلاقاته مع التجار العرب كانت حصته في العام الواحد الف وزنة من البخور . وقد ارسل الاسكندر الكبير خمسمئة وزنة من البخور من غزة لما احتلها الى معلمه هدية .!. واذا أضفنا الى ذلك الجنازات وما كان يحرق فيها من هذا البخور العربي ادركنا مصدر هذه الثروة الكبيرة التي تمتعت اليمن بها .

على ان اليمن كانت ، فضلاً عن انها مركز الاتجار بالبخور ، مركز التجارة الهندية مع
البحر الابيض المتوسط وتقلبت هذه التجارة تبعا للدول التي كان من واجبها الاشراف على البحر الاحمر وما اليه . فنحن نرى مثلا انه لما استقر البطالسة في مصر ونظَموا شؤونها وانشأوا لهم اسطولا في البحر الاحمر ، نشطت التجارة كثيراً وامتدت المنشآت التجارية المصرية الى الشاطىء الافريقي الصومالي والى جزيرة سومطرى. ومن هناك كان يحمل الى مصر العاج والعبيد والصدف . وكم نقل الهلينيون من الفيلة التي كانت عدة جيوشهم في معاركهم ! ولمثل هذه المتاجر وغيرها حفر البطالسة الترعة التي كانت تصل النيل بالبحر الاحمر ، وأصلحوا الطرق على النيل وميناء برنيسي على البحر الاحمر . لكن لما ضعف شأن البطالسة افلتت تجارة البحر الاحمر من أيديهم واقتصر نقل المتاجر على طريق الحجاز البرية الى البتراء ومنها الى بقية الاسواق السورية وغيرها .

وأخيرا احتل الرومان
مصر وأعاد اغسطس السلم الى العالم الروماني وحافظ خلفاؤه عليه . وأدرك اغسطس قيمة البحر الاحمر في التجارة الرومانية الشرقية ، فأرسل حملة الى بلاد العرب بقصد احتلال اليمن . لكن الحملة فشلت . ذلك أن اغسطس امر غالوس ، القائد العام في مصر، بأن يسير ومعه عشرة الاف جندي فطلب من الانباط ان يمدوه بألف جندي وان يرشدوه في سيره . كذلك أمر اغسطس هيردوس ملك القدس ان يساعد غالوس في حملته . وقد تولى الوزير النبطي سيلوس مهمة التموين والارشاد.

قامت الحملة من ارزينوي ، وهي قرب
السويس الحديثة ، ونقل الجنود الى " لوكي كومي " على مقربة من ينبع ، اي عبر البحر الاحمر . ومن هنا بدأوا سفرا بريًا طويلا الى مأرب ، والمسافة تقرب من الفين وخمسمئة كيلومتر ، في بلاد لا يْعرف عنها شيء . بدأ الجيش السير من لوكي كومي في ربيع سنة 24 ق.م. فلقي صعوبات كبيرة لقلة الماء . واخيرا وصل الجيش الى نجران فحاصرها واحتلها ودمرها انتقاما لنفسه لما اصابه في الطريق. ثم التقى الرومان بجيش عربي الى الجنوب من نجران فانتصروا عليه . ويروي بعض من أرخ للحملة أن الرومان احتلوا مدينتين ، لعلهما براقش والبيضاء الحديثتان . وترك غالوس هناك حاميته وسار الى مريما وحاصرها ستة ايام . لكن الرومان اضطروا الى الانسحاب ، فارتدوا على اعقابهم ، ولم يبلغوا مأرب . ومريما تقع الى الجنوب الشرقي من مأرب . وهنا يبدو السوأل عن خطة غالوس . ولعل التفسير الوحيد لحركاته هو انه أراد الن يحيط باطراف اليمن قبل مهاجة القلب . فكانت النتيجة الفشل بعد سفر دام ستة اشهر.

الغريب أن غالوس عاد بنفس الطريق . ولعل السبب هو انه لم يكن لديه سفن تمكنه من العودة بحراً. وعند حدود المملكة النبطية نقل جنده عبر البحر الاحمر الى القصير ومنها الى قفط فالاسكندرية .

إتهم الرومان سيلوس ، الوزير النبطي ، بأنه غرر بهم عمدا لتظل التجارة بأيدي العرب . لذلك أعدم في روما بعد الحملة بمدة قصيرة . على أنه ، وإن كان اغسطس فشل في امتلاك اليمن ، فان النظام الذب أعيد الى مصر أدى الى انتعاش التجارة ، حتى اننا نجد أن سترابو يتحدث فيما بعد عن ميوس هرموس ، على البحر ، فيذكر أن مئة وعشرين سفينة سافرت منها في سنة واحدة الى الهند .

احتفظ العرب باحتكارهم لطريق التجارة الى اواسط القرن الاول للميلاد ، لما اهتدى هبالوس الى سر الرياح الموسمية ومواعيد هبوبها. عندئذ نفذ الغربيون الى مياه المحيط الهندي . لكن ذلك كان قليلا ، وظلَت تجارة البخور بأيدي العرب . وأدى اكتشاف سر الرياح الموسمية الى تنظيم السفر مباشرة . ففي توز / يوليو كانت السفن تقلع من مصر فتصل الى الميط الهندي والرياح الموسمية هي في اقوى هبوبها ، فتحملها الى الهند حيث تصل في شهر ايلول / سبتمبر ، ويقضي التجار شهرين هناك لبيع البضائع وتجهيز السفن بالبضاعة الجديدة ، ويبحرون في تشرين الثاني / نوفمبر فتنقلهم الرياح الموسمية الشتوية الى
عدن . وفي شباط / فبراير تكون المتاجر قد وصلت الى
الاسكندرية .

ترتب على هذا كله أن ازدادت كمبات المتاجرة المتبادلة بين الهند والعالم الروماني ، بحيث اصبح الكتاب الرومان ينعون على قومهم افراطهم في الاستمتاع بهذه الكماليات الغريبة . واستمرت الزيادة الى اوائل القرن الثالث للميلاد ، اذ اضطربت شؤون الامبراطورية الداخلية فاختلت تجارتها تبعا لذلك .

اما الموانىء التي كانت السفن تبحر منها وتعود اليها فهي : ارزينوي عند رأس خليج السويس وميوس هرموس في منتصف الشاطىء المصري وتبعد سبعة ايام عن قفط على النيل والثالثة برنيسي في طرف الولاية المصرية الجنوبية . وكل هذه الموانىء كانت مصرية . اما الانباط فقد كان لهم إيلة (
العقبة ) ولوكي كومي ، ومن هنا تنقل المتاجر الى
البتراء . وكانت هذه الطريق تغص بالمسافرين ، والقوفل المسافرة أقرب الى جيوش منها الى تجار بفعل ضخامتها. والظاهر ان جماعة من الرومان كانت تقيم في البتراء. وبعد احتلال الرومان لدولة الانباط اقاموا في لوكي كومي موظفا خاصا يجمع الضرائب المدفوعة عن السفن التي تأتي الميناء .

هذه كلها موانىء الشمال . اما في الجنوب فقد كان على الشاطىء الافريقي مدينة أدونيس حيث تحفظ منتوجات الحبشة واهمها العاج والجلود والاصداف والعبيد . وهنا كانت تبادل هذه المتاجر بما تحمله السفن من قماش
مصر وزجاجها وزيوت سورية وخمورها وسيوف وادوات اخرى كثيرة تأتي من جهات مختلفة . أما الشاطىء العربي ففيه مخا، ولعلها كانت أكبر الموانىء أهمية في تلك المتطقة . اما خارج البحر الاحمر فقد كانت عدن أكبر الموانىء المعروفة حتى حضرموت  .

جماع ما كان يتاجر به عن هذه الطريق ، التي عرفت بطريق البخور ، فهو الزيوت والاقمشة واللالىء والجواهر والارز والبهارات والعاج والخمور والطيوب والاصداف والفيلة .